هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية
(Howaida Saleh)
الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 08:33
المحور:
الادب والفن
هل يمكن أن تكون اللغة عائقا أمام وصول المفاهيم الأساسية لجمهور القراء؟
في قلب الجدل الدائر حول مفاهيم الجندر والهوية الجنسية، تبرز أعمال جوديث بتلر كأحد الركائز الأساسية في الفكر النسوي ما بعد الحداثي. لا سيما كتابها الشهير "قلق الجندر" الذي شكّل نقطة تحول في التفكير حول الجنس والنوع الاجتماعي، حيث يدعو إلى إعادة النظر في المفاهيم التقليدية للجنس والهوية، ويدافع عن فكرة أن الهوية الجندرية ليست ثابتة أو فطرية، بل هي بناء اجتماعي يتم تشكيله من خلال الأداء والتكرار.
لكن، رغم الأثر الكبير لهذا الكتاب على النظرية النسوية المعاصرة، يظل هناك الكثير من التساؤلات حول أسلوب بتلر اللغوي الذي تتسم به نصوصها، مما يثير إشكالات حقيقية بشأن قدرتها على إيصال أفكارها بوضوح. فكما هو الحال مع الكثير من أعمال الفكر ما بعد الحداثي، يصبح الأسلوب ذاته أداة مرادفة للخطاب الفلسفي المعقد، الذي يصعب على الكثير من القراء فهمه. وليس المقصود هنا أن الأفكار نفسها معقدة فقط، بل إن اللغة والأسلوب يمكن أن يعيقا التواصل الفعال مع الجمهور المستهدف.
وفي هذا السياق، يمكن أن يُلاحظ أن "الأكاديمية ما بعد الحداثية"، التي تعتمد على لغة متخصصة ومعقدة، باتت تشكل عائقًا أمام فهم الفكرة الأساسية. فكما نجد في نصوص بتلر، تتكرر مصطلحات مثل "اقتصاد دلالي مغلق فالوذكوري"، "مصفوفة مغايرة الجنس"، و"تيلوس معياري للإغلاق التعريفي"، وهي عبارات غامضة وتكثر فيها التورية التي يمكن أن تجعل القارئ في حالة من الإرباك. مثل هذه الأساليب اللغوية، بالرغم من أن بعضها قد يُفترض أنه يعكس عمقًا فكريًا، لا يُنتج معرفة حقيقية، بل يزيد من الحواجز بين الكاتب والمتلقي، ويعزز انفصال النص عن الواقع.
فلو قمنا بتفكيك جملة " اقتصاد دلالي مغلق فالو ذكوري" نكتشف أن قولها " اقتصاد دلالي" تشير إلى الطريقة التي يتم بها إنتاج وتبادل المعاني داخل خطاب لغة معينة. بمعنى آخر، هو النظام الذي من خلاله يتم تحديد وتوزيع المعاني بين الكلمات والعبارات. في السياقات الفلسفية والنقدية قد يشير إلى كيفية بناء المعنى داخل شبكة من المفاهيم والعلاقات التي تؤثر على كيفية فهمنا للعالم.
أما مصطلح مغلق، فيشير إلى أن النظام أو الاقتصاد الدلالي غير مرن أو محدود. بمعنى أنه لا يسمح بالتغيير أو التعديل بسهولة. قد يُفهم أنه لا يوجد مجال لبدء تفسيرات جديدة أو متجددة، بل يعيد إنتاج نفسه بشكل ثابت.
في حين أن مصطلح فالوذكوري يتكون من مقطعين" فالو" الذي يرتبط بالرمز الذكوري، أي القضيب) وذكوري الذي يشير إلى ما هو مخصص للجنس الذكوري. ويشير المصطلح كله إلى التصور الثقافي الذي يضع الذكورة في موقع المركز والهيمنة. في هذا السياق يُفترض لأن المجتمع أو اللغة أو الاقتصاد الدلالي يظل متحيزا نحو الهيمنة الذكورية ويعيد إنتاج القيم الذكورية كأنها القيم الأساسية والمقبولة.
إذن، الجملة "اقتصاد دلالي مغلق فالوذكوري" تعني أن هناك نظامًا من المعاني أو المفاهيم التي تعمل ضمن حدود مغلقة، حيث يتم إعادة إنتاج القيم والمعاني التي تفضل وتدعم الهيمنة الذكورية، وبالتالي تعيق أو تمنع ظهور معاني جديدة أو بديلة قد تتحدى هذه الهيمنة.
والجدل الأكبر يأتي من دفاع بتلر عن هذا النوع من الكتابة، إذ تقول في مقدمة الطبعة الجديدة: "من الخطأ الظن بأن القواعد اللغوية المتداولة هي الوسيط الأفضل للتعبير عن رؤى راديكالية، نظرًا لما تفرضه القواعد من قيود على الفكر، بل على إمكانية التفكير نفسها". إلا أن هذا الادعاء يظل محل تساؤل، إذ يشكك بعض اللغويين في وجود علاقة حتمية بين قواعد اللغة وحدود التفكير، مما يثير تساؤلات حول مدى فاعلية هذه اللغة الغامضة في إيصال الأفكار الثورية للقراء بشكل أوسع. ففي النهاية، ليس من الضروري أن تُبسط الأفكار حتى تصبح مبتذلة، بل إن الوضوح يمكن أن يعزز من تأثير الأفكار ويسهم في انتشارها بشكل أوسع.
الجندر بوصفه أداءً اجتماعيًا
أطروحة بتلر الأساسية في "قلق الجندر" تتمحور حول تفكيك الثنائية بين الجنس والجندر، فهي لا ترى الهوية الجندرية تعتبرها سمة فطرية أو ثابتة تنبع من الجسد البيولوجي، بل ترى أنها بناء اجتماعي يُنتج ويُعاد إنتاجه عبر الأداء الاجتماعي.
وفقًا لهذا الفهم، لا توجد هوية جندرية "سابقة" للتعبير عنها، بل الجندر يتجسد من خلال الأفعال والسلوكيات، مثل اللغة، والأزياء، والتمثيلات الثقافية. كما تكتب بتلر: "لا توجد هوية جندرية خلف تعبيرات الجندر، بل هذه التعبيرات هي التي تُنتج ما يبدو هوية".
هذه الفكرة، رغم تعقيدها المفهومي، تمثل انقلابًا في التفكير الفلسفي حول الهوية الذاتية، إذ تقوض التصور التقليدي بأن الذات الجندرية هي كائن ثابت ينشأ من الداخل، لتضع بدلاً من ذلك الفعل نفسه في مكانه بوصفه منتجًا لهذا الكائن. الجندر، بناءً على هذا الفهم، يصبح مجرد عرض دائم غير ثابت، وليس ماهية ثابتة.
وتتطرق بتلر في عملها أيضًا إلى العلاقة بين الجندر والرغبة الجنسية. فهي تشدد على أن الرغبة الجنسية لا تنبع بالضرورة من الجسد كوجود مادي مستقل، بل هي نتاج تمثلات اجتماعية ثقافية للجسد. على سبيل المثال، تُظهر كيف أن مناطق الإثارة الجسدية ليست بطبيعتها "جنسية"، بل تصبح كذلك عندما تتوافق مع التصورات الاجتماعية التي تضع معايير لأجساد معينة على أنها "أنثوية" أو "ذكورية". ومع ذلك، فإن هذا التصور قد يُبسط أكثر من اللازم، حيث أن التفرقة بين الرغبة الجنسية وبين الاستجابة الجسدية الفيزيولوجية (مثل اللذة أو الألم) يحتاج إلى تدقيق أكبر في تحليل التجربة الجسدية.
ومن الجدير بالذكر أن هناك توترًا يظهر في فكر بتلر عندما تحاول تجاوز الجسد بوصفه حقيقة مادية لصالح خطاب يتعامل معه كـ "أثر اجتماعي". فحينما يتم تجاوز هذا الجانب المادي، قد يغفل هذا الخطاب الفروقات الحقيقية بين التجربة الجسدية للرغبة والإحساس الجسدي للذة. وهذا التوتر يصبح أكثر إلحاحًا في حالات مثل الاعتداء الجنسي، حيث يتم خلط الرغبة بالكره، والتمتع بالألم.
النسوية، العبور الجندري، وأزمة الحدود
في الجزء الأخير من "قلق الجندر"، تقدم بتلر نقدًا عميقًا للمفاهيم الأساسية التي شكلت الفكرة النسوية الكلاسيكية. بينما كانت النسويات في الموجات الأولى يسعين إلى تفكيك الأدوار الجندرية باعتبارها منتجات اجتماعية مفروضة، تذهب بتلر إلى أبعد من ذلك عندما تشكك في مفهوم "الجنس البيولوجي" نفسه، معتبرة إياه مجرد "خيال تنظيمي" أو "أثرًا ناتجًا عن خطاب السلطة".
تثير هذه الرؤية جدلاً حادًا، لا سيما بين النسويات من الجيل الثاني، اللاتي ينظرن إلى أن هذه التفكيكات قد تهدد الوحدة الأساسية للنسوية نفسها. بالنسبة لهن، من الصعب بناء تضامن سياسي بين النساء إذا كانت الهوية الجندرية تصبح غير قابلة للتحديد، وهو ما يثير تساؤلات حول كيفية المطالبة بحقوق النساء في ظل غياب تعريف ثابت للمرأة.
وفيما يتعلق بقضية العبور الجندري، تدافع بتلر عن حق الأفراد في التعبير عن هويتهم الجندرية بحرية، قائلة إنه من الخطأ اعتبار التحولات الجندرية بمثابة تكرار للنظام الأبوي. لكن في الوقت نفسه، يبقى هناك توتر عملي بين الهوية الجندرية الفردية وبين المتطلبات التنظيمية للمجتمع. فعلى سبيل المثال، كيف يتم التعامل مع قضايا مثل الرعاية الطبية والدعم النفسي عندما تتعلق بسؤال "من هي المرأة؟" هذا السؤال يصبح ذو طابع سياسي ومؤسساتي، مما يخلق توترًا بين الحرية الفردية وضرورة التنظيم الاجتماعي.
بين التحرير والتعقيد
من المؤكد أن "قلق الجندر" قد شكل تحولًا في الفكر النسوي والجندر، إلا أن الأسلوب اللغوي الذي اعتمدته بتلر قد يحد من تأثيرها على جمهور أوسع. رغم أن الكتاب قد فتح الأفق لفهم أعمق وأكثر ديناميكية للجندر والهويات الجندرية، فإن الحاجة إلى مراجعة اللغة التي تستخدمها بتلر تظل ضرورة من أجل تيسير وصول أفكارها إلى أكبر عدد من القراء.
في النهاية، يعد "قلق الجندر" كتابًا مركزيًا في النظرية النسوية ما بعد الحداثية، لكنه يحتاج إلى مراجعة لغوية تساهم في تعزيز تأثيره الفكري والاجتماعي، لا سيما في ظل التحديات التي يفرضها الأسلوب المعقد على التواصل مع القراء.
#هويدا_صالح (هاشتاغ)
Howaida_Saleh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟