أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - الهرم القيمي والتربية في بردية إنسنجر: من حكمة المصري القديم إلى علم النفس الحديث















المزيد.....

الهرم القيمي والتربية في بردية إنسنجر: من حكمة المصري القديم إلى علم النفس الحديث


هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية

(Howaida Saleh)


الحوار المتمدن-العدد: 8505 - 2025 / 10 / 24 - 00:13
المحور: الادب والفن
    


د. هويدا صالح

إن بردية إنسنجر (Papyrus Insinger) ليست نصًا تربويًا وأخلاقيًا مصريًا من العصر البطلمي (القرن الأول ق.م) فقط، بل هي تمثل خلاصة الفكر القيمي في مصر القديمة. ومن المهم لقارئ اليوم في عصر العلومة والسوشيال ميديا أن يتعرف على فلسفة الهرم القيمي في البردية؛ من أجل التعرف على التعاليم التربوية المتعلقة بالعقاب، الضبط، والرحمة، مع ربطها بنظريات الفلسفة وعلم النفس التربوي الحديث. لنخلص إلى أن الحكمة المصرية القديمة سبقت في جوهرها التصورات الحديثة عن التربية الأخلاقية، من ميشيل فوكو إلى كانط ودوركايم.
تُعد بردية إنسنجر من أواخر النصوص الأخلاقية التي حفظت صوت الحكمة المصرية في أواخر العصر البطلمي، وقد دوِّنت باللغة الديموطيقية. واللغة الديموطيقية هي المرحلة الثالثة من تطور اللغة المصرية القديمة، بعد الهيروغليفية والهيراطيقية، وهي تمثل الكتابة الشعبية أو لغة الحياة اليومية للمصريين في العصور المتأخرة.
واحتوت البردية على نحو خمسةٍ وعشرين فصلًا من التعاليم والمواعظ الأخلاقية التي تنظم علاقة الإنسان بالكون والمجتمع والأسرة. وتُقدّم رؤية تربوية متكاملة تجعل من القيم الأخلاقية نظامًا هرميًا يتدرج من الإلهي إلى الإنساني، ومن الكوني إلى الفردي، بحيث يصبح كل سلوك إنساني انعكاسًا للنظام الإلهي الكامن في مفهوم "ماعت" (العدالة والنظام الكوني).
الهرم القيمي في البردية:
يُبنى الوعي الأخلاقي في بردية إنسنجر على ثلاث مستويات متراتبة:
1. العدالة الإلهية (ماعت): المبدأ الأعلى الذي به يستقيم الكون.
تقول البردية:
"ما يضعه الإله في قلب العاقل، لا يضله أحد" (col. 2, line 6)
هذا النص يربط بين الضمير الإنساني والعدالة الإلهية، مؤكدًا أن الأخلاق نابعة من قانون داخلي لا من خوف خارجي.
2. الحكمة العملية: تجسيد ماعت في سلوك الفرد.
"الحكيم لا يُسرف في كلامه، ولا يطلب ما لا يستحق". (col. 3, line 9)
فالحكمة في بردية إنسنجر ليست معرفة نظرية بل فنّ التوازن وضبط النفس.
3. القيم الاجتماعية والأسرية: التطبيق الأخلاقي في العلاقات اليومية.
"عاقب ابنك في صغره لئلا يبكيك في كبره". (col. 6, line 8)
فالعقاب في فلسفة البردية حماية للابن من نفسه، وليس إذلالًا له.
3. التربية كحماية لا كقهر:
تظهر البردية وعيًا مبكرًا بأن التربية هي فعل ضبط رحيم، حيث تقول:
"ليكن تأديبك برحمة، لأن اليد القاسية تزرع الكراهية في القلب" (col. 7, line 3)
هذا المفهوم يتقاطع مع ما طرحه ميشيل فوكو (1975) في تحليله لآليات السلطة التأديبية التي تهدف إلى تشكيل الذات لا قمعها. كما يلتقي مع ما قدّمه ألبرت باندورا (1977) في نظرية "التعلّم بالملاحظة" التي ترى أن النموذج السلوكي الهادئ أكثر فاعلية من العقاب البدني في بناء الضمير الأخلاقي.
من ثمّ، فإن إنسنجر يعبّر مبكرًا عن جوهر التربية الحديثة: "تكوين الضمير الداخلي بدل فرض الطاعة الخارجية".
4. توازن السلطة والحنان:
"لا تترك ولدك يفعل ما يشاء، فعينك التي تراه تصنع له حدودًا". (col. 5, line 10)
هذا التوجيه يعبّر عن وعي دقيق بتوازن السلطة والحنان، وهو ما يشبه ما توصل إليه "جون بولبي" (1969) في نظريته حول "التعلق الآمن" (Secure Attachment)، حيث إن حضور الأبوين المراقب والداعم يمنح الطفل شعورًا بالاستقرار النفسي ويحدّ من السلوك الفوضوي.
كذلك نجد عند "إريك إريكسون" (1950) أن الطفولة المبكرة تقوم على توازن بين الحرية والضبط، وهي الفكرة ذاتها التي صاغها المصري القديم ببساطة رمزية في نصه عن "العين التي تضع الحدود".
5. الحكمة وضبط النفس:
"الحكيم لا يُسرف في كلامه". (col. 3, line 9)
في هذا القول تتجلى فكرة ضبط الانفعال، وهي القيمة التي جعلها الفلاسفة الرواقيون (مثل سينيكا وماركوس أوريليوس) جوهر الفضيلة، إذ لا يبلغ الإنسان الحكمة إلا حين يسيطر على رغباته.
وفي علم النفس الإيجابي الحديث، يرى "مارتن سليجمان" (2002) أن "التحكم في الذات" أحد أعمدة السعادة والنجاح الأخلاقي.
وبذلك تبدو بردية إنسنجر وكأنها تقدم صيغة بدائية لما نعرفه اليوم باسم "الذكاء الانفعالي" (Emotional Intelligence).
6. البعد الاجتماعي للتربية:
"الابن الذي يُهمل أبوه تأديبه، يُصبح عبئًا عليه وعلى الناس". (col. 4, line 5)
هذه الحكمة تتجاوز البعد العائلي لتؤكد أن صلاح الابن ضرورة مجتمعية، وهي الرؤية نفسها التي عبّر عنها "إميل دوركايم " (1922) حين عدّ التربية "وسيلة المجتمع للحفاظ على استمراره الأخلاقي"، و"جون ديوي" (1916) الذي رأى أن المدرسة "مجتمع مصغّر يُعلّم القيم من خلال الممارسة اليومية".
وهكذا فإن التربية في تصور إنسنجر ليست شأنًا شخصيًا، بل مسؤولية جماعية تهدف إلى حفظ "ماعت" في المجتمع.
7. الضمير كقانون داخلي:
في البردية نقرأ أيضا:
"ما يضعه الإله في قلب العاقل، لا يضله أحد". (col. 2, line 6)
يتجلى مبدأ الضمير الأخلاقي بوصفه البوصلة الداخلية التي تحكم السلوك، وهو ما يشبه ما صاغه "إيمانويل كانط" (1788) في عبارته الشهيرة: "القانون الأخلاقي في داخلي، والسماء المرصعة فوقي".
فكما جعل كانط الأخلاق نابعة من الإرادة العاقلة، جعل إنسنجر العدالة مغروسة في القلب، أي أن الإنسان مدعو لاكتشاف القانون الأخلاقي لا لاكتسابه خارجيًا.


تؤكد بردية إنسنجر أن الفكر التربوي المصري كان فلسفيًا في جوهره، إذ رأى في التربية "عملية كونية" تهدف إلى استعادة النظام الإلهي في الإنسان والمجتمع.
و تظل بردية إنسنجر نصًا تربويًا خالدًا، يحمل رسالة تتجاوز العصور: أن "العدل والحكمة والرحمة" هي القيم التي تحفظ الإنسان من التفسخ، وتجعله في انسجام مع نفسه ومع الكون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Bandura, A. (1977). *Social Learning Theory*. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall.
Bowlby, J. (1969). *Attachment and Loss, Vol. 1: Attachment*. New York: Basic Books.
Dewey, J. (1916). *Democracy and Education*. New York: Macmillan.
Durkheim, É. (1922). *Education and Sociology*. Paris: PUF.
Foucault, M. (1975). *Surveiller et punir: Naissance de la prison*. Paris: Gallimard.
Griffith, F. Ll. (1926). *The Instruction of Papyrus Insinger*. Oxford: Oxford University Press.
Kant, I. (1788). *Critique of Practical Reason*. Hamburg: Felix Meiner Verlag.
Lichtheim, M. (1980). *Ancient Egyptian Literature, Vol. III: The Late Period*. Berkeley: University of California Press.
Seligman, M. (2002). *Authentic Happiness*. New York: Free Press



#هويدا_صالح (هاشتاغ)       Howaida_Saleh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دراسات ما بعد الاستعمار ودحض دعوات الأفروسنتريك
- رائدات بين الظل والنور: إيفا حبيب المصري.. تقاطعات نسوية في ...
- رائدات بين الظل والنور.. عميدة الصحفيات المصريات، و-ثورة في ...
- رائدات بين الظل والنور: شريفة رياض(7) مواجهة الاستعمار والمس ...
- رائدات بين الظل والنور.. إحسان القوصي(8) و- المرأة والمجتمع-
- رائدات بين الظل والنور ماري كحيل(6) رائدة العمل النسوي والحو ...
- رائدات في الظل والنور..إستر فانوس شعلة التنوير (5).
- رائدات بين الظل والنور: حواء إدريس(4)
- رائدات بين الظل والنور: لطفية النادي رائدة الطيران المصري(3)
- -رائدات في الظل والنور: سردية مصرية( 1) نبوية موسى الرائدة ا ...
- رائدات في الظل والنور ..(2) سيزا النبراوي صوت المرأة في زمن ...
- -رائدات في الظل والنور: سردية مصرية 1 (نبوية موسى)
- ملامح قصيدة ما بعد الحداثة في ديوان- كل هذا الدفء في عيني مر ...
- الذكاء الاصطناعي والحالة الإنسانية
- تأثير التكنولوجيا على التعليم: بين الثورة والتحديات
- في الرد على مغالطات برنامج -الدحيح-، حلقة - نهاية الفراعنة-
- إشكالية الدين والسياسة في فلسفة ابن رشد
- تأسيس جماليات عربية جديدة: قراءة في تجاوز المركزيات الغربية
- النسق الثقافي بين بيير بورديو وإدوارد سعيد وعبد الله الغذامي
- -يوم آخر للقتل- من حكايات الجنيات إلى منصات السوشيال ميديا


المزيد.....




- التشكيلي سلمان الأمير: كيف تتجلى العمارة في لوحات نابضة بالف ...
- سرديات العنف والذاكرة في التاريخ المفروض
- سينما الجرأة.. أفلام غيّرت التاريخ قبل أن يكتبه السياسيون
- الذائقة الفنية للجيل -زد-: الصداقة تتفوق على الرومانسية.. ور ...
- الشاغور في دمشق.. استرخاء التاريخ وسحر الأزقّة
- توبا بيوكوستن تتألق بالأسود من جورج حبيقة في إطلاق فيلم -الس ...
- رنا رئيس في مهرجان -الجونة السينمائي- بعد تجاوز أزمتها الصحي ...
- افتتاح معرض -قصائد عبر الحدود- في كتارا لتعزيز التفاهم الثقا ...
- مشاركة 1255 دار نشر من 49 دولة في الصالون الدولي للكتاب بالج ...
- بقي 3 أشهر على الإعلان عن القائمة النهائية.. من هم المرشحون ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - الهرم القيمي والتربية في بردية إنسنجر: من حكمة المصري القديم إلى علم النفس الحديث