|
|
الهيمنة الأميركية وصكوك الاستسلام الجديدة: من أمن إسرائيل إلى تفكيك الشرق العربي
خورشيد الحسين
الحوار المتمدن-العدد: 8513 - 2025 / 11 / 1 - 21:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل تكشف تصريحات ترامب ومبعوثيه عن النوايا الحقيقية لإدارة أميركا في الشرق الأوسط؟ هل تتلاقى مواقف الإدارة الأميركية مع السياسات الإسرائيلية حول لبنان وسوريا والضفة وغزة؟ هل يدرك العرب، كشعوب، الخطر الذي يحيق بهم من هذه السياسات؟ هل يرى العالم، بمؤسساته الدولية، كيف تُنقض تعهدات إسرائيل وتغطيها واشنطن؟ ما السيناريوهات المحتملة إذا استمر هذا المسار دون مقاومة فعلية من الأمة العربية؟ ما يجري في المنطقة اليوم ليس مجرد سلسلة من الأحداث المتفرقة، بل مشروع متكامل يرمي إلى تغيير وجه الشرق العربي بأسره، من فلسطين إلى الخليج، مرورًا بلبنان وسوريا والعراق. إنه مشروع هندسة سياسية وجيوستراتيجية تديره الولايات المتحدة، وتُنفّذه إسرائيل بوصفها رأس الحربة وأداة السيطرة الأكثر فاعلية، فيما تُكمل الأنظمة العربية المنهكة أو المشتراة المشهد بتواطؤ معلن أو صمت مذعن.
منذ لحظة ما بعد الحرب الباردة، تحركت واشنطن بخطوات مدروسة نحو هدفها الأبعد: إعادة بناء المنطقة وفق منطق الهيمنة لا الشراكة، والاستسلام لا السلام.
فأمن إسرائيل تحوّل إلى عقيدة مقدسة في السياسة الأميركية، ومفهوم “السلام” بات غطاءً لفرض الوقائع وتصفية الحقوق، بينما تساق الأنظمة العربية نحو معاهدات تُشبه صكوك الإذعان أكثر مما تشبه اتفاقات الدول الحرة.
لكن ما تكشفه اليوم تصريحات دونالد ترامب وإدارته ليس جديدًا في جوهره، إنما هو الإعلان الصريح لما كان يُدار طيلة عقود بلغة دبلوماسية ناعمة. فالرجل لا يوارب حين يقول إن أمن إسرائيل الأبدي هو جوهر سياسات واشنطن في الشرق الأوسط، وإن على حلفائه العرب أن يكونوا شركاء في “إعادة تأهيل” غزة، وضبط إيران، واحتواء أي مقاومة تخرج عن الخط الأميركي.
إنها الرؤية ذاتها التي بشّر بها المحافظون الجدد قبل عقدين، ولكن بثوبٍ أكثر جرأة ووقاحة.
من السلام إلى الوصاية
يُراد للمنطقة أن تدخل في مرحلة “سلام دائم” لا ينهي الصراع، بل يؤبّده بشكل جديد، عبر نظام إقليمي خاضع للرقابة الأميركية الإسرائيلية.
فـ”الشرق الأوسط الجديد” الذي روّجت له كوندوليزا رايس عام 2006 لم يكن مجرّد شعار، بل مشروعًا تفصيليًا لإعادة توزيع النفوذ، وتفكيك المجتمعات العربية على أساس الطوائف والإثنيات، بما يجعل إسرائيل المركزَ الوحيد القادر على أداء وظيفة “الاستقرار”.
ومع كل خطوة “تسوية”، كانت تُرسم في الخفاء خريطة جديدة من الخضوع.
فمن اتفاقيات التطبيع إلى ترتيبات الأمن البحري، ومن “إعادة إعمار غزة” إلى “ترسيم الحدود مع لبنان”، كلها حلقات في سلسلة واحدة هدفها النهائي: تصفية القضية الفلسطينية، وتحويل المقاومة إلى ملف أمني عربي بإدارة أميركية.
من الهيمنة إلى الخراب الممنهج
إن ما نراه اليوم من انهيار اقتصادي واجتماعي في المنطقة ليس عرضًا جانبيًا، بل جزءٌ من الخطة الكبرى.
فالتفتيت، والتجويع، والإفقار، وإضعاف الدول المركزية (مصر، سوريا، العراق، لبنان)، هي أدوات متعمدة لضمان السيطرة على القرار العربي من بوابة الحاجة والعجز.
أما الثروات — من نفط وغاز وممرات بحرية — فهي محور التنافس الحقيقي في “صراع الحضارات” الذي تعلنه واشنطن صراحة.
ولأن الهيمنة لا تكتمل من دون غطاء أخلاقي، فقد تولّت المنظمات الدولية والمؤسسات الإعلامية الكبرى تبرير القمع الإسرائيلي باسم “حق الدفاع عن النفس”، وتغطية الجرائم الأميركية باعتبارها “حربًا على الإرهاب”.
في حين يُترك الفلسطيني والعربي والمسلم أعزل في مواجهة آلةٍ إعلامية لا تقل فتكًا عن المدفع.
ما الذي تبقّى إذن؟
تبقّى الوعي، وهو آخر ما يمكن أن تملكه الشعوب وأول ما تسعى القوى الكبرى لانتزاعه منها.
تبقّى المقاومة، لا كسلاح فقط، بل كهوية فكرية ووجودية تعيد تعريف معنى العروبة والإسلام والحرية.
وتبقى فلسطين، الجرح الذي لم يُرد له أن يندمل، لكنها أيضًا الشرارة التي تذكّر الأمة بأنها لم تمت بعد، وأن مشروعها النهضوي ما زال ممكنًا إن امتلكت الوعي والإرادة.
الهدف من هذا الملف
لا يهدف هذا الملف إلى البكاء على الأطلال، بل إلى تفكيك بنية المشروع الأميركي الإسرائيلي، وقراءة تحولاته الفكرية والسياسية، واستكشاف سبل المواجهة الممكنة، فكرًا وواقعًا.
وهو دعوة مفتوحة إلى كل باحثٍ ومفكرٍ وصاحب ضميرٍ في العالم العربي كي يشارك في إعادة بناء الرؤية الحضارية للأمة، بعيدًا عن الاصطفافات الضيقة، لأن المعركة لم تعد معركة حدود، بل معركة بقاء وهوية.
الفصل الأول: ترامب وإدارة الصراع
في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، لم يعد هناك ما يُسمّى بسياسة غامضة أو مواربة. تصريحات دونالد ترامب ومبعوثيه تكشف، بوضوح، أن الإدارة الأميركية تعمل على فرض تغييرات جذرية في المنطقة بما يخدم أهداف إسرائيلية بالدرجة الأولى، وأمريكية بالدرجة الثانية، على حساب مصالح الشعوب العربية.
ما نراه اليوم ليس صراعًا محليًا أو إقليميًا عابرًا، بل جزء من خطة شاملة لإعادة رسم المنطقة، تشمل لبنان وسوريا والضفة وغزة، وتهدف إلى:
ضمان أمن إسرائيل إلى الأبد، وإلغاء أي فكرة لدولة فلسطينية أو حتى حقوق مدنية للفلسطينيين.
تفتيت المنطقة واحتواء أنظمتها عبر معاهدات سلام تقيّدها، وتحوّلها إلى شركاء صامتين في مشروع الهيمنة.
السيطرة على الثروات والممرات الاستراتيجية لتحقيق النصر النهائي في ما يسمّى “صراع الحضارات”.
استراتيجيات الإدارة الأميركية
ترامب لا يكتفي بالدعم السرّي لإسرائيل، بل يعلن صراحة أن أي خطوة لضبط المقاومة أو لمواجهة إيران ستكون بدعم أميركي كامل، بما في ذلك تدخلات عسكرية محددة في غزة أو مناطق حساسة أخرى.
هناك اتفاق ضمني ومعلن بين البيت الأبيض وإسرائيل على إدارة الشرق الأوسط بشكل يخدم الأمن الإسرائيلي أولا. يشمل هذا التوافق التحكم في الحدود، والسيطرة على الموارد، ومنع أي محاولات فلسطينية لإقامة دولة أو حكومة مستقلة.
الحلفاء العرب، سواء أكانوا متواكئين أو شركاء، يشاركون في “إعادة تأهيل” المنطقة حسب الخطط الأميركية الإسرائيلية. ترامب يعلن استعداد الحلفاء لدخول غزة، وفرض سياسات أمنية وميدانية تضمن مصالح الاحتلال.
أثر غياب الدور العربي الفاعل
غياب الرد العربي الفاعل يزيد من عمق الأزمة. الأنظمة العربية، التي غالبًا ما تتسم بالضعف أو الانقسام، تُركت لتكون أدوات ضمنية للسياسات الأميركية والإسرائيلية.
كل خطوة للسلام العربي–الإسرائيلي تتحوّل إلى صك استسلام سياسي.
كل تحرك شعبي لمواجهة الاحتلال يُقمع أو يُحاصر.
المواطن العربي يُترك في مواجهة قرارات لا علاقة له بها، بينما الحكومات تُسجل موقف الصمت أو التواطؤ.
النتائج المباشرة
1. تعزيز السيطرة الإسرائيلية: إسرائيل تستفيد من تغطية أميركية كاملة، وتفرض قواعدها الأمنية والسياسية دون رقابة فعالة.
2. توسيع النفوذ الأميركي: واشنطن تضمن موقعًا استراتيجيًا، وقدرة على التحكم في الثروات والطاقة والحدود، مستفيدة من ضعف الأنظمة العربية.
3. تعميق أزمة الشعوب العربية: الشعب الفلسطيني، اللبناني، السوري، والعراقي يعيش في مواجهة إفقار، حصار، وضغط مستمر، بينما يتم تحويل حقوقه الوطنية إلى أوراق تفاوضية بيد القوى الكبرى.
الفصل الثاني: التفتيت والتحكم بالأنظمة العربية
واشنطن وإسرائيل لا يكتفيان بالتحكم في الأرض فقط، بل يسعيان إلى إعادة هندسة الأنظمة العربية نفسها، بحيث تتحوّل من فاعل مستقل إلى تابع خاضع للمشاريع الغربية الإسرائيلية.
التفتيت هنا ليس عسكريًا فقط، بل سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا. كل خطوة سلام، وكل اتفاقية اقتصادية، وحتى كل مؤتمر عربي دولي، هو جزء من سلسلة أدوات لإخضاع القرار العربي.
السيطرة على القرار السياسي
الأنظمة العربية، بسبب ضعفها الداخلي وانقساماتها الطائفية والسياسية، أصبحت أدوات يسهل إدارتها:
معاهدات السلام العربية–الإسرائيلية تقيّد حرية القرار، وتحول الحكومات إلى شركاء صامتين في تنفيذ السياسة الإسرائيلية.
الدعم الاقتصادي والمالي الأميركي والغربي يُحوّل إلى وسيلة ضغط، وليس تعاونًا حقيقيًا.
سياسات “الاستقرار مقابل التمويل” تجعل الحكومات مستعدة لقبول أي شروط حتى لو كانت ضد مصالح شعوبها.
التفتيت الاجتماعي والطائفي
واشنطن وإسرائيل يواصلان استثمار الانقسامات الداخلية:
في لبنان، يتم تفكيك القرار الوطني عبر التركيز على الطوائف والمذهبية.
في سوريا، بعد سنوات الصراع، أصبح كل طرف يرزح تحت ضغط نفوذ خارجي، بينما تُحرم الدولة من استعادة سيادتها الكاملة.
في فلسطين، تُقسم غزة عن الضفة، وتحوّل السلطة الفلسطينية إلى مجرد إدارة محلية محدودة الصلاحيات.
والنتيجة:
1. أنظمة عربية مقيّدة: لا يمكن لأي حكومة عربية أن تتحرك بحرية ضد أي سياسة أميركية أو إسرائيلية في المنطقة.
2. شعوب تحت الحصار: المواطن العربي أصبح رهينة بين ضعف الدولة، وضغط الاحتلال، وتنافس الحلفاء الإقليميين.
3. استدامة الأزمات: أي تحسن طفيف في الأوضاع يُقابل بتدهور جديد، لضمان استمرار الهيمنة.
لفصل الثالث: السيطرة على الثروات وصراع الحضارات
منذ أن وطأت الجيوش الأميركية أرض العراق عام 2003، بدا أن السيطرة على منابع الطاقة ليست مجرد هدف اقتصادي، بل مشروع حضاري يعيد تعريف النفوذ العالمي. لم يكن النفط في العراق، ولا الغاز في سوريا، ولا الثروات الطبيعية في إيران مجرد موارد اقتصادية، بل عناصر مركزية في تشكيل موازين القوى العالمية الجديدة. فالولايات المتحدة لم تُخف يوماً أن استقرارها الداخلي مرتبط ببقاء منظومتها الطاقوية تحت السيطرة، وأن “الشرق الأوسط” ليس مجرد مساحة جغرافية، بل هو عقدة الشرايين التي تغذي الحضارة الغربية بطاقة البقاء.
ومع تصاعد الدور الصيني في الأسواق العالمية، بدا أن واشنطن تنظر إلى الصراع مع بكين من خلال “نافذة الطاقة”، لا من خلال خطوط الإنتاج فحسب. فالممرات التي تربط الخليج بالبحر الأحمر والمتوسط باتت بالنسبة لها خطوط حياة استراتيجية، لذلك جاءت مشاريعها اللاحقة تحت عنوان “إعادة رسم الخريطة”، أي خريطة السيطرة على الموارد والمعابر.
لقد أرادت واشنطن أن تحتكر الطاقة والمعرفة والسلاح معاً. وفي هذا السياق، تحوّل الكيان الإسرائيلي إلى قاعدة متقدمة في صراع السيطرة، لا على الأرض فحسب، بل على العقل والذاكرة والمستقبل. فالتفوق التقني والعسكري الإسرائيلي لم يكن نتيجة عبقرية ذاتية فحسب، بل ثمرة تخطيط أميركي يهدف إلى تحويل “إسرائيل” إلى المركز الصناعي والأمني الذي يضمن التفوق الحضاري للغرب في وجه الشرق المتصاعد.
إيران، من جهتها، لم تقف مكتوفة الأيدي، فقد أدركت مبكراً أن من يملك مفاتيح الطاقة يملك مفاتيح القرار، فمدّت خطوط نفوذها من الخليج إلى المتوسط، وربطت حضورها العسكري بشبكة مصالح إقليمية تحميها من العزلة. لكن الضربات الإسرائيلية – الأميركية الأخيرة جاءت لتقول بوضوح: إن منطق السيطرة لا يتسع لأكثر من سيد واحد.
من هنا يمكن فهم أن الحرب على إيران ليست مجرد صراع نووي، بل فصل من فصول حرب الحضارات الجديدة، التي تخاض بأدوات اقتصادية وأمنية وإعلامية، وبأقنعة متعددة تُخفي وراءها جوهر الهيمنة. فالغرب، وهو يتحدث عن “حرية الشعوب” و”أمن الممرات”، لا يفعل سوى حماية مشروعه الأبدي في السيطرة على مقدرات الشرق.
في هذه المعادلة، تبدو الشعوب العربية الخاسر الأكبر. فبين مطرقة الهيمنة الغربية وسندان الحسابات الإقليمية، فقدت المنطقة قدرتها على صياغة مشروعها المستقل. وأصبح سؤال النهضة مرهوناً بمن يملك القرار في واشنطن أو تل أبيب أو طهران، بينما تواصل الأنظمة العربية استنزاف شعوبها في معارك جانبية لا تغيّر من المعادلة شيئاً.
هكذا يتحول “الشرق الأوسط الجديد” إلى مسرح لتصفية الحسابات الحضارية، لا الجغرافية فقط، وتتحول الدول إلى أدوات في يد القوى الكبرى، بينما تُستنزف الثروات في صفقات لا تعود على أصحابها إلا بالمزيد من التبعية والفقر.
الفصل الرابع: الدور العربي بين الغياب والتواطؤ
لم يكن غياب الدور العربي صدفة في مشروع إعادة رسم الخريطة، بل نتيجة تراكم طويل من التراجع والتفكك. فالعالم العربي، الذي كان يوماً مركز القرار في القضايا القومية، تحول إلى هامشٍ في المعادلة الدولية، بل إلى أداة تُستخدم لخدمة أجندات خارجية. لقد أصبحت معظم الأنظمة العربية اليوم رهينة معادلة الأمن مقابل البقاء، أي أن بقاء النظام مرهون برضا واشنطن وتل أبيب. ولذلك فإن الموقف من القضية الفلسطينية، ومن محور المقاومة، ومن التطبيع، لم يعد مسألة مبدأ بل مسألة مصلحة سلطوية ضيقة.
لقد تحوّل المال العربي إلى وقود في ماكينة النفوذ الأميركي، من تمويل صفقات السلاح إلى تغطية تكاليف الحروب، بل إلى تمويل مشاريع سياسية واقتصادية تخدم “إسرائيل” أكثر مما تخدم شعوب المنطقة. وفي المقابل، غُيّب المثقف العربي الحر، وحوصرت الأصوات المستقلة، حتى باتت الساحة الفكرية جزءاً من نظام الطاعة الكبير.
ومع دخول “اتفاق شرم الشيخ 2025” حيّز التنفيذ، بدا أن بعض الدول العربية قررت أن تتنازل عن آخر أوراقها القومية. فبدل أن تكون وسيطاً بين المقاومة والمجتمع الدولي، أصبحت جسر العبور إلى التطبيع العلني. إن هذه الاتفاقيات، التي تُسوَّق باسم “السلام والاستقرار”، ليست سوى أدوات لإعادة ترتيب المنطقة بما يخدم بقاء التفوق الإسرائيلي، وضمان اندماجه في الإقليم من موقع السيادة لا من موقع الشراكة.
لكن الأخطر من ذلك أن بعض النخب العربية ما زالت تتحدث بلغة الانبهار بالغرب، وكأن قرن الهزائم لم يكن كافياً لاستخلاص الدرس. فبينما تواصل إسرائيل توسيع نفوذها عبر التكنولوجيا والاستخبارات والاقتصاد، لا تزال العواصم العربية تتنافس على نيل رضا واشنطن، متناسية أن الكيان الصهيوني ليس حليفاً طبيعياً بل مشروعاً فوق الجميع.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن المشهد ميؤوس منه تماماً. فبعض الدول لا تزال تحاول أن توازن بين ضغوط الغرب ومصالحها الوطنية، وأن تحفظ ما تبقّى من كرامة القرار العربي. غير أن هذا التوازن هش، لأن أي انحراف في ميزان القوى الدولي يعيد المنطقة إلى الفوضى التي يريدها المشروع الأميركي أساساً.
لقد فُقدت البوصلة لأن الأنظمة لم تعد تملك رؤية قومية، ولأن الشعوب أُنهكت بين القمع والفساد واليأس. وفي هذا الفراغ، تمدّ إسرائيل خيوطها في كل اتجاه: من الاقتصاد إلى الثقافة، ومن الإعلام إلى الأمن. وكأننا أمام مشهد يعيد إنتاج سايكس – بيكو بروح جديدة، ولكن هذه المرة بأدوات عربية وبغطاء “سلام” مزيف.
الفصل الخامس: المقاومة والمعادلة الجديدة للردع
وسط هذا الخراب الممنهج، تبرز المقاومة كعامل التوازن الوحيد في وجه مشروع الإخضاع الشامل. فهي لم تعد مجرد ردّ فعل عسكري، بل مشروع وجودي لحفظ هوية الأمة ومنع انهيارها الكامل أمام الموجة التطبيعية والتبعية الاقتصادية والسياسية.
لقد أثبتت التجارب أن كل “سلام” لا يقوم على العدالة هو سلام هشّ. فالمقاومة، سواء في فلسطين أو لبنان أو غيرهما، تمثل الضمانة الأخيرة لبقاء فكرة الحرية العربية في مواجهة الانكسار. ومن هنا جاءت محاولات الغرب وإسرائيل لوصمها بالإرهاب، لأنها ببساطة تُفشل معادلة السيطرة.
أما بعد الحرب الأخيرة على غزة، فقد دخلت المقاومة مرحلة جديدة من التنظيم والتكامل، إذ لم تعد تعمل كجزر منفصلة، بل كجبهة واحدة تتكامل فيها الخبرات والموارد والرؤى. وقد استطاعت أن تفرض معادلة ردع جديدة، جعلت إسرائيل تعيد حساباتها في كل مواجهة. بل إن هذا التوازن الهش بين الردع والعدوان أصبح العامل الوحيد الذي يمنع حرباً إقليمية شاملة حتى الآن.
في المقابل، تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تفكيك هذا النموذج عبر الضغوط الاقتصادية، والعقوبات، وإشعال الجبهات الداخلية. لكن التجارب أثبتت أن الحصار لا يولد إلا مزيداً من الصمود، وأن الشعوب حين تدرك أن المعركة معركة وجود، تصبح أكثر استعداداً للتضحية.
المفارقة أن بعض الأنظمة العربية، بدل أن ترى في المقاومة خط دفاع أول عن الأمة، تراها عبئاً على استقرارها. وهكذا تلتقي إرادات داخلية وخارجية على إضعاف المقاومة وعزلها، لكن الوعي الشعبي الذي تنامى بعد المجازر الإسرائيلية الأخيرة جعل هذه المهمة شبه مستحيلة. فكل قصف لغزة يولد مقاومين جدداً، وكل محاولة تطبيع تولد رفضاً أوسع.
لقد آن الأوان لأن تدرك النخب العربية أن خيار المقاومة ليس خيار حرب، بل خيار حياة. وأن مواجهة المشروع الإسرائيلي – الأميركي ليست ترفاً أيديولوجياً، بل شرط بقاء الأمة ككل. فإما أن تبقى المنطقة رهينة لخريطة يرسمها الآخرون، وإما أن تستعيد شعوبها زمام المبادرة لتكتب خريطتها بنفسها.
في النهاية، قد تتغير التحالفات وتتبدل الأنظمة، لكن التاريخ لا يرحم من خان قضيته، ولا من باع ذاكرة أمته. أما المقاومة، فستبقى الذاكرة الحية التي تُذكّر بأن الشرق لم يمت بعد، وأن الخريطة التي تُرسم بالدم لا يمكن أن تُمحى بالحبر.
الفصل السادس: أنياب الوحش — المنظمات الدولية في قبضة القرار الأميركي لم تعد المنظمات الدولية اليوم مؤسساتٍق حيادية كما أراد لها المؤسسون بعد الحرب العالمية الثانية، بل تحولت تدريجيًا إلى أدواتٍ بيد القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تُستخدم لإضفاء الشرعية على ما لا يمكن تبريره. وما كانت واشنطن لتنجح في فرض إرادتها على العالم لولا هذا الغطاء المؤسسي الذي يمنح الهيمنة وجهًا قانونيًا ناعمًا يخفي أنياب الوحش خلف لغة الدبلوماسية.
من مجلس الأمن إلى محكمة الجنايات الدولية، ومن الأمم المتحدة إلى وكالة الأونروا، تتكرر الصورة نفسها:
قرارات تُدفن قبل أن تُنفّذ، وجرائم تُوثّق دون عقاب، واحتلال يزداد قوة كلما اجتمع “العالم الحرّ” لإدانته شكليًا. فالولايات المتحدة، التي تمسك بمفاتيح التمويل والفيتو والتأثير، جعلت من هذه المؤسسات رهينة إرادتها، بحيث لا يمرّ قرارٌ لا يخدم مصالحها أو مصالح إسرائيل إلا ويُجهض في مهده.
حين قصفت إسرائيل غزة، شاهد العالم على الهواء مباشرة جريمة إبادة موثّقة بالصوت والصورة، ومع ذلك اكتفى مجلس الأمن بالبيانات، ورفض إصدار أي قرار ملزم بوقف العدوان. وحين تحركت بعض الدول لمحاكمة قادة الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية، خرجت واشنطن لتعلن أن المحكمة “تتجاوز صلاحياتها”، وأنها ستعاقب كل من يجرؤ على ملاحقة الإسرائيليين.
هكذا تحوّل القانون الدولي إلى أداة انتقائية، تُستخدم ضد الضعفاء فقط، بينما الأقوياء فوق المساءلة.
حتى وكالة الأونروا، التي كانت رمزًا للالتزام الدولي تجاه اللاجئين الفلسطينيين، أصبحت هدفًا للابتزاز المالي والسياسي. كلما طالبت بالعدالة، قُطع عنها التمويل؛ وكلما خضعت للضغوط، جُدّد دعمها مؤقتًا. أما المنظمات الحقوقية، فقد أُخضعت بدورها لرقابة سياسية واقتصادية، حتى غدت بياناتها أقرب إلى بيانات العلاقات العامة منها إلى تقارير إنسانية مستقلة.
الولايات المتحدة لا تخفي أن هذه السيطرة جزء من استراتيجيتها الأشمل: ضبط النظام الدولي عبر أدوات “الشرعية”. فهي لا تحتاج إلى الاحتلال المباشر ما دامت تملك حق النقض في مجلس الأمن، وقدرتها على تحديد مصير أي تحقيق أو عقوبة. إنها وصاية سياسية مقنّعة بلغة القانون، وإدارة استعمارية بوسائل أممية.
الأدهى من ذلك أن هذا الانحياز الممنهج يُقدَّم للعالم كخيار “واقعي” لا بديل عنه. فحين يُسأل الغرب عن ازدواجية المعايير، تكون الإجابة الجاهزة: “إن الأمن أولًا”. وباسم الأمن، تُرتكب المجازر ويُدفن الضمير الإنساني تحت ركام غزة والضفة وجنوب لبنان. أما شعارات “العدالة الدولية” و”حقوق الإنسان” فتتحول إلى أقنعة تتبدل حسب موقع الضحية والجاني.
في هذا السياق، تبدو إسرائيل المستفيد الأكبر من هذا الخلل البنيوي، إذ وجدت في المؤسسات الدولية درعًا يحميها من العقاب، ويمنحها شرعية وهمية رغم جرائمها الموثقة. بل إن المنظومة الدولية نفسها باتت تكرّس منطق “حق القوة” بدل “قوة الحق”، لتصبح العدالة مجرد امتياز تمنحه الإمبراطورية لمن تشاء وتنزعه عمن تشاء.
ولأن التاريخ لا يرحم، فإن سقوط هذه المؤسسات في امتحان فلسطين ولبنان وغزة والعراق سيبقى وصمة عارٍ في جبين “النظام الدولي الحديث”. فالعالم الذي يقف متفرجًا أمام الإبادة، ويخشى من إغضاب واشنطن أكثر مما يخشى من الدم المسفوك، لم يعد يمتلك ما يؤهله للحديث عن القيم أو القانون.
لقد تحولت المنظمات الدولية إلى أنياب الوحش: تلمع في الضوء وكأنها حامية العدالة، لكنها تغرس أنيابها في لحم الضعفاء، وتلوّح بابتسامتها للجلاد.
إن هذا الانكشاف الأخلاقي العميق يفرض على العرب، وعلى أحرار العالم، أن يعيدوا تعريف مفهوم الشرعية، وأن يبنوا تحالفات جديدة خارج منظومة الهيمنة، لأن العدالة التي تنتظر إذنًا أميركيًا ليست عدالة، ولأن الأمم التي ترهن مصيرها لمؤسسات خاضعة للفيتو لا تملك حق الحياة الحرّة.
#خورشيد_الحسين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
3. -المنعطف الإقليمي: حزب الله يمدّ يده للرياض… مناورة أم اس
...
-
ضربة قطر،أيقظت العرب أم كشفت عجزهم؟
-
حسن مراد: الحاضر على الأرض والمتمسك بالهوية العربية
-
من صدمة 7 اكتوبر الى ادارة الكارثة: مسار الموقف العربي
-
خطاب بري… بين تثبيت السلاح وتوسيع دائرة الأزمة
-
اتركوا التيس الصهيوني وامسكوا حمدان
-
غزة المقبلة على مذبحة: قرار الاحتلال أُخذ... والمذبحة تُعدّ
-
لبنان والسلاح بين الاستقلال والسيادة المُقنّنة: هل بدأ فصل ا
...
-
في مواجهة العاصفة: وحدة الموقف هي سلاحنا الأخير
-
لتحريض المذهبي وآليات الاستجابة: مسؤولية مزدوجة في تفكيك الم
...
-
واشنطن تضغط... وتل أبيب تحصد: لبنان بين كماشة الموانئ واسترا
...
-
بين الاحتلال والداعم: واشنطن شريك المشروع الصهيوني منذ النشأ
...
-
تقارب الضرورة: سوريا الجديدة وإسرائيل بين تفاهمات أمنية وحسا
...
-
الفيدرالية والطائفية في المشرق العربي: مدخل للتفتيت لا لإدار
...
-
الشرعية الدولية والقضية الفلسطينية: من تزوير التاريخ إلى تبر
...
-
من الاحتلال إلى الضم: پ الكنيست وتصفية الضفة الغربية
-
القضية الفلسطينية بين الأبعاد المتعددة والتحولات الدولية: مق
...
-
الهجمات الإسرائيلية على دمشق والسويداء: خطاب أحمد الشرع وإعا
...
-
مشروع إمارة الخليل:تفكيك فلسطين من الداخل
-
التكويع: فلسفة لبنانية ساخرة
المزيد.....
-
ألمانيا: توقيف شاب سوري في برلين للاشتباه بتحضيره هجوما
-
غارات ونسف للمنازل في عدة مناطق بغزة
-
كيف تنهض غزة بالمبادرات الذاتية؟
-
رصد مسيرات فوق قاعدة جوية للناتو في بلجيكا
-
ترامب: أيام مادورو كرئيس لفنزويلا -باتت معدودة-
-
دراسة.. زيادة ملحوظة في مشكلات الذاكرة والتفكير لدى الشباب
-
ترامب يتهم روسيا والصين بإجراء تجارب نووية غير معلنة
-
دراغوني يقول لبي بي سي: -الناتو سيقف إلى جانب أوكرانيا حتى ي
...
-
واشنطن لا تخطط لإجراء تفجيرات نووية حاليا
-
برا أو جوا.. ترامب يعيد التهديد بالتدخل العسكري ضد نيجيريا
المزيد.....
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
المزيد.....
|