علي جاسم ياسين
الحوار المتمدن-العدد: 8512 - 2025 / 10 / 31 - 15:32
المحور:
الادب والفن
في البدءِ كان النيلُ وحدهُ يعرفُ،
يسري ببطءِ العارفين،
يحملُ على صفحته تاريخا من الأنين.
الأرضُ التي خُلِقتْ من الدم،
كانتْ تكتبُ أسماءها بالحجارة،
وتحملُ في ترابها وصايا الأجداد.
لكنّ رجالا جاؤوا من ظلالٍ غليظة،
رفعوا راياتٍ من كلامٍ ثقيل،
وقالوا إنهم يعرفون الطريقَ إلى الله،
فحوّلوا المساجدَ إلى مقاعدٍ للحكم،
وجعلوا الوطنَ طريقا ضيقا إلى كراسيّهم.
تحت سلطةِ البشير والترابي
بدأ الصباحُ بطلقة،
والليلُ مقبرةٌ للغائبين.
لم يعد في الدرب سوى أقدامٍ خائفة،
ولا في العيون سوى سؤالٍ واحد:
كم بقي من الضوء قبل أن يُطفأ؟
في دارفور،
سقطت القرى كالحجارة من جبلٍ مهزوم،
وانتشر صدى البكاء على مدى الصحراء.
تقدّم الجنجويدُ بخُطى لا ظلّ لها،
تركوا الأرضَ عاريةً إلا من الدخان،
وغابَ من كان بالأمس يسقي الزرع،
وصار رمادهُ هو الشاهد.
النساءُ حملنَ جراحا لا تُرى،
والأطفالُ سكنوا الخوفَ كأنه بيتهم.
لم تكن حربا فقط،
كانت اختناقا للإنسان في قلبه،
وانهيارا لما تبقّى من معنى الحياة.
ثم تبدّل المشهدُ دون أن يتبدّل الألم،
تقدّم الجنرالاتُ إلى المسرح،
واختفى الشعارُ وبقي السلاح.
البرهانُ ينادي من جهة،
وحِميدتي من جهةٍ أخرى،
والأرضُ تتشقّقُ بينهما،
كأنها لم تعُد تحتملُ ثقلَ الكذب.
وأبو لولو، هذا الوجه المجهول،
يمشي على طرقات القرى،
يحمل صمت الموت في عينيه،
لا يُرى، لا يُسمع،
لكن أثره يبقى في كل جدارٍ محترق،
وفي كل دمعةٍ لم تُمحَ من الأرض.
في المدن،
البيوتُ بلا نوافذ،
المدارسُ بلا أصوات،
والشوارعُ تحصي أسماء القتلى كلَّ مساء.
لم يبقَ سوى المستشفياتِ الحزينة،
وسماءٍ تراقبُ المشهدَ بعينٍ مطفأة.
ومع ذلك،
في كلِّ زاويةٍ من الخراب،
ثمّة قلبٌ ينبضُ بالعناد،
ورجلٌ يقف بيده العارية،
وأمٌّ تحمي طفلها كي لا ينسى الوطن.
يا سودان،
يا زمنا لم يُكملْ قصيدته بعد،
يا وطنا يُقتطعُ من خريطة العالم كلَّ يوم،
لكنك تبقى واقفا،
تجمعُ نفسك من الرماد،
وتعيدُ رسمَ ملامحك على وجهِ النيل.
كلُّ ما فيك ينزفُ،
لكنّ نزفك شهادة،
وأنينك وعدٌ لا يُكسر.
كلُّ حجرٍ فيك يعرفُ الطريق إلى الحقيقة،
وكلُّ ليلٍ فيك يخفي فجرا ينتظرُ إشارته.
لن يسقطَ هذا البلد،
ولو انكسرَت أعمدتُه،
لأنّ فيه ما لا يُرى:
روحُ الذين مضوا دون أن يرحلوا،
وأثرُ الذين قاوموا دون أن يصرخوا.
يا أرضَ الصبر،
يا مجرى الدم في العروقِ النقية،
يا وطنا يتعلّم من النار كيف ينهض،
ستظل الحياة فيك،
ما دام فيك قلبٌ واحدٌ يرفضُ الركوع.
#علي_جاسم_ياسين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟