|
|
تونس – التلوث واحتجاجات المواطنين في مدينة قابس
الطاهر المعز
الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 12:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في أواخر الستينيات، اكتسبت تونس القدرة على معالجة الفوسفات واستخراج حمض الفوسفوريك الذي كانت تصدره، وكانت مدينة قابس تمتلك مرافق ميناء تجارية ومستوى عال من المياه الجوفية الغنية بالوقود الأحفوري، ورأى المُشرفون على الإقتصاد آنذاك ( خلال فترة حُكْم الحبيب بورقيبة) إن الموقع مثالي، خصوصا بعد رفض أهالي مدينة صفاقس بناء هذا المُركّب الصناعي، لأنهم جرّبوا مساوئ وحدة معالجة الفوسفات... بدأت وحدات قابس لمعالجة الفوسفات التابعة للمجموعة الكيميائية التونسية (GCT) عملياتها سنة 1972، وأنتجت هذه الوحدات حمض الفوسفوريك ونترات الأمونيوم والأسمدة، وخلق المجمع الصناعي آلاف الوظائف، ونادرًا ما اهتم النّاس آنذاك بسلبيات حمض الهيدروفلوريك، إلى أن بدأ تسمّم الأطفال بفعل خمسة ملايين طن من الجبس الفوسفوري التي تُلقى في البحر كل عام، وجفاف الواحة، والأمطار الحمضية التي تهاجم الخضار والأشجار المُثْمِرة والنباتات، وكان القليل من الناس يهتمون باختناق الواحة (بساتين النخيل) وسكانها، وجفاف أوراق وجذور الأشجار والنباتات، وذبول الأعشاب البحرية، وتسمم عظام البشر بالفلور، وارتفاع حالات الإجهاض وانتشار أمراض التهاب الكبد والسرطان وأمراض الجهاز التنفسي، وارتفاع درجات حرارة البحر، واختفاء مناطق تكاثر الأسماك، ، لكن في غياب إحصاءات طبية رسمية، حيث لم تسمح الحكومات المتعاقبة إلى اليوم بإجراء البحوث والدّراسات، لكن الناس يُدركون المخاطر، بعد عُقُود من المُعاناة، فكل عائلة لديها مرضى ووفيات، وأصبحت صحة الإنسان والحيوان والنبات مهدّدة في منطقة قابس، وتنفي الحكومات المتعاقبة الصّلة بين التلوث والمشاكل الصحية، ورفضت الحكومة إنشاء سِجِلّ للسرطان والأمراض الخلقية، بالاعتماد على وحدات الرعاية المجتمعية ونظام الصحة العامة لدراسة أسباب انتشار السرطان وحالات الإجهاض، ولتوفير بيانات تُظهر خطورة مشكلة التلوث في قابس... إن الأطباء خائفون، ولا يخبرون المرضى بأن مرضهم مرتبط بتلوث المُجمّع الكيماوي، ولا يريدون الإدلاء بشهاداتهم. أما النقابيون فيصفون الكوارث التي نتجت عن المُجمّع – من أكبر المناطق الصناعية بالبلاد – بالجريمة، بسبب الإهمال وعدم نزاهة الإعلام وصَمْت الأطباء ووزارة الصحة ( أي الحكومة)، وأصبح الحل الوحيد يتمثل في إغلاق الوحدات الصناعية الملوِّثة ووقف تصريف الفوسفوجيبسوم في البحر، وتغيير التجهيزات الحالية المتهالكة بتجهيزات أخرى أقل تلويثًا، وإنشاء لجنة علمية لمراقبة درجات التلوث، وتجهيز المستشفى بوحدات لمعالجة الأمراض التي نشأت عن التلوث... كانت قابس هي الواحة الساحلية الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط، وكانت، حتى سبيعينيات القرن العشرين تنتج التمور والرّمان والموز والحنّاء والملوخية وأطنان الخضار والفواكه، ويرتزق من بَحْرِها ( خليج قابس) مئات الصيّادين، وتنسج النّساء مظلاّت وزرابي ( حصير) وقفاف ( جمع قُفّة) وأطْباق وغيرها من الأدوات والأواني من سعف النّخيل، ومنذ حوالي خمسة عقود بدأت الواحة تحتضر، والخليج يفرغ، وسكان المدينة يعانون من التلوث الناجم عن صناعات معالجة الفوسفات القادم من الحَوْض المنجمي ( ولاية قَفْصَة) التي تضم أرضها رواسب فوسفاتية مهمة ويكون الفوسفات الخام من النيتروجين وحمض الفوسفوريك وفوسفات الكالسيوم، وبدأ الإستعمار الفرنسي المُباشر ( 1881 – 1986) استغلال الفوسفات بداية من العقد الأخير من القرن التاسع عشر، من قِبَل شركة مُسجّلة في فرنسا، وخضع العمل بالمناجم إلى منطق استعماري عنصري، فقد كان الفرنسيون يُشكلون العمالة الماهرة، ويُشكل الأوروبيون الآخرون ( الإيطاليون واليونانيون والمالطِيُّون) الفئة الوُسْطى ضمن درجات السّلّم الوظيفي، فيما كان التونسيون في أسفل الدّرجات... تم إنشاء خط سكة حديدية لنقل الفوسفاط من مناجم المتلوي والرّدَيّف وأم العرائس وقفصة إلى ميناء صفاقس بداية من 1899 ثم إلى قابس بداية من 1916 قبل نقله إلى فرنسا، حيث تتم معالجته وتحويله إلى أسمدة كيميائية، وبعد الإستقلال السياسي الشَّكْلِي، بدأت تتم عملية المعالجة في صفاقس، ثم في قابس بداية 1972 وأصبح ميناء قابس من أكبر المناطق الصناعية في البلاد، فضلا عن مصنع الإسمنت الذي يقع على بعد حوالي عشر كيلومترات إلى الجنوب الغربي من قابس، وبعد سنوات قليلة بدأ النّاس يشعرون بالآثار السلبية للتلوث على صحّة الإنسان والواحة والبحر والتربة والمياه ( المالحة أصْلا) والجو، فضلا عن المخاطر المرتبطة بمخازن نترات الأمونيوم في المنطقة الصناعية بقابس، وهي نفس المادّة التي انفجرت خلال شهر آب/أغسطس 2020 في ميناء بيروت وأدّت إلى كارثة، في ظل انعدام الوقاية وخطط وأجهزة الطوارئ. أما الصّيّادون فيشتكون من انخفاض أعداد الأخطبوط والهامور والعديد من الأسماك التي كانت تعيش في خليج قابس، أو تهاجر إليه في فُصُول مُعيّنة، بسبب الصيد الجائر في البحر الأبيض المتوسط وارتفاع درجة حرارة المياه الناجم عن تصريف الفوسفوجيبسوم، مما أدّى إلى القضاء على التنوع البيولوجي البحري في خليج قابس، فيما ماتت أشجار النخيل والرّمّان وكلما ارتفع حجم الأسمدة الكيماوية التي يتم شحنها إلى أوروبا، اختفت الذرة والبنجر والعديد من الحيوانات التي كانت تعيش في الواحة أو تعتاش من إنتاجها، وانتشرت أمراض القلب والأوعية الدموية والكلى، وشتّى أصناف الأورام المُسَرْطنَة، مما جعل الناس ( المزارعون والصيادون ومجمل السكان المحليين ) يُطالبون بإغلاق مصانع حمض الفوسفوريك الملوثة ووقف النفايات السامة التي تُصرف في البحر، ويتظاهرون من أجل الحق في الحياة وتنفس هواء نقي وشرب مياه صافية... خلاصة: انتشرت بعض الظّواهر مثل فقدان الوَزْن واصفرار الأسنان وأمراض السرطان والجهاز التنفسي، والوفاة المُبكّرة وتوفي المئات في سنّ مبكّرة أو بعد فترة قصيرة من المرض، فيما يُشير الفلاحون إلى مَوْت مهنة الفلاحة، والصّيّادون المحليون إلى انخفاض حاد في مخزونات الأسماك خلال العقد الماضي، مما يهدد مصدر دخل حيويا للعديد من السكان في المنطقة، ولذلك ينظاهر سكان مدينة قابس منذ حوالي شهر، مطالبين بحقهم في تنفس هواء نقي، لأن حوادث الأبخرة السامة المتكررة من مصنع معالجة الفوسفات تسببت في نقل عشرات الأطفال والمواطنين إلى المستشفى المتهالك الذي لا يمتلك وسائل العلاج، ويعاني هؤلاء المواطنون من ضيق التنفس، ومن الموت البطيء لمدينة قابس، وبعد حوالي شهر، تظاهر مئات التونسيين في العاصمة تونس يوم السبت 25 تشرين الأول/اكتوبر 2025، احتجاجا على أزمة بيئية حادة جراء التلوث الناجم عن المجمع الكيميائي المملوك للدولة في مدينة قابس، في توسع للاحتجاجات المستمرة هناك منذ أسابيع، ويُظْهِرُ أحدث تحرك بالعاصمة تَزَايُدَ الاحتقان من عدم الاستجابة الفورية من السلطات وتدهور الخدمات العامة بشكل متزايد، بينما يعاني سُكّان مدينة قابس من ارتفاع معدلات الأمراض التنفسية وهشاشة العظام والسرطان، بسبب الغازات السامة المنبعثة من مصانع الفوسفات التابعة للمجموعة الكيميائية الحكومية والتي تسكب آلاف الأطنان من النفايات في البحر يوميا، مما فَجَّرَ أحْدَثَ مَوْجَةٍ من الاحتجاجات في قابس في بداية شهر تشرين الأول/اكتوبر 2025 بعد أن عانى عشرات التلاميذ من صعوبات في التنفس نتيجة الأبخرة السامة من مصنع يحوّل الفوسفات إلى حمض الفوسفوريك وأسمدة، وتدفق عشرات الآلاف إلى الشوارع في قابس مطالبين بإغلاق الوحدات الملوثة، ورَفَعَ المحتجون في تونس لافتات وهتفوا بشعارات تضامنا مع سكان قابس، ونددوا بالرد الأمني للسلطات، والمتمثل في القمع والإعتقالات، وتخشى الحكومة أن تؤدي الاحتجاجات في العاصمة إلى توسع أكبر في مناطق أخرى من تونس، مما يزيد الضغوط على حكومة الرئيس قيس سعيد في وقت تواجه فيه البلاد صعوبات اقتصادية طويلة الأمد، ووصف الرئيس قيس سعيد الوضع في قابس هذا الشهر بأنه “اغتيال بيئي”، ملقيا باللوم على “الخيارات السياسية الإجرامية للحكومات السابقة”، ودعا الوزارات - في مسعى لتهدئة الاحتجاجات - إلى صيانة الوحدات الصناعية لإيقاف التسربات كخطوة فورية، وقبل أيام، صرّح وزير الصحة إن الحكومة ستبني مستشفى للسرطان في قابس للتعامل مع تزايد الحالات، لكن المحتجين ملّوا الوعود والحلول التَّرْقِيعِيّة، وعبّروا عن رفضهم الحلول المؤقتة، مطالبين بالإغلاق الدائم أو نقل المنشآت الملوثة، وحذرت منظمات بيئية من أن أطنانا من النفايات الصناعية تُفرغ يوميا في البحر عند "شط السلام"، مما يتسبب في أضرار جسيمة للحياة البحرية.
#الطاهر_المعز (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألمانيا - جوانب من الإِرْث النّازي
-
الولايات المتحدة – بين -مبدأ- الرئيس جيمس مونرو وعَرْبَدة دو
...
-
مُتابعات – العدد السّابع والأربعون بعد المائة بتاريخ الخامس
...
-
الحرب على جبهات متعدّدة
-
الولايات المتحدة – الإستبداد في الدّاخل، وعسكَرَة الدّبلوماس
...
-
من الحرب التجارية إلى الحرب التكنولوجية
-
عرض كتاب - الصهيونية والإستعمار الإستيطاني من 1917 إلى 1949
-
مُتابعات – العدد السّادس والأربعون بعد المائة بتاريخ الثامن
...
-
-السّلام - على المذهب الأمريكي – ( Pax Americana )
-
فلسطين الإبادة الجماعية والتَّرَبُّح الرأسمالي
-
الدّعم الخارجي لاقتصاد الحرب في الكيان الصهيوني
-
هوامش قمة شرم الشيخ 13/10/2025
-
فلسطين - تواطؤ -غربي- وعربي في الإبادة
-
تونس خلال عشرية حكم -النّهضة-
-
مُتابعات – العدد الخامس والأربعون بعد المائة بتاريخ الحادي ع
...
-
لحرب التكنولوجية والنفسية - من هواوي إلى تيك توك
-
صهاينة العرب – نموذج عيال سعود
-
كولومبيا والولايات المتحدة من التحالف إلى العداء
-
الإتحاد الأوروبي عملاق اقتصادي وقِزْم سياسي
-
بيرو – من دكتاتورية ألبرتو فوجيموري إلى فساد دينا بولوارتي
المزيد.....
-
لقطات مهيبة.. كاميرا ترصد شكل عين إعصار ميليسا من الداخل
-
-تأملوا تاريخكم العدواني-..الصين تحث اليابان على احترام مخاو
...
-
-لم يُعرف عنه قط أنه أينشتاين-.. مشرعة ترد على ترامب ووصفه إ
...
-
إليسا تتألق بفستان فضي على مسرح أبو بكر سالم في الرياض
-
شقيق شيرين أبو عاقلة: تقرير جديد يكشف تستّر واشنطن على مقتله
...
-
من الأرز الأمريكي إلى مضرب الغولف.. كيف كسبت تاكاتشي ودّ ترا
...
-
هل تقف فرنسا وراء قرار -اليونيفيل- إسقاط مسيّرة إسرائيلية في
...
-
هل سيصدر ترامب أمراً بالإفراج عن البرغوثي؟
-
إسرائيل تتحدث عن تسلمها -جثة كاذبة- من حماس
-
بعد قضية الجثة.. بن غفير يوجه لنتنياهو -طلبا- بشأن حماس
المزيد.....
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
المزيد.....
|