أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - الاقتصاد المقاوم: المقاطعة كأداة للتحول الثوري في السودان 1















المزيد.....

الاقتصاد المقاوم: المقاطعة كأداة للتحول الثوري في السودان 1


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 07:03
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


من الرفض الفردي إلى الفعل الجمعي: نحو فهم ماركسي للمقاطعة كصراع طبقي

المقاطعة الشاملة فعل اقتصادي–سياسي يضرب في عمق البنية الطبقية للدولة البرجوازية، وتتحول حين تنتقل من السلوك الفردي إلى الممارسة الجماهيرية الواعية إلى أداة لتفكيك شرعية السلطة وإعادة توزيع القوة في المجتمع. المقاطعة ليست انسحاباً من السوق، بل نزع للشرعية عن منظومة الإنتاج والاستهلاك التي تعيد إنتاج الهيمنة، ومن خلالها يختبر المجتمع قدرته على التنظيم الذاتي خارج مؤسسات الدولة.

تتجلى المقاطعة في التماس المباشر بين بنية الإنتاج التي تولد السلع والخدمات وبنية العلاقات التي تضبط توزيع القيمة والفائض. حين تتوقف الجماهير عن أداء دورها كعنصر تعاوني في دورة رأس المال، تنكشف هشاشة المنظومة التي تعتمد على مشاركتها. هذا الانسحاب المنظم يكشف الطابع القسري للهيمنة، ويجبر الطبقة المسيطرة على الانتقال من الإقناع إلى القمع. عندها تتعرى الدولة كأداة طبقية، ويتجسد ما وصفه غرامشي بانهيار القبول الطوعي، اللحظة التي ينقلب فيها الوعي الاجتماعي على شكله المؤسسي.

يتجاوز أثر المقاطعة الاقتصادي تعطيل تدفق السلع إلى تعطيل إنتاج فائض القيمة ذاته. كل توقف عن البيع والشراء يعني تجميد حركة رأس المال وإضعاف تمويل السلطة القائم على الضرائب والرسوم والتحويلات. في السودان، حيث يهيمن رأس المال الطفيلي على قنوات التحويلات الرسمية والموازية، تصبح المقاطعة ضربة لشبكات الريع التي تمول أجهزة الدولة. هذا الاختناق المالي يضعف قدرة الطبقة المالكة على شراء الولاءات وتمويل القمع، فيما تتحول الموارد الصغيرة إلى إمكانيات جماعية تُدار عبر شبكات الثقة والتعاون. هكذا تنتقل السيطرة من البنية المركزية إلى القاعدية، ويتغير توازن القوة المادية داخل المجتمع، فتتراجع قدرة الطبقة الحاكمة على فرض سياساتها، وتنشأ مساحات تنظيمية جديدة من داخل الأزمة.

المقاطعة من زاوية سياسية عملية سحب للشرعية الرمزية. امتناع الجماهير عن التعاون مع أجهزة الدولة يسقط الركيزة الاجتماعية التي تمنحها مظهر الحياد. يتكشف ما هو إداري بوصفه صراعاً على السلطة، وتظهر المبادرات الشعبية كمؤسسات موازية لإدارة الموارد وتنظيم الخدمات. اللجان المحلية التي تنشأ في الأحياء والمصانع والمخيمات تبني نواة سلطة بديلة، تنشأ عبرها صناديق تضامن وتعاونيات إنتاج وشبكات دعم تعيد تعريف المواطنة كإنتاج اجتماعي لا كطاعة للسلطة.

حين تتوسع هذه البنى وتبدأ إنتاج نظامها الخاص للتوزيع، تتشكل السلطة المزدوجة: جهاز الدولة وجهاز شعبي موازٍ. هذه الحالة لا يمكن تثبيتها أو تأجيلها، لأن المقاطعة التي تولد بنى بديلة إما أن تتحول إلى سلطة جديدة أو تُسحق. الصراع هنا يدور حول من يمتلك القدرة العملية على إدارة المجتمع. تجارب المقاطعة التاريخية من الهند إلى الانتفاضات العربية أثبتت أن السيطرة على الموارد المحلية تحدد مصير المواجهة. المقاطعة الشاملة إذن مرحلة بين العصيان المدني والانتقال الثوري، وهي المختبر الذي تُختبر فيه قدرة الجماهير على تولي شؤونها الذاتية.

نجاح المقاطعة مشروط بوجود نواة تنظيمية ثورية توحّد الجهود وتمنع التشتت. هذه النواة ليست حزباً مغلقاً، بل بنية تنسيقية تجمع بين الصلابة النظرية والممارسة الميدانية. تتخذ أشكالاً متعددة: خلايا نقابية، لجان أحياء، شبكات دعم لوجستي وإعلامي، أو مجالس تنسيق بين القطاعات. وظيفتها تحويل المقاطعة من فعل ظرفي إلى سيرورة تراكمية. حين تنتج المقاطعة أدواتها الذاتية وقواعدها التنظيمية تصبح مرحلة من مراحل التحول الاجتماعي لا احتجاجاً عابراً.

السلطة الطبقية تعمل على تفكيك هذه الحلقات بأجهزتها الأيديولوجية: الإعلام، المؤسسة الدينية، الخطاب القومي. تُزرع الشكوك حول جدوى المقاطعة، وتُجرّم المبادرات الشعبية، وتُعاد صياغة السرديات الوطنية لتبرير التعاون مع النظام. لذلك تصبح التربية السياسية والمواجهة الثقافية جزءاً من الفعل الاقتصادي نفسه. المقاطعة لا تصمد دون وعي طبقي يقاوم الإغراء والخوف والتشويه، وحين يدرك الأفراد أن رفضهم تاريخي لا فردي، يتحول السلوك اليومي إلى فعل ثوري، ويصبح الدفاع عن المقاطعة دفاعاً عن إمكانية بناء المجتمع الجديد.

التحدي الأكبر هو الحفاظ على نقاء البنى البديلة. المقاطعة قد تفكك علاقات التبعية أو تعيد إنتاجها إن غابت الرقابة الأفقية والديمقراطية القاعدية. التجارب التاريخية أثبتت أن كل مشروع تعاضدي افتقد آليات شفافة للمحاسبة انتهى إلى بيروقراطية جديدة. لذلك فإن بناء آليات حوكمة ذاتية شفافة ضمانة لعدم تحوّل الثورة الاقتصادية إلى سلطة مصغّرة تعيد إنتاج القهر.

الرقمنة والعولمة غيّرت شروط المقاطعة. الانتقال من الشكل التجاري ضد الاستعمار إلى الشكل الرقمي ضد الرأسمالية الطفيلية فتح إمكانيات لاقتصاد مقاوم يصعب إخضاعه للرقابة. وسائل الدفع الإلكتروني والعملات الرقمية والشبكات اللامركزية تتيح بناء بنى مالية وإعلامية خارج سيطرة الدولة، لكنها أيضاً أدوات مراقبة وتجريم. الصراع الطبقي يدخل مرحلة رقمية جديدة، والسيطرة على البنية التحتية للمعلومات تعني السيطرة على الموارد. المقاطعة في عصر الرقمنة صراع على التقنية والمعرفة معاً.

وحين تتقاطع الأزمة الاقتصادية مع تآكل شرعية النخبة وتراكم شبكات المقاومة المحلية، تتحول المقاطعة إلى مدرسة سياسية تُدرّب الجماهير على الحكم الذاتي. كل تجربة تضامن أو شبكة تبادل خارج السوق الرسمي خطوة في بناء جهاز موازٍ للسلطة، وامتحان لقدرة المجتمع على تحويل الرفض إلى فعل تأسيسي.

المقاطعة الشاملة حين تُمارس بوعي جدلي يربط بين التفكيك والبناء، فعل نضالي يعيد صياغة شروط الحياة. هي سيرورة إنتاج لواقع جديد، تُعاد فيها العلاقة بين الجماهير والسلطة على أسس المشاركة والتوزيع العادل. كل حركة تاريخية تصنعها الأغلبية لمصلحة الأغلبية، واستمرار النضال هو استمرار لهذه الحركة في وجه كل محاولة لإيقافها.

"الثورة ليست لحظة انفجار، بل سيرورة وعيٍ تتجسد فيها الجماهير كقوةٍ تاريخيةٍ واعيةٍ بذاتها."
أنطونيو غرامشي.

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسئلة بلا طبقة
- 14. التنظيم الثوري وبناء الحزب الجديد: من النظرية إلى الممار ...
- 13. نحو ماركسية سودانية جديدة: الدروس العالمية والتأسيس النظ ...
- 12. البيئة والمناخ: الإمبريالية الخضراء والعدالة المناخية
- 11. الثقافة والأدب في السودان: جبهات الصراع الإيديولوجي
- 10. الإعلام والوعي الزائف: آليات الثورة المضادة في السودان
- 9. الهوية والدين: أسلحة الطبقة الحاكمة في السودان
- 8. التبعية والصراع الإمبريالي: الديناميكيات الإقليمية والدول ...
- 7. العنف المضاد للثورة: تشريح جهاز الدولة البورجوازي
- 6. اقتصاد الحرب في السودان: الرأسمالية الطفيلية والهيمنة الع ...
- 5. اليسار السوداني: الأزمة الاصلاحية وتحول البنية الطبقية
- 4. التشكيلة الاجتماعية السودانية: تحليل طبقي للبنية المعقدة
- 3. الماركسية واللاعنف: قراءة في صراع النظرية والتاريخ
- 2. السودان والمأزق النظري: تشريح إخفاق الثورة السلمية
- الماركسية والثورة السودانية – جدل النظرية والممارسة 1. المار ...
- 10. آفاق الثورة السودانية في السياق الأممي: نحو قطيعة مع أوه ...
- رأسمالية التعليم وإخصاء الوعي
- 8. القطيعة الثورية: الاشتراكية كطريق وحيد لتحطيم أوهام الإصل ...
- 7. البرجوازية الطفيلية: الحلقة المفقودة في أزمة الإصلاح السو ...
- ثقافة الدوبامين: بين التشييء الرقمي واستلاب الوعي


المزيد.....




- جريمة تهجير طائفي جديدة… والأمن شريك لا غائب
- اليسارية كاثرين كونولي رئيسة لإيرلندا بنسبة كبيرة من الأصوات ...
- تقرير أولي حول: “انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة ضد حراك جيل ...
- مشكلات الدعارة
- رفض الخبرة الجينية لإثبات النسب: حيف قانوني ضد الأمهات العاز ...
- لجنة التنسيق لعائلات المختطفين مجهولي المصير وضحايا الاختفاء ...
- اليسار العراقي عشية انتخابات 2025: بين الوحدة والتجدد
- ما دلالات سحب حزب العمال الكردستاني قواته من تركيا؟
- تركيا.. حزب العمال الكردستاني ينسحب الى شمال العراق تمهيدًا ...
- انسحاب حزب العمال الكردستاني.. نهاية أم بداية جديدة؟


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - الاقتصاد المقاوم: المقاطعة كأداة للتحول الثوري في السودان 1