أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 5. اليسار السوداني: الأزمة الاصلاحية وتحول البنية الطبقية















المزيد.....

5. اليسار السوداني: الأزمة الاصلاحية وتحول البنية الطبقية


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 21:48
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


يمثل التحول التاريخي لليسار السوداني من حركة ثورية راديكالية إلى قوة إصلاحية مندمجة في النظام السياسي القائم أحد أبرز مظاهر الأزمة النظرية والتنظيمية التي تعيق المشروع الثوري في السودان إذ يستحيل فهم هذا المسار بمعزل عن تحليل التشكيلة الطبقية التي أنجبته. فكل انحرافٍ في الفكر والممارسة إنما يعكس تحوّلًا ماديًا في الموقع الاجتماعي للحركة [1]. حين كان الحزب الشيوعي السوداني متجذرًا في الطبقة العاملة والفلاحين خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين – وهو ما يتجلى في اتساع قاعدته النقابية وتعدد خلاياه العمالية – مثّل طليعةً ثورية تسعى إلى قلب علاقات الإنتاج. غير أنّ انفصاله التدريجي عن قاعدته المادية، وصعود فئات البرجوازية الصغيرة إلى موقع القيادة، جعلا خطابه يميل تدريجيًا إلى الإصلاح أكثر من الثورة [2].

لقد تشكّل اليسار السوداني تاريخيًا في سياق مواجهة الاستعمار البريطاني والإقطاع المحلي، حيث استوعب الماركسية الأممية كمشروع لتحرير الإنسان من الاستغلال، لكنه حمل في الوقت ذاته خصوصية سودانية تعكس الصراع بين قوى الريف والمدينة. غير أنّ هذا الوهج بدأ يتراجع مع انتقاله من مواقع الصراع إلى مؤسسات الدولة، حيث أدى التفكك التدريجي للبنية الاجتماعية الداعمة، مع القمع المنظّم والحظر السياسي، إلى تحويل اليسار من حركة جماهيرية إلى نخبة مثقفة محاصَرة [3]. وقد تجلى هذا التحول في التناقص الهائل في عدد المنظمين النقابيين ما بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي.

ومع انهيار المشروع الاشتراكي العالمي وبروز موجة العولمة النيوليبرالية، دخل اليسار السوداني في أزمة وجودية عميقة. فبدلاً من تطوير نقد ذاتي جذري، انخرطت تيارات واسعة منه في عملية "انزياح إلى الوسط"، تخلت خلالها عن الخطاب الطبقي لصالح خطاب ليبرالي يركز على الديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان [4]. هذا الانزياح الأيديولوجي لم يكن بريئاً، بل كان تعبيراً عن تحوّل طبقي عميق، حيث أصبحت البنية الطبقية لليسار تتكوّن أساسًا من موظفين وأكاديميين وناشطين في منظمات المجتمع المدني، أي من فئات برجوازية صغيرة لم تعد مرتبطة بوسائل الإنتاج، بل بالمؤسسات البيروقراطية والتمويل الخارجي [5].

لقد تجلى هذا التحول الإصلاحي بوضوح في تخلي أجزاء واسعة من اليسار عن نقد الرأسمالية والاستعمار، والتركيز بدلاً من ذلك على سياسات الهوية والشعارات العامة مثل "الحكم الرشيد" و"المجتمع المدني". وكما أشار لينين في نقده للانتهازية، فإن الإصلاحية ليست مجرد ضعف في الإرادة، بل هي نتاج مادي لارتباط الحزب بطبقة اجتماعية وسطى تخشى التغيير الجذري لأنها مستفيدة من الوضع القائم [6]. وهذا ما يفسر التحالفات المتكررة لليسار مع قوى برجوازية، كما حدث في تحالف 1964 مع الأحزاب التقليدية، وتحالف 1985 مع القوى الإسلامية، وتحالف 2019 مع العسكر.

في الجانب التنظيمي، شهد اليسار السوداني تحولاً دراماتيكياً من نموذج الحزب الطليعي إلى نموذج منظمات المجتمع المدني. فالكوادر التي كانت تناضل ضمن أطر حزبية ثورية، تحولت إلى العمل في مؤسسات تمويل أجنبية ومنظمات غير حكومية [7]. هكذا تحوّل اليسار الذي كان يتحدث باسم الطبقة العاملة إلى يسارٍ يتحدث بلغة الممولين. هذا التحول لم يكن تنظيمياً فحسب، بل كان تحولاً جوهرياً في الرؤية والاستراتيجية، حيث تم استبدال هدف تحطيم الدولة بهدف إصلاحها، والاستعاضة عن الصراع الطبقي بـ"المشاركة السياسية". وقد ساهم التمويل الأجنبي والمنظمات الدولية في تعميق هذا الانحراف، حيث تشكّل ما يمكن تسميته "اليسار الحقوقي" الذي يتحدث بلغة الحرية والمواطنة، لكنه يتجنب الحديث عن الملكية والاستغلال [8]. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 70% من منظمات المجتمع المدني السودانية تتلقى تمويلاً أجنبياً مباشراً.

إنّ أزمة اليسار السوداني هي، في جوهرها، أزمة انقطاع بين النظرية والممارسة تعكس واقعًا جديدًا. فبينما يرفع شعارات ماركسية، يعيش في واقعٍ برجوازيٍ صغيرٍ يعيد إنتاج ما يفترض أنه ينقضه [9]. لقد فقد اليسار علاقته بالطبقة العاملة والفلاحين – أي بالفاعل الثوري الحقيقي – وتحول إلى نخبة تنظيرية تكتفي بالنقد دون ممارسة التغيير. وهذا ما يفسر لماذا فشل اليسار في تقديم بديل ثوري حقيقي خلال ثورة ديسمبر، حيث وجد نفسه أسير خطاب إصلاحي لا يختلف جوهرياً عن خطاب القوى الليبرالية.

غير أنّ هذا المسار ليس قدريًا، فإمكانية استعادة اليسار لطبيعته الثورية لا تزال قائمة، شريطة أن يعيد الارتباط بالطبقة العاملة وبالواقع المادي للشعب. إن تجاوز هذه الأزمة يتطلب قطيعة جذرية مع التراث الإصلاحي وبناء حزب ثوري جديد، يستند إلى تحليل طبقي جذري للواقع السوداني، ويعيد ربط النضال من أجل الديمقراطية بالنضال من أجل الاشتراكية [10]. فالثورة ليست مشروعًا أخلاقيًا بل ضرورة تاريخية تنبع من تناقضات الواقع نفسه، وحده يسار مادي جدلي، متجذر في الصراع الطبقي، قادر على أن يخرج من أزمته، كما استطاع اليسار التنزاني والإثيوبي - في تجارب مختلفة - إعادة بناء تحالفات طبقية راديكالية.

"إن مهمة الشيوعي ليست التكيف مع التيار الإصلاحي، بل تحويل الوعي التلقائي للطبقة العاملة إلى وعي ثوري منظم."
فلاديمير إليتش لينين.

النضال مستمر،،
-------------------------
المراجع:
[1] Karl Marx, The German Ideology, Progress Publishers, 1968.
[2] Amina Badr, The Sudanese Left: History and Transformations, Routledge, 2019.
[3] Mohamed A.M. Salih, Sudan: Post-Independence Class Structure and the Crisis of the State, Nordiska Afrikainstitutet, 1990.
[4] David Harvey, A Brief History of Neoliberalism, Oxford University Press, 2005.
[5] Ellen Meiksins Wood, The Retreat from Class: A New "True" Socialism, Verso, 1998.
[6] Vladimir I. Lenin, "Left-Wing" Communism: An Infantile Disorder, Progress Publishers, 1920.
[7] Nicos Poulantzas, State, Power, Socialism, Verso, 1978.
[8] Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks, International Publishers, 1971.
[9] Frantz Fanon, The Wretched of the Earth, Grove Press, 1963.
[10] Vladimir I. Lenin, What Is to Be Done?, Progress Publishers, 1902.



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 4. التشكيلة الاجتماعية السودانية: تحليل طبقي للبنية المعقدة
- 3. الماركسية واللاعنف: قراءة في صراع النظرية والتاريخ
- 2. السودان والمأزق النظري: تشريح إخفاق الثورة السلمية
- الماركسية والثورة السودانية – جدل النظرية والممارسة 1. المار ...
- 10. آفاق الثورة السودانية في السياق الأممي: نحو قطيعة مع أوه ...
- رأسمالية التعليم وإخصاء الوعي
- 8. القطيعة الثورية: الاشتراكية كطريق وحيد لتحطيم أوهام الإصل ...
- 7. البرجوازية الطفيلية: الحلقة المفقودة في أزمة الإصلاح السو ...
- ثقافة الدوبامين: بين التشييء الرقمي واستلاب الوعي
- 6. المأزق البنيوي لشعارات -السلام–الحياة–الانتقال-
- 5. البعد الإمبريالي للمشروع الإصلاحي
- 4. أوهام الانتقال المدني الديمقراطي
- 3. مأزق السلام الليبرالي
- 2. من حماية الأرواح إلى احتواء الثورة: تفكيك ماركسي لشعار ال ...
- 1. السلام، الحياة، الانتقال: مدخل ماركسي لفهم أوهام الإصلاح ...
- 14. الخاتمة: نحو بديل ثوري
- بيان المكتب السياسي: شعارات عامة بلا تحليل طبقي ملموس
- الحدود كجهاز قمع طبقي في عصر الإمبريالية
- 13. المهام الطبقية للثورة السودانية: من الوطني إلى الاشتراكي
- 12. مقاومة الهامش: الحركات الاجتماعية البديلة خارج الأطر الت ...


المزيد.....




- بلاغ صحفي للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- إسرائيل، لا الصهيونية ولا دولتها قابلة للإصلاح
- نضالات جيل- زد212: ماذا بعد خطاب الملك؟
- بلاغ إخباري للمكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي
- كلمة الميدان: العدالة ومحاكمة مجرمي الحرب في السودان
- دولة الاحتلال: أعراض العلة السوفييتية الراجعة
- العدد 623 من جريدة النهج الديمقراطي
- بيان المكتب الجهوي لحزب النهج الديمقراطي العمالي بجهة الجنوب ...
- بيان صحفي صادر عن القوى الثلاث – الجبهة الشعبية وحماس والجها ...
- حماس والفصائل الفلسطينية: مساع لعقد اجتماع وطني بدعم مصري لت ...


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 5. اليسار السوداني: الأزمة الاصلاحية وتحول البنية الطبقية