|
|
مقدمة نقدية أدبية عن قصص ثلاث تلخص الهولوكوست الذي اقترفه البيت الابيض في غزة
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8505 - 2025 / 10 / 24 - 09:51
المحور:
الادب والفن
مقدمة نقدية أدبية للقصص الثلاث: "دفن الألوان تحت الركام"، "المدينة التي أكلت أطفالها"، "ظلال الجسد المسروق"
المقدمة: القصة كمرآة للألم والمقاومة
الأدب، كما يراه الناقد الأمريكي ليونيل تريلينغ، هو "الصوت الإنساني الذي يحمل الحقيقة عندما يصمت العالم"، وفي القصص الثلاث المذكورة أعلاه، نجد هذا الصوت يتردد بقوة في أزقة غزة المدمرة، حيث تتشابك الإنسانية المجروحة مع المقاومة الراسخة. هذه القصص – "دفن الألوان تحت الركام"، "المدينة التي أكلت أطفالها"، و"ظلال الجسد المسروق" – ليست مجرد نصوص أدبية، بل هي شهادات حية على واقع الاحتلال، الحصار، والانتهاكات الإنسانية التي تتجاوز حدود الوصف. إنها تحمل في طياتها صرخة الأمهات، دموع الأطفال، وصمت الأنقاض، مقدمةً نقدًا لاذعًا للظلم الاستعماري والعنف الممنهج.
تتشارك هذه القصص في موضوع رئيسي: الصراع بين الحياة والموت في سياق الاحتلال، حيث تصبح الأجساد، الأحلام، وحتى الجثث أهدافًا لنظام يسعى إلى طمس الهوية الفلسطينية. مستلهمةً من أعمال نقدية عالمية مثل تحليلات إدوارد سعيد للاستشراق والقوة الاستعمارية، وتأملات والتر بنيامين في العنف كأداة للسيطرة، تقدم هذه القصص رؤية أدبية عميقة للواقع الفلسطيني، حيث الألوان، الدوائر، والجثث تصبح رموزًا للمقاومة والأمل. في هذه المقدمة النقدية، سنستكشف كيف تعمل هذه النصوص على تفكيك الرواية الاستعمارية، وكيف تستخدم الرمزية، السرد، والشخصيات لتصوير الألم والصمود، مع الاستفادة من أفضل ما كتب في النقد الأدبي العالمي.
1. السياق التاريخي والثقافي: غزة كمركز للصراع الأدبي
كما يشير إدوارد سعيد في كتابه (الثقافة والإمبريالية)، فإن الأدب في سياق الصراعات الاستعمارية ليس مجرد تعبير فني، بل هو أداة لمقاومة الهيمنة الثقافية والسياسية. القصص الثلاث تقع في غزة، مكان يمثل، بحسب سعيد، "الفضاء المضاد" للسردية الصهيونية التي تسعى إلى محو الوجود الفلسطيني. غزة، بأزقتها الضيقة وجدرانها المثقوبة، تصبح ليست مجرد خلفية مكانية، بل شخصية سردية تحمل ذاكرة الألم والصمود. في "دفن الألوان تحت الركام"، يتحول زقاق الشجاعية إلى مسرح للمأساة، حيث الألوان (الأحمر والأخضر) ترمز إلى الحياة التي يحاول الاحتلال دفنها. وفي "المدينة التي أكلت أطفالها"، تصبح المدينة نفسها كائنًا مفترسًا، لكن هذا الافتراس ليس طبيعيًا، بل هو نتاج العنف الاستعماري. أما في "ظلال الجسد المسروق"، فإن المخيم والمستشفى يصبحان فضاءات للانتهاك، حيث يُسلب الجسد الفلسطيني حتى بعد الموت.
الناقدة باربرا هارلو، في كتابها (أدب المقاومة)، ترى أن الأدب الفلسطيني يعمل كسلاح لاستعادة السردية الوطنية. هذه القصص تتجاوز الواقعية التوثيقية إلى الرمزية، حيث تصبح الألوان، الدوائر، والجثث أدوات لتحدي السردية الصهيونية التي تصور الفلسطيني كـ"آخر" غير إنساني. إن اختيار غزة كفضاء سردي يعكس وعيًا عميقًا بالتاريخ والجغرافيا، حيث تصبح الأرض نفسها شاهدًا على الجريمة ومسرحًا للمقاومة.
2. الرمزية: الألوان، الدوائر، والجثث كرموز للمقاومة
الرمزية هي جوهر هذه القصص، حيث تستخدم العناصر البسيطة – الألوان، الدوائر، الجثث – لتقديم نقد عميق للعنف الاستعماري. الناقد الفرنسي رولان بارت، في كتابه *أساطير*، يرى أن الرموز في الأدب ليست مجرد زخارف، بل هي لغة ثانية تحمل معاني سياسية وثقافية. في "دفن الألوان تحت الركام"، القميص الأحمر والأخضر يرمزان إلى الحياة والأمل، مستحضرين ألوان العلم الفلسطيني، لكنهما يُدفنان تحت الركام كرمز لمحاولة الاحتلال طمس الهوية الوطنية. لكن عودة الأطفال في الحي لارتداء هذه الألوان تعكس الصمود، كما لو أن الحياة ترفض الاستسلام.
في "المدينة التي أكلت أطفالها"، تبرز الدوائر التي يرسمها فؤاد كرمز للأمل الدائري، الذي لا ينتهي رغم الدمار. الناقدة سوزان سونتاج، في كتابها *فيما يخص ألم الآخرين*، تشير إلى أن الفن في أوقات الحرب يحول الألم إلى رمز للتحدي. الدوائر هنا ليست مجرد رسومات طفولية، بل هي محاولة لخلق عالم بديل، عالم لا يعرف العنف. أما في "ظلال الجسد المسروق"، فالجثة تصبح رمزًا للانتهاك الاستعماري الأقصى، حيث يُسلب الفلسطيني حتى حرمة موته. الناقد غياتري سبيفاك، في مقالها (هل يمكن للمهمش أن يتكلم؟)، ترى أن الجسد المُهَمش يصبح نصًا مقاومًا عندما يُوثق انتهاكه. جثة إسماعيل، التي تُسلب أعضاؤها، تصبح شهادة على جريمة تفوق النازية، كما تُكرر القصة.
3. السرد: تعدد الأصوات وتفكيك الرواية الاستعمارية
القصص الثلاث تعتمد على تعدد الأصوات السردية، وهي تقنية تذكرنا بما نادى به ميخائيل باختين في مفهوم "المتعدد الأصوات" (polyphony). في "دفن الألوان تحت الركام"، نسمع صوت الأم، الأطفال، والجنود، مما يكشف عن التناقض بين البراءة والعنف. صوت الأم، الذي يتحول من الدفء إلى الصرخة، يعكس تحطم الإنسانية أمام الجرافات. في "المدينة التي أكلت أطفالها"، تتعدد الأصوات بين الأم، الجندي، الصحفي، الدبلوماسي، الطبيب، والمعلمة، مما يخلق لوحة معقدة تكشف عن تواطؤ العالم في المأساة. أما في "ظلال الجسد المسروق"، فإن صوت سلوى، الدكتور أحمد، حنة، وحسام يشكل جوقة من الألم والمقاومة، حيث كل صوت يكمل الآخر ليكشف عن الجريمة.
هذه التعددية السردية، كما يرى باختين، تتحدى السردية المهيمنة التي تحاول تقديم الاحتلال كـ"دفاع عن النفس". القصص تفكك هذه الرواية من خلال إبراز الإنسانية المسحوقة للضحايا، مستلهمةً من أعمال ناقدات مثل جوديث بتلر، التي ترى في كتابها (إطارات الحرب) أن الأدب يمكن أن يعيد إنسانية "الأرواح التي لا تُعتبر أرواحًا". الجنود، الذين يُصورون كآلات في القصص، يعكسون نزع الإنسانية من الجاني والضحية على حد سواء، بينما صوت الأمهات (سلوى، أم يحيى، الأم في الشجاعية) يصبح الصوت المقاوم الذي يرفض الصمت.
4. الشخصيات: تجسيد الألم والصمود
الشخصيات في القصص ليست مجرد أفراد، بل هي تجسيد لتجارب جماعية. الأمهات – سلوى، أم يحيى، والأم في "دفن الألوان" – يمثلن الأمومة الفلسطينية التي تحمل وزر الألم والمقاومة. كما يرى الناقد جوزيف كامبل في *بطل بألف وجه*، فإن الأم في الأدب غالبًا ما تكون رمزًا للأرض والحياة. هنا، الأمهات لسن فقط رمزًا للحياة، بل للصمود، حيث يحملن ذكرى أطفالهن كسلاح ضد النسيان. الطفلان في "دفن الألوان"، فؤاد في "المدينة"، وإسماعيل في "ظلال الجسد" يمثلون البراءة المسحوقة، لكنهم أيضًا يحملون بذور الأمل، سواء من خلال الألوان، الدوائر، أو الجثث التي تصبح شهادات.
من ناحية أخرى، الجنود والضباط (كبنيامين في "ظلال الجسد" أو الجندي في "المدينة") يمثلون النظام الاستعماري، لكنهم ليسوا كليًا شريرين. حنة، الطبيبة في "ظلال الجسد"، تقدم لحظة من التمرد الإنساني، مما يذكرنا بتحليلات هانا آرنت في *بانالية الشر*، حيث العنف ليس نتاج وحوش، بل أنظمة تجرد الأفراد من إنسانيتهم. هذه الشخصيات تعكس التوتر بين الفرد والنظام، مما يجعل القصص ليست فقط شهادة على الألم، بل نقدًا للآليات التي تُنتجه.
5. الأسلوب الأدبي: بين الواقعية والرمزية
القصص تجمع بين الواقعية القاسية والرمزية الشاعرية، مما يذكرنا بأسلوب غابرييل غارسيا ماركيز في *مائة عام من العزلة*، حيث يمتزج الواقع بالسحر ليخلق نصًا يتجاوز الحدث إلى الرمز. في "دفن الألوان"، الوصف الدقيق للزقاق والجرافات يعكس الواقعية، بينما الألوان تصبح رمزًا شاعريًا للأمل. في "المدينة"، تتحول الدوائر إلى لغة شاعرية تتحدى العنف، بينما في "ظلال الجسد"، تصبح الجثث نصوصًا تحكي قصة الانتهاك.
الناقد تيري إيغلتون، في كتابه *كيف تقرأ الأدب*، يرى أن الأسلوب الأدبي هو طريقة لتشكيل الواقع. هنا، الأسلوب يعكس التوتر بين الواقع القاسي والأمل الشاعري، مما يجعل القصص ليست مجرد وثائق للألم، بل دعوات للتأمل والمقاومة.
6. النقد الأخلاقي: مواجهة الصمت العالمي
القصص تطرح تساؤلات أخلاقية عميقة، مستلهمة من أعمال ناقدين مثل جوديث بتلر وسوزان سونتاج، اللتان تناولتا كيف يتعامل العالم مع ألم "الآخر". في "ظلال الجسد المسروق"، تُظهر سرقة الأعضاء كيف يتحول الجسد الفلسطيني إلى سلعة في النظام الاستعماري، مما يذكرنا بتحليلات سبيفاك عن استغلال المهمشين. في "المدينة"، فشل الصحفي والدبلوماسي في نقل الحقيقة يكشف عن تواطؤ العالم، بينما في "دفن الألوان"، صرخة الأم تتحدى الصمت العالمي.
7. الخاتمة: الأدب كمقاومة
في النهاية، هذه القصص ليست مجرد نصوص أدبية، بل هي أعمال مقاومة. كما يرى نغوغي وا ثيونغو في *إزالة استعمار العقل*، فإن الأدب في سياق الصراع يصبح أداة لاستعادة الكرامة. الألوان، الدوائر، والجثث ليست مجرد رموز، بل هي دعوات للعالم ليرى الفلسطيني كإنسان، كحامل للأمل والألم. من خلال الاستلهام من النقد العالمي، تبرز هذه القصص كشهادات على وحشية الاحتلال، وكذلك على صمود الروح الفلسطينية، التي ترفض أن تُدفن تحت الركام.
…………………
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثلاث قصص عن هولوكوست غزة الذي اقترفه البيت الابيض
-
كيف أوقعت الصين الناتو في فخ -الأسلحة الناقصة-!
-
الصين تُحلّق في سماء العالم بينما الغرب يُحارب طواحين الهواء
...
-
الإخوان المسلمون في كوميديا الخلط العالمي
-
حسن نصرالله يُرعب أباطرة التكنولوجيا والإبادة بابتسامته وكلم
...
-
نتنياهو والكيان النازي الصهيوني المارق... كوميديا مكررة
-
الصين تقلب الطاولة: كوميديا التربة النادرة وانهيار إمبراطوري
...
-
مرتزقة الخليج وفتح: كوميديا الخيانة في عشرة مشاهد !
-
من بروكسل إلى نوبل : كيف تغسل جريمة إبادة جماعية في خمس خطوا
...
-
بوشيه وعصابة البيجرات المتفجرة – سيرك الكذب الليبرالي حيث تن
...
-
رواية : -طريق الحرير المقاوم-
-
اوهام المحتل : دروس من الجزائر وغزة.. وكيف يحلم -الأبطال- با
...
-
شريعة الغاب: مغامرات العم سام في عالم البلطجة العالمية!
-
إيران ترسل صواريخها إلى الفضاء الخارجي.. والبيت الأبيض يبحث
...
-
ثيو فرانكن يعيد اختراع بلجيكا: من الضمان الاجتماعي إلى قصر ا
...
-
رواية ديناصور الخراب
-
غزة تدعس على الكيان: كوميديا المقاومة التي أطاحت باللوبي الص
...
-
رواية -القمر الذي أضاء الخرافات-.. رواية قصيرة جدا
-
ديناصور الخراب: لوييه ميشيل وإرث النازية الجديدة في قلب أورو
...
-
قصص سبع عن مدن الظلال المقيتة أو مدن الوهابية الظلامية
المزيد.....
-
مهرجان الناظور لسينما الذاكرة المشتركة في دورة جديدة تحت شعا
...
-
جولات في الأنفاق المحيطة بالأقصى لدعم الرواية التوراتية
-
الثقافة والتراث غير المادي ذاكرة مقاومة في زمن العولمة
-
الروائي الفلسطيني صبحي فحماوي يحكى مأساة النكبة ويمزج الأسطو
...
-
بعد تشوّهه الجسدي الكبير.. وحش -فرانكشتاين- يعود جذّابا في ا
...
-
التشكيلي سلمان الأمير: كيف تتجلى العمارة في لوحات نابضة بالف
...
-
سرديات العنف والذاكرة في التاريخ المفروض
-
سينما الجرأة.. أفلام غيّرت التاريخ قبل أن يكتبه السياسيون
-
الذائقة الفنية للجيل -زد-: الصداقة تتفوق على الرومانسية.. ور
...
-
الشاغور في دمشق.. استرخاء التاريخ وسحر الأزقّة
المزيد.....
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|