أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كرم نعمة - تونس مختبر الذاكرة














المزيد.....

تونس مختبر الذاكرة


كرم نعمة
كاتب عراقي مقيم في لندن

(Karam Nama)


الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 20:13
المحور: الادب والفن
    


كنت أحاول ان أستعيد خطاي نفسها قبل أكثر من ربع قرن وأنا أتجول اليوم في نهج ابن خلدون وسط العاصمة تونس، وأجد نفسي أراقب التفاصيل كما كنت أفعل من قبل. بائع الغلال الذي كان يبتسم لي في التسعينيات، ويضيف نكهة إلى كل فاكهة، يقف الآن بوجه متجهم، كأن الزمان حجب عنه البسمة. سائقو التاكسي، موظفو البنوك، ونادل المقهى، جميعهم يحملون أثقال الحاضر، بينما المدينة نفسها تتساءل لماذا أقفلت مقهى "مشموم الفل"؟.
الذكريات الجماعية ليست أقل حضورًا. تونس، المدينة، تتحدث بصوت الأمكنة: شارع الحبيب بورقيبة ما زال يحتفظ بضحكات الصباح المبكرة، وأصوات الباعة الذين يصرون على تسويق أرزاقهم برنين الكلمات، والمقاهي التي احتفظت بعطر القهوة وسرديات النقاش. هنا يتقاطع ما عشتهُ أنا كصحافي مع ما يحتفظ به المكان نفسه، لتتشابك الذاكرة الفردية مع الجماعية في لحظة واحدة.
وفي هذه اللحظة أشعر بأن الصلة لم تُقطع أبدا، رغم السنوات التي مرت. تونس تبقى حاضرة، ليس فقط في ما أتذكره، بل في ما يعيشه كل من يمر بها، كل من يتنفس هواءها ويستمع إلى صخبها، وكل من يقرأ أغانيها القديمة ويستحضر الماضي، كما يفعل الهادي الجويني بصوته الملتاع وكما فعل بعده لطفي بوشناق.
تونس اليوم ليست مجرد امتداد لما عشته في التسعينيات، بل أصبحت مختبرًا حيًا لتقاطع السياسة والثقافة، حيث يختبر المجتمع تجاربه الحديثة. في مقاهي العاصمة، يمكن للمرء أن يلمس ما تبقى من النقاشات الفكرية، وما فُقد منها. الأصوات الشابة تتحدث عن الحرية والهجرة والمستقبل، بينما الجدران ما زالت تحتفظ بوشوشات الشعراء والكتاب الذين جلست معهم قبل أكثر من عقدين.
تونس اليوم تواجه تحديات الإعلام الحر، الاقتصاد المريض، والانقسام الاجتماعي، كما تواجه أزمة هويتها الثقافية: كيف تحافظ على أصالتها وتاريخها، وفي الوقت نفسه، كيف تتكيف مع عصر التكنولوجيا؟ هنا، في هذا الاختبار اليومي، تتضح قيمة الذاكرة الفردية: الصحافي الذي عاصر أحداثًا مفصلية، والمواطن الذي يكتب يومياته الصغيرة، يلتقون في تجربة واحدة تصنعها المدينة نفسها.
في هذا الفضاء، يصبح الماضي والمستقبل متوازيين، والذاكرة الفردية والجماعية متداخلة. تونس تحلم بما تبقى من الحرية، وتقاتل من أجل أن تحفظ حيويتها الثقافية، بينما يحتفظ كل فرد بتجربته الخاصة، بصمته، وعلاقته بالمدينة. كلها تشهد على هذا التفاعل الحي، وعلى الطريقة التي تصنع بها تونس نفسها يوميًا، مرةً عبر الفن، وأخرى عبر السياسة، وثالثة عبر الصراع الاجتماعي والاقتصادي.
التقطت صورة من شرفة الفندق في منطقة البحيرة واكتشفت أنني مازلت أبحث عن تونس في تونس! أتجول وأجد المدينة كأنها تختبر نفسها على مدى كل يوم. هنا تتضح ثنائية الماضي والحاضر، حيث تختبر تونس تجربة الحرية، وتجربة الاقتصاد الجديد في مواجهة الفقر والبطالة. كل زاوية تحمل صدى التاريخ، وكل صوت جديد يضيف طبقة على ما تبقى من ذاكرة جماعية مشدودة بين الحنين والتغيير.
في مقهى وسط المدينة، ألتقي اليوم بشباب يقرأون الصحف الإلكترونية بطريقتهم وليس كما كان يفعل ابوزيان السعدي ومصطفى الفارسي. الحوار اليوم صار أكثر جرأة في التعبير، وأكثر مرارة، لكنه لا يخلو من التذمر والفجوة بين ما يريده المواطنون وما تتيحه السلطة، بين ما تحلم به الثقافة وما تسمح به السياسة. تونس تبدو كأنها مختبر حي، حيث تلتقي السياسة والثقافة، ويختبر كل فرد في المدينة قدرته على التأقلم، على المقاومة، وعلى خلق مساحة للحرية داخل الحياة اليومية.
تونس، المدينة، لم تعد مجرد مسرح لما عشته أنا أو من عاش فيها قبل سنوات، بل أصبحت فضاءً لتجربة جماعية مستمرة، حيث تُختبر الحرية، وتُعاد صياغة الهويات، وتتشابك السياسة بالثقافة بطريقة أكثر وضوحًا ومرونة.
وفي هذا السياق، يصبح كل يوم ميدانا لتقاطع التجارب الفردية مع الجماعية: الفنان الذي يعيد إنتاج الأغنية القديمة لمستجدات الحياة، الصحافي الذي يكتب عن السلطة والمجتمع، المواطن الذي يروي يومياته في المقهى أو على الرصيف، كلها طبقات تشكل ذاكرة تونس الحالية. هذه الذاكرة ليست جامدة؛ هي حية، متحركة، أحيانًا متوترة، لكنها دائمًا حاضرة.
أما الفن، فهو الأكثر وضوحًا في هذا الاختبار اليومي. المسرح، السينما، والموسيقى، تعكس صراع المدينة مع نفسها ومع العالم الخارجي. الأغاني التي أتعرف عليها من الماضي تعيد اليوم بصوت جديد، يخلط بين الأصالة والتجربة الحديثة. كل مقطع موسيقي، كل لوحة، كل مقالة مكتوبة، تشهد على العلاقة المعقدة بين تونس كمكان وكمختبر ثقافي، وبين كل فرد يعيش فيها، سواء كان مقيمًا أو زائرًا عابرًا.
تونس، بهذا المعنى، لم تتوقف عن تعليم التاريخ، بل تواصل صياغته كل يوم. هنا ترى كيف تتفاعل السياسة مع الثقافة، وكيف تتقاطع الذاكرة الفردية مع الجماعية، وكيف تتشكل تجربة المجتمع بين ما فقدته المدينة وما تبقيه من حكاياتها. في كل شارع، في كل مقهى، وفي كل لحظة هدوء بعد الصخب، هناك تجربة حية، هناك درس مستمر: عن الحرية، عن التغيير، عن الهجرة وعن القدرة على الاستمرار رغم كل شيء.
تونس اليوم، كما عرفتها في التسعينيات، لم تتوقف عن سرد نفسها، ولم تتوقف عن اختبار حدود الحرية والفكر والفن. الذكريات الفردية التي أحملها، من أمسيات مقاهيها إلى لقاءاتي مع الأدباء والفنانين، لا تزال حاضرة، لكنها تصطف اليوم جنبًا إلى جنب مع ذاكرة المدينة الجماعية، لتصنع حوارًا حيًا بين الماضي والحاضر، بين الفرد والمجتمع.
تظل تونس بالنسبة لي أكثر من مدينة؛ هي مختبر للذاكرة والحرية والفكر، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، وتستمر التجربة اليومية للمدينة والفرد في حوار لا ينتهي، مثل أغنية قديمة تُعاد بصوت جديد، يحمل الحنين والحياة في آن واحد.



#كرم_نعمة (هاشتاغ)       Karam_Nama#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أينتصر القلم على محفظة النقود؟
- دوخي المفقود في تقاسيم الصبا
- فؤاد التكرلي بين حافظ والعناني
- موعد مع أخطبوط!
- ياسمين الخيام تبتهل بالمولد النبوي الشريف
- سليمة خضير تغلق شباك السنين
- الخوف وليس السأم من يطيح بهم
- عريبي والشيخ وبلخياط والجميري
- ترامب وبوتين يعيدان تعريف المسافة السياسية
- لاريجاني في بغداد غيره في بيروت
- في مديح الألفاظ البذيئة!
- مردوخ سلّعَ الصحافة وترامب شيطنها
- الفساد والفشل كشرف سياسي في العراق
- صراع دول على صالح الكويتي
- طريق الأعظمية ينتهي في تونس
- لماذا يخترع الأدباء سيرة مزيفة؟
- وماذا عن صحافيينا القتلى؟
- إنه يتذوّق الموسيقى أيضًا!
- أيّ نوع من الناس نريد أن نكون؟
- ماذا تبقى من مرونة إيران السياسية


المزيد.....




- قناطر: لا آباء للثقافة العراقية!
- المخرج الايراني ناصر تقوائي يودَّع -خاله العزيز نابليون-
- إنجاز جديد للسينما الفلسطينية.. -فلسطين 36- بين الأفلام المر ...
- وليد سيف يسدل الستار على آخر فصول المشهد الأندلسي في رواية - ...
- موسم أصيلة الـ 46 يكرم أهالي المدينة في ختام فعاليات دورته ا ...
- الوجع والأمل في قصص -الزِّرُّ والعُرْوَة- لراشد عيسى
- المخرج المصري هادي الباجوري يحتفل بعقد قرانه على هايدي خالد ...
- سينمائيو بلغاريا ينصرون غزة ويغضبون إدارة مهرجان -سيني ليبري ...
- سينمائيو بلغاريا ينصرون غزة ويغضبون إدارة مهرجان -سيني ليبري ...
- تايلور سويفت تواصل تحطيم الأرقام القياسية.. بيع 4 ملايين نسخ ...


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كرم نعمة - تونس مختبر الذاكرة