أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أحمد كامل ناصر - النقد في غرفة الإنعاش: أزمة العلاقات الاجتماعيّة تقتل الجدليّة في المشهد الثقافيّ














المزيد.....

النقد في غرفة الإنعاش: أزمة العلاقات الاجتماعيّة تقتل الجدليّة في المشهد الثقافيّ


أحمد كامل ناصر

الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 16:18
المحور: قضايا ثقافية
    


يُفترض بالوسط الثقافيّ أن يكون حلبة صراع فكريّ، ومساحة للاشتباك العقلانيّ مع الأفكار والنصوص والظواهر، لكنّ المشهد الأدبيّ والثقافيّ للعرب في الداخل الفلسطينيّ (إسرائيل) يُعاني، على الرغم من ازدهار النشر وكثافة المهرجانات، من خمول نقديّ واضح وغياب للجدليّة الحقيقيّة التي تُلهم الوعي وتصنع التغيير. النقد، الذي هو عقل الثقافة وضميرها اليقظ، تحوّل في غالب الأحيان إلى مجرّد توصيف بارد أو مجاملة اجتماعيّة، مفضلاً الاحتفاء والتطمين على حساب التساؤل والمواجهة. هذه الظاهرة لا تُشير فقط إلى ضعف في أدواتنا النقديّة، بل تعكس هشاشة ذاتيّة وعدم رغبة في دفع الأثمان التي تتطلبها المواجهة الفكريّة الصادقة والعميقة، مكرّسة بذلك حالة من الركود الثقافيّ تحت غطاء النشاط الظاهريّ.
إنّ أبرز أسباب هذا الصمت تكمن في طبيعة المجتمع المحليّ الصغير والمتشابك؛ فالمجتمع العربيّ في الداخل هو "مجتمع قرية كبيرة"، حيث تتداخل فيه الأنساب والعلاقات الشخصيّة والمهنيّة. في هذا المناخ، بات الناقد والمثقف أسير "المجاملة الثقافيّة". يخشى الكثيرون من إثارة العداوات أو كسر الخواطر في شبكات العلاقات الاجتماعيّة الضيّقة، مما يدفعهم إلى النأي عن مقاربة النصوص القويّة التي تحتاج إلى فحص قاسٍ وتفكيك حقيقيّ. يتحول النقد هنا إلى خدمة علاقات عامّة، حيث يُصبح الهدف هو الترويج للنصّ بدلاً من تقييمه. النقد الفاعل، الذي يُحاكم النصوص على أساس جودتها الفنيّة والفكريّة ويُشخص عللها، يغيب ليحلّ محلّه التركيز على توزيع الجوائز والتكريمات على أساس شبكة العلاقات الاجتماعيّة (التي يمكن تسميتها بـ "الواسطة الثقافية). لا يعني هذا غياب النقد الأكاديمي تمامًا، بل يعني غياب النقد الحيّ والفاعل الذي يدخل في صراع مع النصّ ويُغيّر الخارطة الأدبيّة. النقد الموجود غالبًا ما يكون نقدًا مدرسيًّا تنظيريًّا يُحلل البُنى دون أن يتورط في القيمة، أو مديحًا لاذعًا يُخفف من حدة النقد الجديّ.
وعلى سبيل المثال، عند صدور روايات تعالج قضايا شائكة مثل العنف المجتمعيّ أو الفساد داخل البلديّات العربيّة، أو قضايا الأقليّات الجنسيّة، نجد أنّ النقاش العامّ يميل إلى تجميل العمل باعتباره مجرد "عمل جريء" دون التعمق في مدى نجاحه الفنيّ أو فعاليّة طرحه الاجتماعيّ. هذا التجنّب يُبقي على القضايا الكبرى مُعلّقة، ويُفوّت الفرصة على الأدب ليصبح أداة تغيير حقيقيّة. هذا الموقف يتفاقم بسبب طبيعة العلاقة بين المثقّف والمؤسسّة، لا سيما في سياق يغلب عليه شحّ مصادر الدعم المستقلة. المؤسسات الثقافيّة والإعلاميّة، وخاصّة تلك التي تعتمد على التمويل المشروط، غالبًا ما تُبرمج نشاطها لتجنب أي صدام أو خطاب مُتمرّد يُمكن أن يُفَسَّر على أنّه "تحريضيّ". هذا الوضع يُقيّد حريّة الطرح ويُركّز على المادة الإخباريّة المحايدة أو الأعمال التي تُركّز على الفلكلور والتراث بعيدًا عن الأسئلة السياسيّة والاجتماعيّة الراهنة، ويتحول المعيار من الجودة النقديّة والفكريّة إلى القدرة على التكيّف.
في هذا السياق، نجد أنّ ظواهر مثل المهرجانات الأدبيّة وفعاليّات توقيع الكتب تتزايد، لكنّها تظلّ خاوية من المحتوى الجدليّ. تُخصص الصفحات الثقافيّة والمنابر الإعلاميّة للمادة الإخباريّة والمقالات الخاملة والحوارات الباردة، بينما يغيب الفضاء المخصّص للنقد المضادّ والأصوات المُنْشَقَّة التي تستطيع تفجير الأسئلة الكبرى. هذا هو جوهر ما يمكن تسميته بـ "البؤس الثقافي"؛ إذ أنّ الفعل الثقافيّ يتحول بمجمله إلى منظومة صور شكليّة لا تلامس جوهر الفعل الثقافيّ الذي يفترض به أن يكون جزءًا من حركة تاريخيّة اجتماعيّة.
ساهمت التكنولوجيا الحديثة، لا سيما مع ظهور ندوات "الزوم" والمنصات الثقافيّة الرقميّة، في تضخيم الوهم الثقافيّ. أتاحت هذه المنصات كثافة في الفعاليات لكّنها قللّت من جودة النقاش وعمقه. تحولّت الندوات الأونلاينية إلى ما يُسمى بـ "التكنوثقافة"، حيث تُصبح الفعاليّة مجرد تسجيل صوتيّ وبصريّ، يخلو من الحوار النديّ القائم على الاختلاف الجذريّ. الجميع يتفق، والجميع يمدح، والجميع يبتسم في الكاميرا؛ ولا تظهر أي قيمة اختلافيّة صراعيّة تُحرّك الفعل الثقافيّ. إنّ المشهد الثقافيّ والفكريّ الحقيقيّ ينهض على قيمة الصراع الفكريّ، أو ما يُسمى بـ "أدب المناظرات". حين يغيب هذا الصراع، تُصبح الثقافة مجرد مجموعة من النصوص البائتة والحوارات الباردة. هذا التململ الثقافيّ هو مجرد مؤشر على خيبة إبداعيّة تتجاوز الحيّز الثقافيّ إلى الفضاء الاجتماعيّ، إذ تدلّل على أنّ الفعل الثقافيّ الجادّ ليس من أولويات أي مؤسسة أو ذات تشتكي من النقد.
في النهاية، لا يمكن للمشهد الثقافيّ العربيّ في الدّاخل أن ينهض فعليًّا إلّا بكسر هذا الصمت النقديّ. يجب على الإعلام الثقافيّ والمنصات الجديدة أن تتحمل مسؤوليتها في توليد الأسئلة الحارقة وإثارة القضايا الجدليّة بدلاً من الاكتفاء بالتغطيّة الإخباريّة والمدح المتبادل. نحن بحاجة إلى جيل نقديّ مُتَمَرّد يرفض القوالب المدرسيّة والاجتماعيّة، جيل يتبنى النقد اللاذع والفاعل كجزء أصيل من حركته الثقافيّة-الاجتماعيّة. النقد ليس ترفًا، بل هو فعل إنسانيّ واعٍ يفرض المساءلة العقلانيّة على النصّ والسلطة والمجتمع. إنّ الثقافة التي تخشى الصراع تموت في صمت وتصبح ديكورًا لواقع متردٍ، ولن ينهض أدبنا إلّا إذا استعاد النقد وظيفته الحارقة كضمير مُستيقظ وعقل مُعارض للركود والوهم.
الطيرة – 7.10.2025



#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الصّمت والمقاومة: قراءة في رواية -لتكن مشيئتك-
- فاضل جمال علي: شاعر الطفولة وصوت الهويّة الفلسطينيّة في أدب ...
- مِنَ الصَّوْتِ إِلى الصَّمْتِ إِسْتِرَاتِيجِيَّاتُ التَّعْبِ ...
- المعلِّمُ العربيُّ: من مصدرٍ للمعلوماتِ إلى مُوَجِّهٍ للمعرف ...
- جمال عبد الناصر القائد الذي سكن قلوب العرب
- محمد علي طه: عميد القصّة الفلسطينيّة بين التجربة الإنسانيّة ...
- الأطلال في الأدب الحديث: سرديّات الذاكرة والغياب
- أدونيس ورؤاه في ثقافة الفرد والحاكم العربي: جدلية المصلحة وا ...
- الأدباء بين التهميش والانتشار
- أثر الكتابة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي على الأجناس الأ ...
- ردّ على مقال الدكتور رافع يحيى: الحداثة وما بعد الحداثة بين ...
- الأحزاب العربية في الكنيست: حضور بلا تأثير!
- المناهج التعليميّة لا تواكب العصر ولا تلبي احتياجات سوق العم ...
- من الصمت إلى الصوت: إصلاح التعبير الشفوي في التعليم الابتدائ ...
- تراجع الأدب العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين: بين الواقع ...
- ضعف تمثيل النساء العربيات في مواقع القرار في الداخل الفلسطين ...
- هل الأدبُ يعكسُ الواقعَ النفسيّ أم يشكّله؟ قراءةٌ نقديّةٌ في ...
- الإدمان الرقمي.. حياة مسروقة خلف الضوء الأزرق
- الشعر في زمن الفيسبوك والواتساب وتحوّلات صورة الشاعر العربي ...
- هل يمكن تحقيق الوحدة وإعادة بناء القائمة المشتركة


المزيد.....




- سعد لمجرد يتضامن مع فضل شاكر.. وهذا ما أعلنه ابنه محمد
- مصر تودع أحمد عمر هاشم والسيسي ينعيه: عالم جليل وداعية كبير ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض 4 مسيرات أطلقها الحوثيون خلال س ...
- يائير لابيد لـCNN: متفائل بشأن محادثات وقف إطلاق النار.. وخط ...
- أم رهينة لدى حماس لا تعرف ما إذا كان ابنها -حياً أم ميتاً-
- إسرائيل تتذكر 7 أكتوبر مع استمرار حرب غزة واستئناف محادثات ا ...
- مقبرة السيارات في إسرائيل تصبح نصباً صامتاً لضحايا هجوم حماس ...
- -ترامب حقق ما عجز عنه الآخرون-.. عائلات الرهائن تطالب لجنة ن ...
- الفلسطينيون في غزة يحيون ذكرى مرور سنتين على الصراع والخسائر ...
- ترحيل غريتا تونبرغ من إسرائيل بعد انضمامها لأسطول مساعدات غز ...


المزيد.....

- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أحمد كامل ناصر - النقد في غرفة الإنعاش: أزمة العلاقات الاجتماعيّة تقتل الجدليّة في المشهد الثقافيّ