أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - السيد جبار














المزيد.....

السيد جبار


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 14:11
المحور: الادب والفن
    


استدعى مدير المدرسة وليّ أمر التلميذ جبار. قال بلهجة الغاضب جبار ولدكم "هتلي"، لن ينفع في الدراسة. لقد استهلك عشر سنوات في الابتدائية ولم يجتز عتبة الصف الخامس... سلوكه مع التلاميذ الأصغر يثير الريبة. عاد الأب مهموماً، يحمل بين يديه ورقة فشلٍ لا تحتاج إلى توقيع. فكّر بطرده من البيت، ثم تراجع يبحث في داخله عن عذرٍ مقبول يقنع به نفسه. قال في سرّه : لعل الصبر أولى، والخدمة العسكرية كفيلة بصناعة الرجال.
وفي اليوم التالي اصطحب جبار إلى مركز التطوع العسكري، بعد إعلانٍ سمعه عن حاجة الجيش إلى متطوعين في التموين والنقل.
دخل جبار بوابة المركز يتلفّت كمن أضاع الطريق إلى المستقبل. كانت الساحة تغصّ بالمتطوعين الجدد؛ أصوات آمري الحضائر وصرخاتهم، رائحة الغبار الممزوجة بأنفاس المتدربين، والسماء الرمادية تخيّم على المكان كأنها تؤدي واجبًا هي الأخرى.
قضى أيامه الأولى متنقلاً بين قاعة الدرس وساحة التدريب، يجرّ ساقيه خلف الأوامر. لم يكن يعرف تماماً ما ينتظره، ومع هذا كان متيقناً إلى أن الجيش بعد حربين صار مجالاً مناسباً لأكل العيش.
في اليوم التالي، وقف الآمر في الساحة يتفقد المتدربين الجدد. صوته الغليظ يتنقّل بين الصفوف كقذيفةٍ صوتية تضبط الإيقاع. توقف أمام النسق وسأل بصوتٍ جهوري: من يجيد العمل في البناء؟
تقدّم جبار خطوة إلى الأمام وقال بثقة لم يتعودها بعد: نعم سيدي... خلِّني على يمناك.
أُعجب الآمر بليونة لسانه، وأشار إليه بعصا التبختر قائلاً: رحبة العجلات تحتاج سوراً ومخزناً. اذهب إلى المساعد، هناك مبلغ لشراء المواد الأولية، اشترِ ما تحتاج، وباشر العمل غداً.
عاد جبار بعد الظهر بالمواد المطلوبة، ومعها ساعة أهداها إلى الآمر؛ كان قد أضاف ثمنها إلى قوائم الشراء دون تصريح. وفي نهاية الأسبوع، حين اكتمل العمل، وقف إلى جانب الآمر وقال بابتسامةٍ واثقة: سيدي، زوّارك كثيرون وأنت ابن عشيرة معروفة، دعنا نبني لك مقراً يليق بك.
ضحك الآمر وردّ مجاملاً: لا توجد تخصيصات.
استعد جبار في مكانه، قال وهو يؤدي التحية بنشاط: اتركها عليّ، سيدي، وسأتدبّر الأمر.
وفي اليوم التالي بدأ جبار حملته بين المتدربين، يساومهم بالسرّ: يوم الإجازة بعشرة آلاف دينار... تبرعاً لبناء المقر. ومع اكتمال البناء، استلم شهادة الناجح الأول في الدورة، ونُسّب إلى كتيبة النقلية الآلية الأولى، يحمل توصية إلى الآمر الجديد، وشيئاً من الثقة... جعلته خلال أشهر قليلة سائق الآمر وكاتم أسراره.
في الكتيبة تعلّم جبار كيف تُدار الأمور من تحت الطاولة. كان سائقاً موثوقاً للآمر، يرافقه في تنقلاته، ويسمع أكثر مما يُطلب منه. في صباح الخامس من نيسان 2003، أوصل الآمر إلى بيته في الغزالية. كان التوتر يملأ المدينة، والحماية تفرّقت تاركة أسلحتها على العتبة.
وقف جبار أمام الباب ينتظر، ثم التفت إلى السيارة والأسلحة الملقاة، فابتسم لنفسه كمن وجد تفسيرًا عمليًا لكلمة الفرصة. عاد بها إلى البيت، حتى صباح التاسع من نيسان الذي بدا كأنه بوابة فُتحت بلا حارس؛ مدينة تستيقظ على أصوات النهب والدخان، وكلٌّ يأخذ نصيبه من الفوضى. في ذلك الصباح، قرر أن يتخلص من كلمة هتلي الى الأبد. جمع إخوته وقادهم نحو فرع المصرف في المنطقة.
خرجوا بما استطاعوا حمله من المال، ثم اختفوا في الزحام الذي ابتلع كل شيء بعد تلك الأيام. لم يسمع أحدٌ عنه بعد ذلك، إلى أن جاء زمن اللافتات والوعود والانتخابات.
يوم الخامس من تشرين، امتلأت شوارع بغداد بصور رجلٍ بوجهٍ مألوف، يضع كوفية خضراء على كتفيه، ويبتسم ابتسامة واعظٍ يرى في نفسه المنقذ. تحت الصورة كُتب بخطٍ عريض:
السيد عبد الجبار – أمين عام حزب الاستقامة النزيهة… مرشح الفقراء.
كانت شعاراته تزاحم السيارات وتسد الأرصفة: معًا من أجل إعانة المحتاجين: سويّة ننصف المظلومين: يدًا بيد نبني دولة الإيمان. يقرؤها الناس بشغف. بعضهم يتأملون ويتمنّون، والبعض الآخر من أبناء المحلّة يهمسون: أليس هذا جبار الهتلي؟ ويردّ آخرون بابتسامةٍ خبيثة: صار السيد عبد الجبار... عاد ليبني العراق كما بنى المقرات القديمة، بالتبرعات.
وفي مساء اليوم ذاته، راحت قناة المختار تبث مقابلةً معه على الهواء. ظهر بملامحه المطمئنة وكوفيته الخضراء، يتحدث بصوت الواثق، قائلاً: منذ صغري وأنا أخدم الوطن بطريقتي... واليوم أريد أن أُعيد له ما أعطاني.
ابتسم المذيع متأثرًا، وأومأ بإعجابٍ مصطنع. أما الذين يعرفون قصته القديمة من أبناء محلّته، فاكتفوا بابتسامةٍ أخرى... ابتسامة من يرى اللصّ يعتذر باسم الله.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
- عبد الرزاق النايف: رحلة من القصر الى القبر
- امرأة في حضرة الظل
- من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية
- حين يضحك الوزير
- سجن يبيع الحياة
- في بريد الوزير
- عروس التاسعة
- الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاو ...
- عندما يرفع القبو
- من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل
- من أطلال الحرب إلى أيقونة السياحة… حكاية قلعة بامبرة
- بين إنجلترا واسكتلندا: قرية تزهر بالحب والهروب
- مدينتان على ضفتي التاريخ: ليدز ويورك
- رحلة في أزقة الزمن وذاكرة الحجر
- حين تنطق لندن....
- حين يصاب الوطن بالتبلد
- تداعي الدولة العراقية: حين تنهار البُنى من داخلها
- مسرح الحريق: العراق بين لهب المأساة وقيد البندقية
- حين يسير العراق إلى حتفه: مرآة النفس الجمعيّة المعطوبة


المزيد.....




- الجديد : مجموعة شعرية لمصطفى محمد غريب ( لحظات بلون الدم )
- أصيلة تكرم الفنان التشكيلي المغربي عبد الكريم الوزاني.. ناحت ...
- المصري خالد العناني مديرًا لليونسكو: أول عربي يتولى قيادة ال ...
- -نفى وجود ثقافة أمازيغية-.. القضاء الجزائري يثبت إدانة مؤرخ ...
- عودة الثنائيات.. هل تبحث السينما المصرية عن وصفة للنجاح المض ...
- اختفاء لوحة أثرية عمرها 4 آلاف عام من مقبرة في سقارة بالقاهر ...
- جاكلين سلام في كتابها الجديد -دليل الهجرة...خطوات إمرأة بين ...
- سوريا بين الاستثناء الديمقراطي والتمثيل المفقود
- عامان على حرب الإبادة الثقافية في قطاع غزة: تدمير الذاكرة وا ...
- من آثار مصر إلى الثقافة العالمية .. العناني أول مدير عربي لل ...


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - السيد جبار