أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - سعد العبيدي - من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل














المزيد.....

من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 16:48
المحور: السياحة والرحلات
    


حين تطأ الأقدام أرض اسكتلندا، يخيل للزائر أنه في بلد يعرف كيف يحوّل أبسط الموارد إلى مصدر فخر وثراء. فالسياحة هنا لا تقتصر على المناظر الطبيعية أو القلاع، بل تمتد إلى تحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى "منتج سياحي": قرى وادعة تتحول إلى وجهات، متاحف تُعيد للتاريخ نبضه، سجون قديمة تُفتح كمغامرة للزائرين، ومصانع تروي حكاياتها. ومن بين هذه الأخيرة تبرز صناعة ارتبطت باسم اسكتلندا حتى غدت رمزًا ثقافيًا واقتصاديًا. إنها صناعة الويسكي، التي تعود قصتها الطويلة إلى الأديرة في القرن الخامس عشر، عندما استخدم الرهبان تقنيات التقطير في صنع مشروبات عطرية وعلاجية أسموها "ماء الحياة". سرعان ما تسربت التجربة إلى المزارعين الذين وجدوا في وفرة شعيرهم ومياه الينابيع الصافية فرصة للكسب، فوسعوا النشاط بحكم الربح ودخلوا مع الرهبان في منافسة دفعت الملك جيمس الرابع إلى التدخل بمنح أحد رجال الدين عام 1494 إذنًا باستخدام مئات الكيلوغرامات من الشعير للتقطير… ومنذ تلك اللحظة لم يتوقف هذا المنتج المثير للجدل عن التدفق.
لكن الطريق لم يكن سهلاً، فمع ازدياد الإقبال على التقطير، فرضت السلطات ضرائب قاسية جعلت من كل قطرة تنتج في الخفاء تحديًا حقيقيًا، وانتشرت "المعاصر السرية" في وديان بعيدة، وانتشر رجال القانون بمطاردة المقطّرين كما لو كانوا قُطّاع طرق. وتروي الروايات الشعبية حوادث عن مداهمات انتهت بإراقة براميل كاملة في الأنهار، أو بصدامات أوقعت قتلى وجرحى بين الفلاحين والجنود، وحرائق هائلة اندلعت في القرى حين كان المقطّرون يحاولون إخفاء نشاطهم على عجل. وهكذا صارت صناعة "ماء الحياة" تحمل معها أخبار موت ودمار أحيانًا.
في المقابل، تناقل الناس قصصًا لا تخلو من الطرافة. يُحكى أن بعض القرويين كانوا يخفون البراميل بين شواهد القبور، أو يدفنونها في حقول البطاطس لتفادي أعين الجباة. وفي الشمال الغربي اشتهر مهرّبون بنقل براميل صغيرة تحت تنانيرهم التقليدية، في مشهد أقرب إلى الكوميديا السوداء. قصص كثُر تداولها حتى غدت جزءًا من الأسطورة الشعبية التي تُروى حتى اليوم، مانحة هذه الصناعة هالة من المغامرة لا تقل جاذبية عن المنتج نفسه.
مع بداية القرن التاسع عشر تغيّر المشهد. فقد جاءت الثورة الصناعية بوسائل تقطير أكثر كفاءة، وسمحت للمصانع المرخّصة بأن تتفوّق على منافسيها السريين. ومع ذلك ظل الجدل قائمًا بين الحكومة التي رأت في الويسكي موردًا ضريبيًا مغريًا، والفلاحين الذين اعتبروه تقليدًا راسخًا لا يجوز التضييق عليه. وهكذا غدا هذا المنتج رمزًا مزدوجًا: للذوق الشعبي من جهة، وللمقاومة الريفية ضد السلطة من جهة أخرى.
واليوم، وبعد قرون من الشد والجذب، لا يكتفي الاسكتلنديون بتصدير منتجهم، بل يصدرون قصته نفسها في شكل جولات سياحية، أبرزها في مصنع Glenturret الذي يُسجَّل كأقدم معامل البلاد. في بهو الاستعلامات الأنيق اجتمع نحو عشرين سائحًا من جنسيات مختلفة (نصفهم عرب)، ليستقبلهم مرشد ستيني متقاعد، لبق، يروي الحكاية كمن يسرد أسطورة. تبدأ الجولة من غرفة الحبوب حيث تتراص أكياس الشعير، مرورًا بعمليات الطحن فالخلط فالتخمير داخل أحواض خشبية قديمة، وصولًا إلى أماكن البراميل التي يرقد فيها السائل الكحولي في شبه عتمة، سنواتٍ طوالًا حتى تنضج النكهة. يمتد ذلك من ثلاثة أعوام كحد أدنى ملزم قانونيًا إلى أكثر من نصف قرن بقليل. فالخشب والزمن هما العاملان الحاسمان في تقليل الكم، وتبديل النكهة، وزيادة السعر.
في القاعة الأخيرة، اختتم المرشد جولته بدرس في الاقتصاد أكثر منه في التذوق: كيف يتحول الشعير والماء والخشب إلى صناعة عابرة للقرون. وعند الباب، قبل التفرق، قال أحد السياح الخليجيين:
"لم أزر مجرد مصنع لشراب محلّ اختلاف، بل نافذة على عقلية تعرف كيف تحوّل البسيط إلى ثروة، وكيف تُعيد تعريف الهوية المحلية لتكون موردًا عالميًا."
تجربة قد لا تكون مألوفة لكل سائح، لكنها بالتأكيد درس قابل للتأمل لكل من يفكر في تحويل موارده – أكانت حبوبًا أو أفكارًا أو شعائر – إلى صناعة مستقبلية.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أطلال الحرب إلى أيقونة السياحة… حكاية قلعة بامبرة
- بين إنجلترا واسكتلندا: قرية تزهر بالحب والهروب
- مدينتان على ضفتي التاريخ: ليدز ويورك
- رحلة في أزقة الزمن وذاكرة الحجر
- حين تنطق لندن....
- حين يصاب الوطن بالتبلد
- تداعي الدولة العراقية: حين تنهار البُنى من داخلها
- مسرح الحريق: العراق بين لهب المأساة وقيد البندقية
- حين يسير العراق إلى حتفه: مرآة النفس الجمعيّة المعطوبة
- ڤرّنا... حيث تتكلّم الغابة بلغة الهدوء
- في حضرة التاريخ: بين أوربرو وبابل
- بطء بطعم الشرق
- على طريق الحسين
- علمٌ ينتظر الولادة من رحم الوطن
- أربعة أيام في عمر قاضٍ
- هذا ليس دين أبي
- الشبح من انتصر
- كيف تُهيّأ النفوس لتقبّل الخسارة؟: قراءة نفسية في سيناريو ال ...
- التفاهة: حين تُغلق أبواب المعنى في وجه بلد بأكمله
- تشوه صورة الدولة في وعي مواطنيها


المزيد.....




- وثقت الحادث بالكاميرا.. سيارة تصطدم بمطعم أثناء تصوير مؤثرة ...
- لماذا يُعد تحديد موعد مؤكد للقاء بوتين وزيلينسكي أمرًا بالغ ...
- رأي.. جيفري ساكس وسيبيل فارس يكتبان: يمكن للولايات المتحدة إ ...
- وفاة إيمان الغوري: تفاعل واسع يعيد بطلة -أحلام أبو الهنا- إل ...
- دراسة علمية جديدة: التزاوج بين الإنسان العاقل والنياندرتال أ ...
- عملية أمنية معقدة.. اليوروبول يحبط شبكة دولية لتزوير العملات ...
- ولاية ماليزية تفرض عقوبات صارمة على المتخلفين عن صلاة الجمعة ...
- وزير خارجية الأردن : نتاياهو يقود مشروعا تدميريا في المنطقة ...
- اجتماع سوري إسرائيلي يبحث خفض التصعيد ووضع السويداء
- ما الضمانات الأمنية التي يمكن تقديمها لأوكرانيا؟


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - سعد العبيدي - من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل