أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعد العبيدي - التفاهة: حين تُغلق أبواب المعنى في وجه بلد بأكمله














المزيد.....

التفاهة: حين تُغلق أبواب المعنى في وجه بلد بأكمله


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8384 - 2025 / 6 / 25 - 22:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في الأزمنة الماضية، كان النجاح وليد الجهد، ولا تُنال المكانة إلا بالاستحقاق، وتقاس الكلمة بميزان الحكمة قبل أن تُنطق. أما اليوم، فقد انقلبت المعايير، وطفَت الرداءة على السطح، وغدا السخف يُصفَّق له، والتفاهة تُمجّد ذاتها في المرايا، بينما يبتلع المجتمع مراراته في صمتٍ ثقيل. إنه زمن التفاهة: منظومة تسللت بهدوء إلى جسد البلاد، نخرت أعمدتها، حتى صار من الطبيعي أن يُحتفى بالكاذب، ويُكافأ الفاسد، ويُقدَّم الجاهل على العالم، لأن الصوت المرتفع بات يغلب العقل، والواجهة طغت على الجوهر.
تفوح في الشوارع رائحة اللا معنى. لافتات تُعلّق على الجدران لا تقول شيئًا، صور على أعمدة الكهرباء لا تشير إلى حاضر أو مستقبل، وعبارات ثورية مكتوبة على الأرصفة المتكسرة، بين أكياس النفايات. مدن كاملة تنام على فوضى الشعارات وتستيقظ على غبار الأوهام.
مشاعر الكراهية تنتشر بلا جذور، كأنما هناك من بثَّها في الهواء. السني يكره الشيعي ولا يعرف لماذا، والشيعي يبادله الضيق، والكردي ينظر إلى العربي كمن ينظر إلى دخيل. كراهية بلا تفسير، وكأنّ الذاكرة تُحرَّك عن بُعد لتمنع أي حوار قبل أن يبدأ.
طقوس التدين خرجت من محرابها، وغرقت في بحر من المظاهر. لم تعد تربط الإنسان بالسماء، بعد أن صارت عرضًا شعبيًا تُبالغ فيه الأجساد وتُنسى فيه الأرواح. تطبير، وتطيين، وتدليك أقدام على الطرقات، تحوّلت إلى مسرح استعراضي، لا يجرؤ العالم على منعه، لأن الجهل يثور، والغوغاء يكفّرون، والدم يُهدَر.
أما التعليم، فأصبح حكاية أخرى من حكايات التفاهة. آلاف الشهادات العليا تُمنَح بلا امتحان، بلا أطاريح، بلا معنى. دكتوراه تُشترى من جامعات لا وجود لها، وألقاب تُمنَح لمن لا يفرّق بين البحث والتقليد. في هذا البلد، تستطيع أن تكون "الدكتور الشيخ اللواء" إن كنت تملك علاقات أو مالًا أو لسانًا يُتقن المديح.
في مراكز القرار، يكذب المسؤول ثم ينكر ثم يُكافأ. يُنتخب مرة واثنتين، ويعود متوّجًا، لا لأن الناس لا تعرف، بل لأن لا بديل، أو لأن الذاكرة تعبت، أو لأن التفاهة انتصرت. سياسيون يسرقون البحوث، يضعون أسماءهم على ما لم يكتبوه، يحتفلون بافتتاح قنطرة متهالكة كأنها نصر، ويقيمون تمثالًا قبيحًا لأسد لا يشبه إلا قبح ما نعيشه.
ضاقت الأحلام. لم يعد أحد يحلم بالمعرفة أو التأثير. صار الحلم بيتًا كبيرًا وسيارة سوداء ورصيدًا ماليًا لا يُسأل عن مصدره، وأصبحت الغاية أن يملك، لا أن يعرف. أن يظهر، أن يكون مشهورًا، لا أن يكون ذا قيمة.
وفي وسط هذا الركام، يستيقظ الفاسد على مشروع جديد: مصرف، كلية، أو مستشفى، يعمل فيها النزهاء، ويأتمرون بأمره. لم يعد غريبًا أن يصبح الشريف تابعًا للفاسد، لأن السوق تحكم، والسلطة لا تسأل، والناس تطأطئ الرؤوس.
كل شيء قابل للدوران. نفس الوجوه في البرلمان، في الوزارات، في الإعلام. تدوير للفساد كما تُدوَّر النفايات، لكن بلا فائدة.
صار من الصعب أن يقول أحدهم: "لا أعرف". كلهم يعرفون. في كل حوار، تجد من يفتي في الدين، في السياسة، في الاقتصاد، في الفيزياء. مجرد رأي يصدَّر على أنه حقيقة، ويُمنَح مساحة على الشاشات أكثر من الأكاديمي والمتخصص.
في النهاية، نحن هنا لا نتحدث عن تفاصيل عابرة. بل عن نمط حياة أصبح مألوفًا. وعن تفاهة صارت عرفًا، فاغتالت كل محاولة للتقدّم، وجففت منابع التفكير، وحوّلت الثقافة إلى عبء.
لكن التفاهة ليست قدَرًا، يمكن مواجهتها بخطاب حماسي أو بإصدار الأوامر والتوجيهات، إن المواجهة الحقة بالفعل اليومي الجاد، بالصدق، بالكلمة المتقنة، بالرفض المتأني، بإعادة الاعتبار لما له معنى. والأهم هو أن العراق ليس بلدًا تافهًا، لكنه مُحاط بالتافهين. وإن أُغلقت نوافذ النور، لا بد أن تنفذ شقوق صغيرة منه، لمن لا يزال يؤمن أن القيمة لا تُصنَع بالصوت، بل بالعقل.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تشوه صورة الدولة في وعي مواطنيها
- لماذا لم يتجاوز العراقيون أحزانهم
- الخرافة: ظل الخوف في العقل العراقي
- إعادة كتابة الذات العراقية
- حكاية راهب ومدينة
- عندما يتحول القائد الى قدوة قسرية
- شرطي الأمن الداخلي: زقيب الوعي الذاتي
- عراق يسكنه الحزن
- جمهورية التغاضي: كيف نسي العراقيون أن ينتبهوا؟
- الفسدنة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (4 - 12)
- الكَبْرَنّة: رحلة نفسية في خزين الوعي الوعي العراقي (3 - 12)
- الغلونة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (2- 12)
- ظواهر العفن الاجتماعي: رحلة نفسية في خزين الوعي السلبي
- الاعتراف بالخطأ فضيلة
- سيكولوجيا النجاة من الغرق
- سيكولوجية إزدراء الوظيفة في البلاد
- في معنى الخيانة
- 14 تموز في الذاكرة الجمعية
- الدولة المدنية
- الدولة القوية


المزيد.....




- ما ارتداه رئيس أوكرانيا بقمة الناتو يشعل تكهنات بأن ترامب هو ...
- سجال حاد بين المدعية العامة للولايات المتحدة وسيناتور ديمقرا ...
- زهران ممداني.. الشاب المجهول الذي قلب نيويورك راسا على عقب ب ...
- جسر زجاجي شفاف ومسارات.. لندن تكشف عن نصب الملكة إليزابيث ال ...
- هانا تيتيه: ليبيا تمر بمنعطف حاسم وتريد حكومة مسؤولة
- مؤسسة النفط الليبية توقع مذكرة تفاهم مع تركيا بشأن 4 مناطق ب ...
- الحرب على إيران تعيد الليكود إلى الصدارة.. نتنياهو: العالم ش ...
- -احتفالات النصر-.. تظاهرات في طهران عقب وقف إطلاق النار بين ...
- زيلينسكي يطالب الناتو بدعم الصناعة الدفاعية الأوكرانية قبيل ...
- في تحول عسكري لافت.. اليابان تجري أول تجربة صاروخية على أرا ...


المزيد.....

- كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف / اكرم طربوش
- كذبة الناسخ والمنسوخ / اكرم طربوش
- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعد العبيدي - التفاهة: حين تُغلق أبواب المعنى في وجه بلد بأكمله