أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - سعد العبيدي - عراق يسكنه الحزن














المزيد.....

عراق يسكنه الحزن


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8344 - 2025 / 5 / 16 - 12:24
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


يولد الإنسان وفي داخله قابلية على الحزن، كأن الحزن طيف ضروري لتذوق المعنى. غير أن العيش في أرض مثل العراق تحوّل هذا الشعور إلى شيء آخر؛ يغدو وكأنه بيئة نفسية، ينشأ فيها الفرد محاطًا بهالة من الكآبة، لا تأتي كرد فعل لمثيرات صدمية مؤقتة، وإنما كظلّ دائم يلازمه، حتى تُختزل الهوية ذاتها في مزاج سوداوي لا يفارق الذات إلا ما ندر، شعور مزمن بالضجر، حتى في غياب أسبابه الظاهرة، كأن العقل يرتدي نظارات داكنة يرى بها العالم مشوّهًا، باهتًا، مستعصيًا على الفرح. حالة تضخمت في عراق الزمن الحالي تجاوزت فيها البعد الفردي المعروف نفسيًا، حيث تصيب الكآبة بعض الأشخاص بنسب متوقعة ، لتصبح هنا ظاهرة شبه جماعية تتغلغل في وجدان المجتمع:
عقود من الألم المنظّم، حيث كان الهروب من الجندية يُفضي إلى الإعدام، وانتقاد القائد كذلك إعدام، والتقصير في خدمة الاقطاعي تؤدي الى الجلد، وترك البلاد خيانة، وانتقاد الحزب جريمة تجرّ صاحبها إلى الجحيم. فتعلّم الناس، على إثر ذلك وسواه، أن الحزن هو رد الفعل الطبيعي على كل هفوة، وكل صمت مريب، حتى صار جزءًا من كيانهم. وبالتكرار وتقادم الزمن، كبر الحزن وتحوّل من مشاعر فردية إلى هوية جمعية، ومن حالة عابرة إلى مزاج، ومن انفعال آني إلى طقوس سوداوية مستمرة.
في حالتها، وعندما يختنق الكلام، تتكلّم المواويل حزنًا (أنا اللي ببـچـاهم كل يوم ينشـدونـي وإذا مرّوا علـى داري يـنوحـونـي). وأنين الغياب والمظلومية يرنّ في الطور الريفي غناءً، بصوت مبحوح يلامس الجرح (آه يويلي...). أغانٍ كثير منها لم تكن احتفالًا بالحياة، وإنما بكاءً ناعمًا عليها. وعند الشروع بالغزل، ينبثق الوجع: "آه اشگد أحبك". وكأن الحب لا يُعاش إلا من خلف غلالة من الحنين والأسى.
وكذلك الحال بالنسبة الى القصائد التي، لا تنشد كثير منها فرحًا؛ إذ يخرج بعضها من أعماق الأسى حتى عند الجواهري المعروف بحبه الدنيا ومباهجها: "فيا ضيّعة العمر إن نفعا – وحزنًا يجرّ إلى الجزعا". إنها مناحات موزونة أكثر منها أدبًا في مدح الحياة.
وفوق هذا كله، جاءت الطقوس الحسينية، لا لتستذكر الفاجعة التاريخية فحسب، بل لتحمل معها هموم الحاضر المكبوتة، حيث لم يعد اللطم فيها وقراءة المقتل مجرّد مشاركة وجدانية، وإنما وسيلة لتفريغ خُذلان زمني مستمر، وإمعانًا في آلية التفريغ زادوها طقوسا لجلد الذات الجمعي بالتطبير والتطيين والتجريح، كأن الجسد نفسه متهم، وغالب أنحاء العراق في محكمة لا تصدر أحكام براءة.
حتى في مواسم الفرح الديني عند أهل الوسط والجنوب، لا يُستدعى الفرح كما يُفترض، وإنما يُستحضر الحزن بثياب جديدة، وتُتلى المراثي في لحظات يُفترض فيها أن تُعزف نغمات البهجة. كأن خزين الذاكرة لا يعرف سوى النحيب، وكأن محاولة تعديل هذا الإرث العاطفي باتت مستحيلة.
لقد تمددت السوداوية في العراق حتى طالت أبسط مظاهر العيش. مراجعة دائرة حكومية، على سبيل المثال، تتحوّل إلى رحلة إذلال معلنة، يفقد فيها الإنسان كرامته مع كل ساعة انتظار بلا جدوى، ويزداد شعوره الحزين باللاجدوى حين يُدرك أن النجاة تتطلب مالًا يقدمه لتجنب المزيد من المهانة المحزنة.
وفي الشارع، حيث الفوضى هي القاعدة، يتحول المرور إلى مواجهة يومية: أعصاب مشدودة، وانفعالات حزينة، كأن الحياة اليومية معركة لا قانون لها. وفي كل لحظة، يشعر المرء أن شيئًا ما مكسور في داخله، لا يُصلّح.
وهكذا، ومع مرور الزمن، تراكم كل شيء: الأحداث الصغيرة، والمآسي الكبيرة، ليشكّل مشاعر عامة مشبعة بالحزن. صار العراقي في حالتها يحزن على كل شيء، وليس لسبب محدد: يحزن على ما فاته، وما لم يحدث، وما لم يولد أصلًا، محملًا ذاته المسؤولية عن ماضٍ لم يختره. إنها نوع من "السوداوية النشيطة"، حيث يواصل الناس العيش، والعمل، والحب، والموت، محمّلين بثقل لا يُرى، كأنهم يسيرون وعلى أكتافهم وطنٌ بأكمله ينزف حزنًا في صمت. وفي دواخلهم، سؤال قديم لم يُجب عنه يومًا: "هل كُتب علينا الحزن إلى الأبد؟"



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جمهورية التغاضي: كيف نسي العراقيون أن ينتبهوا؟
- الفسدنة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (4 - 12)
- الكَبْرَنّة: رحلة نفسية في خزين الوعي الوعي العراقي (3 - 12)
- الغلونة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (2- 12)
- ظواهر العفن الاجتماعي: رحلة نفسية في خزين الوعي السلبي
- الاعتراف بالخطأ فضيلة
- سيكولوجيا النجاة من الغرق
- سيكولوجية إزدراء الوظيفة في البلاد
- في معنى الخيانة
- 14 تموز في الذاكرة الجمعية
- الدولة المدنية
- الدولة القوية
- توازن المواقف القلق
- الشيخ والدولة
- تعري الطفولة الآثم
- 8 شباط تعزيز للهدم المنظم
- المساءلة والعدالة
- إلتقاء التضاد في خراب البلاد
- خلع العباءة لا يكفي
- لوثة في خلايا عقل


المزيد.....




- شجب أوروبي لتجويع وقتل الفلسطينيين في غزة: هل يضيق الخناق عل ...
- أردوغان: مفاوضات اسطنبول فرصة من أجل الوصول إلى السلام الدائ ...
- على وقع الحرب في غزة.. احتجاجات في بازل تدعو لطرد إسرائيل من ...
- جبهة جديدة في المواجهة بين الهند وباكستان: خطوات تصعيدية من ...
- بعد صفقات بترليونات.. ترامب يعود إلى واشنطن لرؤية حفيده الحا ...
- ترامب: تخفيف العقوبات والقيادة الجديدة سيمهدان الطريق لنهضة ...
- الدفاع الروسية في حصاد الأسبوع: تحرير 6 بلدات وتنفيذ 6 ضربات ...
- ترامب يتوقع -أنباء طيبة- عن تسوية الصراع في غزة خلال الشهر ا ...
- ترامب يقول إنه قد يجري محادثة هاتفية مع بوتين
- عبد المنعم الجمل يدعو لإبراز الجوانب الإيجابية للعامل المصري ...


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - سعد العبيدي - عراق يسكنه الحزن