أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - حكاية راهب ومدينة














المزيد.....

حكاية راهب ومدينة


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 20:14
المحور: الادب والفن
    


كان صباح لاهاي رماديًّا متثائبًا، من تلك الصباحات التي تهمس بما لا يُقال، وتكتفي بأن ترسلك إلى حيث الصمت يصير لغة.
السماء مبللة بندى الغيم، والضوء يسير على رؤوس أصابعه، كأنه لا يريد إيقاظ المدينة.
الطرقات التي كانت بالأمس مسرحًا لحكايات المارّة والدراجات وصخب المكاتب، بدت صباح اليوم خالية إلا من أثر الذاكرة. كأن المدينة تنفست عميقًا وقالت: يكفيني اليوم.
نظرة سريعة بيننا، ثم لجوءٌ فوري إلى العم "غوغل"، الذي أفصح عن السر: عطلة رسمية.
وهولندا، حين تُقرر أن ترتاح، تفعل ذلك بنزاهة كاملة. لا مقاهٍ مفتوحة، لا مخابز ترحب برائحة الخبز الطازج، ولا حتى مقهى صغير يمنحك فنجان البداية. وإذ لا شيء يُغري بالبقاء في مدينة اختارت أن تحلم، حملنا أنفسنا وانطلقنا شرقًا، حيث الريف الهولندي يفرش ذاكرته أمام العابرين.
دخلنا ديڤينتر من جهتها الغربية، فكانت المدينة، التي تطل على ضفة نهر آيسل، تُشبه شيئًا نقرأ عنه أكثر مما نراه. ثم كأن الزمن أراد أن يهمس، فتسللت إلينا حكاية قديمة — حكاية راهبٍ عبر البحر ليزرع فكرة، بدأت عام 768م، حين كانت قبائل الساكسون تسكن ضفاف النهر، وتعبد آلهة الغابة والريح والصواعق، وصل هذا الراهب من بلاد الإنجليز. اسمه ليبرتانيوس، لا شيء في مظهره يوحي بالقوة، سوى الإيمان.
والإيمان، حين يتجسد في هيئة إنسان، يصبح له صوت، وصبر، وسكون غريب.
اختار تلة صغيرة تُشرف على النهر، وأقام فوقها كنيسة خشبية متواضعة، لم تكن سوى كوخ مصلّى، صار أول حجر في قصة هذه المدينة. كان الراهب يعرف أن الكلمة لا تُزرع بالعنف، فحوّل كنيسته إلى مركز فكري وتعليمي، علّم فيه الأطفال والرجال والنساء، قرأ لهم، وصلى معهم، وروى حكايات أخرى عن إله واحد يسكن القلب، وليس الغابة التي اليها يرجعون.
بدأ الناس يقتربون منه بحذر، ثم بحميمية، حتى استقر البعض حوله، وتكوّنت قرية صغيرة، كأن الأرض كانت تنتظر هذا الصدى كي تنبت عليها مدينة. ولما قوي صوته واتسعت دائرة أتباعه، لم يكتفِ بالسكون.
دخل أحد المعابد الوثنية الكبرى، صعد درجاته الحجرية بثقة عالية، ثم وقف تحت تمثال "ثور"، الإله الذي يُرهَب اسمه، وقال:
"إني لا أحمل سيفًا، لكني أحمل كلمة. أتيت لا لأنتزع آلهتكم، بل لأريكم ما قد يكون أرحب."
عندها اهتزّ المكان، انقسم الناس، صرخ البعض، وفكر البعض، وصمت البعض الآخر. حدثت على إثرها اضطرابات، صدامات، لكنه لم يختفِ. ظلّ هناك، يحكي، ويصلي، ويصغي.
حتى جاء اليوم الذي أسلم فيه الروح، منهكًا من سعي طويل، مبقيًا خلفه أتباعًا، وكلمة، ومدينة بدأت تنمو. ومن أجل ذكراه، أقاموا فوق التلة ذاتها كنيسة سانت ليبراتيوس، التي ما تزال حتى اليوم عامرة، بعد أكثر من اثني عشر قرنًا، تُطل على النهر نفسه، وتحرس الحكاية. وما تزال أزقة المدينة القديمة شاخصة كما هي. أدخلوا عليها حداثة، لم تشوه أصلها، ولم تُطفئ الروح التي تسكن وسطها بين الحجارة، وكي تبقى هذه الروح فاعلة أقامت سيدة هولندية عاشقة لأدب تشارلز ديكنز متحفًا صغيرًا، وكأنها تقاوم به النسيان.
جمعت عبر سنوات مقتنياته، كأنها تنقذ ما يمكن إنقاذه من عصر مضى، وضعته في متحف بلا ضجيج أو دعايات. مجرد باب خشبي قديم ولوحة صغيرة، كأن المكان لا يريد أن يُكتشف إلا لمن يبحث بقلبه.
دخلنا، وكأننا نخطو إلى غرفة معيشة في زمن فيكتوري. الكتب مصطفة بخشوع، الرسائل خلف زجاج مضيء، قطعة أثاث هنا، ومصباح غازي هناك. كل شيء يحتفي برجلٍ عاش ليكتب عن الحزن والكرامة، وقلوب تنبض في زمنٍ لا يشبه زمننا. لقد رحلت السيدة كما رحل الراهب وبقيَّ أثرها حاضرًا مثل أثره، لأنها مثله لم تأت لتغيّر كل شيء، بل لتحرس شيئًا صغيرًا، أنقذته من النسيان.
كان المتحف آخر خطوة في هذه المدينة الجميلة، واصلنا من بعده السير في أزقتها القديمة.، ثم جلسنا على مصطبة نفكر في الراهب، وفي السيدة، وفي كل من آمن أن الأشياء الصغيرة تستحق أن تُبنى، أن تُصان، أن تُروى. ثم حان الوقت، وبدأنا الطريق نحو الأراضي الألمانية. لكن شيئًا من ديڤينتر ظلّ في المقعد الخلفي، في مرآة الرؤية، في القلب: المدن التي تمنحك قصتين في زيارة واحدة — حكاية قديمة، وأخرى معاصرة — لا تُنسى بسهولة. ربما لأن بعض الأماكن لا تغادرنا، حتى بعد أن نغادرها.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما يتحول القائد الى قدوة قسرية
- شرطي الأمن الداخلي: زقيب الوعي الذاتي
- عراق يسكنه الحزن
- جمهورية التغاضي: كيف نسي العراقيون أن ينتبهوا؟
- الفسدنة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (4 - 12)
- الكَبْرَنّة: رحلة نفسية في خزين الوعي الوعي العراقي (3 - 12)
- الغلونة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (2- 12)
- ظواهر العفن الاجتماعي: رحلة نفسية في خزين الوعي السلبي
- الاعتراف بالخطأ فضيلة
- سيكولوجيا النجاة من الغرق
- سيكولوجية إزدراء الوظيفة في البلاد
- في معنى الخيانة
- 14 تموز في الذاكرة الجمعية
- الدولة المدنية
- الدولة القوية
- توازن المواقف القلق
- الشيخ والدولة
- تعري الطفولة الآثم
- 8 شباط تعزيز للهدم المنظم
- المساءلة والعدالة


المزيد.....




- عمان.. -الأمل- يجمع الأردنيين والروس في مهرجان يحتفي باللغة ...
- جامعة -الدون- التقنية الروسية تعمل على إنشاء مركز للغة الروس ...
- الضفة الغربية: إسرائيل تمنع جولة وسائل إعلام دولية في قرية ا ...
- تاء تأنيث النقد الأدبي العراقي.. في أمسية ثقافية
- وفاة الممثل جوناثان جوس عن عمر يناهز 59 عامًا إثر إطلاق نار ...
- مصر.. قرار للنيابة في فضيحة قصر ثقافة الأقصر
- المبادرة المصرية تطالب بإخلاء سبيل المخرج -عبد الرحمن الأنصا ...
- رحيل الكاتب الفلسطيني علي بدوان أحد أبرز مؤرخي الشتات في سور ...
- مخطط متنزه إسرائيلي يطرد سكان سبسطية من قريتهم التاريخية
- -إيروفلوت- الروسية تفوز بجائزة مرموقة في مجال التصميم والفن ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - حكاية راهب ومدينة