أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - سعد العبيدي - لماذا لم يتجاوز العراقيون أحزانهم














المزيد.....

لماذا لم يتجاوز العراقيون أحزانهم


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8375 - 2025 / 6 / 16 - 16:23
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


تتناسل أحزان العراق، ولا تنقضي، كل جيل يرث حزن الجيل الذي سبقه، ويضيف إليه تجربته الخاصة، ثم يسلّمه للذي يليه بملامح أكثر تعقيدًا. يستقرّ في الزوايا، يتكاثر بهدوء، ويعيد تشكيل النفس والوعي والعلاقات. فما إن ينهض العراقي من مأساة حتى يجد أخرى بانتظاره، لا تمنحه حتى الوقت الكافي لالتقاط أنفاسه أو النظر خلفه، حقيقة جسدها الشاعر الحلي المرحوم موفق محمد في بيتين من قصيدته:
أفنيتَ عمرك لم تقم من وجعةٍ إلا وطحت بأخرى ... سرمهر وأنگس.
وما تخلصتَ من بورٍ لطمتَ به إلا تمنيته... فالجاي بعد أنكس"
إن الحزن في شعر موفق وأسلوبه في الحياة يعني الحزن صار سياقا للعيش ممتدًا قد اعتدناه، لكن الاعتياد لا يعني الشفاء. فالفرد حين لا يجد بيئة حاضنة لتفريغ حزنه، يتعلّم كبت مشاعره. ومع الكبت المزمن، تفقد الأحزان معناها الأصلي كاستجابة طبيعية لفقدٍ أو صدمة، وتتحول إلى نمط داخلي صامت، يُعيد تشكيل الإدراك والانفعال. وهكذا تتسرب السوداوية إلى الحياة اليومية، لا بوصفها موقفًا من البيئة المحيطة، وإنما كأسلوب للعيش فيها. وطول العيش في ربوعها يجعل الانسان لا يحزن فقط حين يُظلم، وإنما حين يتذكر ظلم غيره. يحمل أحزان الآخرين كما لو كانت خاصته، ويجعل ذاكرته مقيدة أكثر من اللازم، تحفظ صورًا لمآتم لم يشهدها، ولصراخات لم يسمعها، باق صداها راسخ في وجدانه.
هذه الذاكرة المعبأة بالخسارات لا تتيح له نسيانًا مريحًا، بقدر ما تُغلق عليه باب المستقبل، لأن تجاوز الحزن يتطلّب قدرة على إعادة صياغة المعنى، والبحث عن أفق جديد، بينما في الذاكرة العراقية، لم تكتمل سردية الأمل حتى تُروى.
كما أن الدولة والمجتمع في العراق لا يشجعون على النسيان، ولا يسندون التغيير. كثير من الطقوس، والرموز، واللغة والأفعال، تجعل من الحزن صفة للشخص الثائر، والرزين، والناضج، وتظهر الفرح خفيفًا عابرًا، أو غير جدّي. إنه توجّه، وإن لم يُصرّح به، يخلق شعورًا بالذنب تجاه محاولات النسيان، يعطي الحزن معنى الخيانة لذاكرة الضحايا، أو تنكّر لما مرّت به البلاد، ويجعل المواطن يعيش على تراكم الحزن في خزين الوعي، مشوشًا لا يجد نقطة واضحة يقول منها "انتهى هذا الحزن"، لأنه يتخيل أن دورة جديدة تنتظره، وإن الفقد عنده لا يُنهيه عزاء، ولا يسكّنه الزمن، يتكثف في شكل قلق مستمر، وتوقّع دائم للخسارة.
لذلك، لا يعد الحزن في مدركاته عندنا استجابة، وإنما استعدادًا نفسيًا فاعلًا. ليس معنى هذا أننا لا نريد الخلاص، لكننا في الواقع لم نجد بعد وسيلة لتطهير الخزين العفن لذاكرتنا دون تمزيقها. لم نتعلم كيف نملك أحزاننا دون أن تملكنا. وهذا تحديدًا، ما جعل الحزن بيننا طويل العمر: شعور مقيم، له مكان في العقل، في اللغة، في الموسيقى، وفي تربية الأطفال، وليس مجرّد ذكرى، على هذا ولكي نتجاوز أحزاننا، لا يكفي أن تتغير الظروف المحيطة بنا. نحتاج إلى إعادة تأهيل مشاعرنا نفسها، فهم الحزن لا بوصفه وطنًا بديلاً، بل حالة يجب أن تعبر. نحتاج أن يُقال لنا: ما حدث كان مؤلمًا، لكن الحياة لا تنتظر. وإن الحزن حين يُحتضن أكثر مما يجب، يصبح عبئًا يحول دون أن يكون الانسان هو نفسه. ونحتاج أن نتعلم كيف نضع لهذا الشعور حدًا، وإذا لم نتعلم سنبقى نمشي، داخل دوّامة اكتئاب تعيد نفسها باسم الذاكرة، وتغلق علينا باب السعادة.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخرافة: ظل الخوف في العقل العراقي
- إعادة كتابة الذات العراقية
- حكاية راهب ومدينة
- عندما يتحول القائد الى قدوة قسرية
- شرطي الأمن الداخلي: زقيب الوعي الذاتي
- عراق يسكنه الحزن
- جمهورية التغاضي: كيف نسي العراقيون أن ينتبهوا؟
- الفسدنة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (4 - 12)
- الكَبْرَنّة: رحلة نفسية في خزين الوعي الوعي العراقي (3 - 12)
- الغلونة: رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (2- 12)
- ظواهر العفن الاجتماعي: رحلة نفسية في خزين الوعي السلبي
- الاعتراف بالخطأ فضيلة
- سيكولوجيا النجاة من الغرق
- سيكولوجية إزدراء الوظيفة في البلاد
- في معنى الخيانة
- 14 تموز في الذاكرة الجمعية
- الدولة المدنية
- الدولة القوية
- توازن المواقف القلق
- الشيخ والدولة


المزيد.....




- تحديث مباشر.. الهجمات بين إسرائيل وإيران تدخل يومها الخامس
- وكالة -فارس-: طائرات إيرانية مسيرة تدمر منظومة دفاع إسرائيلي ...
- وكالة أنباء -فارس-: توقف -القناة 14- الإسرائيلية عن البث لأس ...
- وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي: سنواصل عمليتنا ضد إيران ...
- مصرع رجل أعمال سوداني شهير في حادث مروع بمصر
- ترامب يتطلع لدخول عالم خدمات الهواتف المحمولة
- فوائد صحية مثبتة لزيت عباد الشمس
- بوتين وأردوغان يدينان الهجوم الإسرائيلي
- تأجيل استئناف المعلمين والمعلمات على الاستبعاد من التعيين في ...
- التلفزيون الإيراني يستأنف البثّ بعد انقطاع قصير بسبب ضربة إس ...


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - سعد العبيدي - لماذا لم يتجاوز العراقيون أحزانهم