سعد العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 16:11
المحور:
الادب والفن
استدعى الوزير على عجل أستاذ الاقتصاد عبد الرزاق، خاطبه بنبرة تمزج الحماسة بالاعتداد:
لقد وقع الاختيار عليك لتمثيل العراق في ورشة أمستردام الشهر المقبل... تهيّأ، فالأوطان تنهض حين يعلو شأن أبنائها.
انحنى عبد الرزاق شاكرًا، والابتسامة تضيء وجهه. في الطريق تمتم كأنه يحدّث نفسه: رحلة ستفتح آفاقًا جديدة... مكان طالما انتظرت فيه أفكاري لتخرج إلى النور.
بعد أسبوع، وقف أمام مدير المكتب الخاص ليسأله عن أمر الإيفاد ونسخة الخارجية لتأمين التأشيرة. أجابه المدير ببرود وهو يرفع حاجبيه:
- كم بقي على الموعد؟
- ثلاثة أسابيع.
ابتسم المدير ابتسامة باهتة وقال:
- ولِمَ العجلة؟ من اليوم إلى ذاك، ألف عمامة تميل.
حاول عبد الرزاق الإيضاح، بصوت يتأرجح بين المنطق والرجاء: الأوروبيون يعدّون لكل صغيرة وكبيرة، والتأشيرة تحتاج أسبوعين... الوقت يداهمنا. لكن كلماته ارتدت عليه كما لو اصطدمت بزجاج عازل للصوت.
خرج مثقلاً بإحباط تسلل إلى أعماقه مثل ماء بارد ينفذ في العظم.
مرّ أسبوع آخر. دخل المكتب الفخم ثانية وطلب مقابلة الوزير. أجابه المدير دون أن يرفع رأسه: تعال غدًا... معاليه مشغول، والدنيا لا تطير.
خرج عبد الرزاق يهمهم: التذاكر... الأمر الإداري... التأشيرة. عاد في اليوم التالي، فاستقبله المدير بابتسامة متكلفة: معاليه غادر في مهمة خاصة قبل دقائق. الغد ليس بعيدًا، أليس كذلك؟" ثم لوّح بيده وهو يتمتم: أمستردام... هناك تُعرض الأجساد خلف الزجاج، والعطور الباريسية تملأ الأسواق.
تسارعت الأيام. حل الموعد غدًا. لا أمر إداري، لا تأشيرة، لا يقين، وما زال المدير يردد بنغمة واحدة: لمَ العجلة؟ الكتاب في بريد الوزير، والسفر ممكن حتى بعد انعقاد الورشة. أما المخصصات... فستصرف بعد العودة.
غادر عبد الرزاق وقد تكسرت آخر أوتار الأمل داخله. لجأ إلى صديقه الطبيب النفسي، جلس منهكًا يروي القصة كمن يفرغ صدره من حمل ثقيل. أنصت الآخر طويلًا، ثم قال جملة حادة كحدّ السكين: جهازكم الإداري مصاب باضطراب في الذاكرة المؤسسية... يحتاج إلى صدمة توقظه من سباته.
ظلت العبارة تتردد في ذهن عبد الرزاق، كصدى يضرب جدران روحه. رفع بصره نحو النافذة، فإذا غيمة سوداء تنشق، يخرج من جوفها برق خاطف يشق السماء. تخيّله يهبط على بناية الوزارة، يهزّ جدرانها ويوقظ أرواحها الغافية. عندها شعر أن الرماد قد يلد جمراً جديداً، وأن الصدمة قد تكون بداية بعث لا نهاية إحباط.
#سعد_العبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟