أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضاتٌ من حياة “جحا التركي” عزيز نيسين: أيقونة الأدب التركي الساخر















المزيد.....


ومضاتٌ من حياة “جحا التركي” عزيز نيسين: أيقونة الأدب التركي الساخر


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8485 - 2025 / 10 / 4 - 10:22
المحور: الادب والفن
    


الضحك كقارب نجاة

في زمنٍ يتسارع فيه الزمن نفسه، وتتداخل فيه الحدود بين الواقع والخيال، يظل عزيز نيسين (1915–1995) شاهداً حياً على قوة الكلمة الساخرة. لا يحتاج هذا الكاتب التركي، الذي أصبح رمزاً للأدب الساخر في العالم، إلى تعريفٍ مطوّل لمن ذاق مرارة سخريته أو استلذّ حلاوتها؛ فهو الذي تشكّل من مزيجٍ فريد: فقر أناضولي قديم ينبعث من تربة الريف الخشنة، ومدارس عسكرية صارمة تزرع الطاعة كما تزرع الجنود، وحلم مبكر بأن تمسك يده قلمًا لا بندقية، ثم رجولة نضجت في زنازين السجون الرطبة وغرف التحرير المزدحمة وقاعات المسرح المتواضعة. كان يقول، بتلك الابتسامة الماكرة التي تخفي عمقاً فلسفياً، إنه محظوظ لأنه لم يولد في عائلة نبيلة أو غنية؛ فالفقر، عنده، كان رأس المال الأول، والمدرسة التي علّمته معنى الكرامة والإنصاف والضحك في وجه البلاء الذي لا يرحم.
هذه الومضات من سيرته ليست مجرد تأريخ لحياة كاتب ساخر كبير، بل هي سرد لكيفية تحول الضحك لديه إلى قارب نجاة حقيقي: سلاح أخلاقي يواجه القسوة الاجتماعية، والبيروقراطية المتحجرة، والنفاق الذي يتخفى خلف أقنعة التقوى والسلطة. لم يكن ضحكه تفكهاً عابراً يتبخر مع اللحظة، بل كان فتحاً لنوافذ على الحرية والمسؤولية الإنسانية، في مجتمع يعاني من تناقضاته الداخلية بين الحداثة والتقليد، بين الجمهورية العلمانية والتيارات الدينية المتشددة. من خلال قصصه ومسرحياته ومقالاته، رسم نيسين لوحة لتركيا القرن العشرين: بلد يناضل ليجد هويته، وكاتب يستخدم السخرية كمرآة تعكس عيوبها دون أن تهشّمها. وفي هذا السرد، نجد أن حياته ليست سيرة فردية فحسب، بل تاريخ مصغّر لصراع الأفكار في الشرق الأوسط، حيث يلتقي الضحك بالألم، والفكاهة بالفلسفة العميقة.



الأمُّ… الحدائق المطرّزة، والصفعة التي صارت درسًا

ولد محمد نصرت نسين في إسطنبول عام 1915، وسط هدير الحرب العالمية الأولى الذي يهزّ أركان الإمبراطورية العثمانية المتداعية. جاء أبوه فتى قروياً إلى المدينة في الثالثة عشرة، يبحث عن لقمة عيش في شوارع المدينة الكبرى التي تبتلع الغرباء دون رحمة، وجاءت أمه من قرية أخرى صغيرة في الأناضول؛ هناك التقيا، تزوجا، وولد الابن الأول، ثم بدأت الخسارات المبكرة تتوالى كالأمواج: أربعة إخوة صغار رحلوا واحدًا تلو الآخر، ضحايا للفقر والأمراض التي تجتاح الأحياء الشعبية، وأم فارقت الحياة في السادسة والعشرين، تاركة خلفها طفلاً يتيم الأم في سن مبكرة. لكن حضورها ظلّ الأبقى في وجدانه، حتى صاغ لها اعترافاً مؤثراً في مذكراته: «لكم تمنيت لو أعطي، مقابل كل قطعة قماش طرزتها يدا أمي، كل كتبي وكل ما سأكتب.» هذه الأم، التي لم تكن تقرأ ولا تكتب، كانت تطرز القماش الرخيص بخيوط ملونة مستعارة من الجيران، فتصير الحدائق الخيالية تتفتح على السطوح البالية؛ حدائق تعلّم ابنها أن الجمال ممكن حتى من قلب العدم، وأن الإبداع ينبع من القليل، لا من الوفرة.
من تلك الأم أيضاً تعلّم معنى الرحمة تجاه الكائنات الحية: أهداها، صغيراً، زهوراً قطفها من الحديقة المجاورة، فابتسمت بلطف وقالت: «دعنا لا نقطفها؛ الزهرة تزهر حية على ساقها»، فثبت فيه منذئذ أن الجمال لا يُصادر بالقوة، وأن الاحترام – للناس والأشياء والطبيعة – فضيلة الأقوياء الحقيقيين، لا قناع الخائفين من المواجهة. هذه الدروس البسيطة، المستمدة من حياة يومية مليئة بالحرمان، شكّلت نواة شخصيته الساخرة لاحقاً: سخرية لا تستخف بالآخرين، بل تكشف عن الجمال المخفي في البساطة، وتعارض الاستغلال باسم التقاليد أو السلطة.
ولمّا كان الجار اللطيف يناديه كل صباح «نرسيت»، كان يرد بعفوية طفلية «هوَّه»، فحذّرته أمه مراراً أن يقول: «سيدي». عاند مرة، فدخلت به غرفة وصفعته صفعة واحدة كانت الأولى والأخيرة في حياته؛ في الغد تلعثم، ثم قال: «سيدي» – وتعلّم أن الاحترام قرار واعٍ، وأن الحزم، حين يجيء من حب صادق، يربّي ولا يُهين. هذه الصفعة، التي رواها نيسين في مذكراته بمزيج من الحنان والفكاهة، أصبحت رمزاً لتربية تعتمد على القيم لا على الخوف، في زمن كانت فيه التربية العسكرية والسلطوية سائدة.
أما الأب، فقد كانت قصته غياباً طويلاً: انقطعت أخباره أثناء عمله في المدينة، وذهبت النساء إلى «بئر الأماني» على تلة ربع أيوب خلف «مقهى بيري لوتي»، تلك البئر الأسطورية التي يُقال إنها تكشف عن الغائبين. وقف الطفل يرقبهنّ، ثم دسّ رأسه على حجر البئر فرأى أباه – عياناً – يعبر الماء في قارب. أخفى الرؤية لأنه خالف أمر أمه بألا يقترب، لكن تلك اللحظة غرست فيه يقيناً غريباً: أن الغياب لا يُبطل حضور المحبوب في الخيال، وأن السرد – سواء كان خيالياً أو واقعياً – قد يعيد من خطفهم القدر أو الظروف الاجتماعية. هذا الخيال الطفولي، الممزوج بالفقدان، أصبح لاحقاً مصدر إلهام لقصصه التي تجمع بين الواقعية والفانتازيا الساخرة، حيث يتحدث عن الغياب الاجتماعي كما لو كان بئراً سحرية تكشف الحقائق المخفية.
ذلك المزيج – أم تطرز بالحب، وأب يغيب فلا يغيب من الذاكرة، وصفعة تبني الاحترام – هو البذرة التي أنبتت الكاتب الساخر لاحقاً: ضحك لا يستخفّ، ومرارة لا تيأس، وحس أخلاقي لا يساوم على القيم الإنسانية في وجه الظلم.



من البندقية إلى القلم… المدرسة العسكرية و«داء نابليون»

دخل نسين المدرسة بشغف قلم وحلم مسرح، لكنه وجد نفسه مضطراً إلى حمل بندقية. كانت تلك «تربية» الجمهورية التركية الحديثة لأبناء الفقراء: مدارس داخلية عسكرية لا تعرف معنى الحرية الفردية، بل تنحت الطاعة نحتاً كأنها تمثال من حجر. تخرج ضابطاً عام 1937، بعد سنوات من التدريب الصارم الذي يجمع بين الرياضة البدنية والانضباط العسكري، وإذ به يصاب – مع زملائه الضباط الجدد – بمرض ساخر سمّاه بداء النابوليونيه «Napoleonitis»: الوقوف أمام خرائط العالم بطباشير حمراء، ورسم سهام لاحتلال الكرة الأرضية في خمس دقائق! بقي في هذه الحمى عاماً أو اثنين، ثم تعافى منها، لكنه لم يكن يوماً ميالاً إلى الفاشية أو الاستبداد، بل كان يرى فيها مرضاً اجتماعياً يصيب الشباب الطموحين في ظل نظام يعتمد على القوة.
في عام 1934، فرض «قانون الألقاب» الذي أجبر الجميع على اختيار أسماء عائلية، رأى نسين الناس يتبارون في مسرح للأقنعة: بخيل يسمّي نفسه «الكريم»، وجبان يغدو «الشجاع»، وكسول يصير «دؤوباً». تخلّف عن هذه المعركة الزائفة، واختار لنفسه «نسين» – سؤالاً متأملاً: «ما أنت؟» أو «أهذا صحيح؟» – وكأنه يعلّق على جبينه مهمة العمر: المساءلة الدائمة لما يُظن بديهياً. هذا الاسم، الذي أصبح علامته التجارية، يعكس فلسفته: السخرية كأداة للتشكيك في السلطات المقدسة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية.
وبين الثكنة والحلم، بدأ يكتب للمسرح عام 1944، ثم انحدر القلم إلى القصة والصحافة. حاول الشعر، لكن الشاعر الكبير ناظم حكمت – وقد دخل إضراباً عن الطعام في السجن – قال له بصرامة المحب: «اترك الشعر؛ أنت شاعر سيّئ.» احترم الشعر حدّ أن أخلى له السبيل؛ ليس لأنه لا يطعم خبزاً كما كان يمزح، بل لأنه رأى فيه مقاماً ينبغي أن يؤتى من بابه. ويا للمفارقة: حين نشر بعض القصائد باسم نسائي، انهالت عليه رسائل الغرام لأن التوقيع امرأة! هذه الحادثة، التي رواها في مذكراته، تكشف عن براعته في اللعب بالهويات، وكيف استخدمها لاحقاً في كتاباته تحت أسماء مستعارة لتجنب الرقابة.



الصحافة، الأقنعة، والسجون… سخريةٌ تُوجِع

في عام 1945، هاج آلاف من المحتجين المحافظين مكتب جريدة «تان» التي عمل فيها نيسين؛ صار اسمه ثقيلاً على الصفحات، فكتب تحت أكثر من مئتي اسم مستعار: افتتاحيات، قصص، تحقيقات، مقابلات، روايات بوليسية… ومن طرائف تلك الأقنعة أن «مناجاة الأطفال» نشرتها باسم «أويا آتش» – اسم ابنته – فأُدرجت في مدارس تركيا وموسوعاتها كمؤلّف لكاتبة تركية! وقصة باسم فرنسي ضمّتها مختارات الأدب الساخر الفرنسي، وأخرى باسم «مبدع صيني» نشرتها مجلة على أنها ترجمة من الصينية. هذا اللعب بالأسماء كان درعاً اضطرارياً في وجه الرقيب السياسي، لكنه كان أيضاً مرآة لبراعة التحوّل والأسلوب الذي يبدّل لونه كي يصل إلى الناس دون أن يفقد جوهره.
لم تكن السخرية عنده هزلاً سطحياً؛ كتب قصة من طفولته ليُبكي الناس، فقرأها رئيس التحرير وانفجر ضاحكاً حتى ذرفت عيناه. فهم الدرس: الناس يضحكون حين يرون حقيقتهم عارية؛ الضحك أصدق المرايا. من هنا صار التهكّم عملاً جدّياً، وأداة كشف لسلطة تتزيّن وتخدع، ولجهل يرتدي عباءة الدين، ولخرافة تُعطّل العقول. قصصه، مثل «الكلب الذي أصبح رئيساً» أو «الموظف الذي يبيع الوقت»، تكشف عن الفساد الإداري والاجتماعي بطريقة تجمع بين الفكاهة والنقد الحاد.
ولأن للكلمة كلفة، دخل السجن مرات عديدة: خمس سنوات ونصف وبعض الشهور، منها قضية عجيبة اتهمه فيها الملك فاروق والشاه رضا بالتحريض والإساءة عبر مقالات ساخرة! وحين سُجن أول مرة عام 1946، ظل الشرطي يلح: «من الكاتب الحقيقي لهذه المقالات المنشورة باسمك؟» لم يصدقوا أنها له. وبعد سنتين اتهم بكتابة أخرى بأسماء مستعارة؛ في الدعوى الأولى حاول إثبات أنه كتب، وفي الثانية أنه لم يكتب؛ انتهى الخبير إلى أنه كاتب لمقالة لم يكتبها، فسُجن ستة عشر شهراً بسبب مقال ليس له! (مفارقة لا ينسجها إلا واقع يتجاوز الخيال).
تزوّج مرتين، وبدّل خواتم الزواج خلف قضبان السجن؛ كان نحيفاً وضعيفاً، لكن تكرار السجن زاده وزناً وجلداً. ومع ذلك، ظلت الصحافة والقصص تتدفّق؛ إذ ما إن يُغلق باب حتى يُفتح آخر باسم جديد. في سجنه، كتب مذكراته ورواياته، مستخدماً الوقت كمادة خام للإبداع.



الجوائز… حين صارت السخرية جسرًا إلى العالم

على الرغم من الرقابة والمحاكمات، كانت السخرية جسرًا إلى قرّاء العالم؛ ففي 1956 نال «النخلة الذهبية» (إيطاليا) في مسابقة دولية للمرح بقصة «كازان تيريني» (مراسم الغلاية)، ثم عاد ليفوز بها ثانية في 1957 – وكانت تلك العودة رسالة إلى الصحف التركية التي امتنعت عن نشر اسمه قبل الجائزة ثم عادت بعدها، ثم عادت للمنع! وفي 1966 نال «القنفذ الذهبي» (بلغاريا)، ثم «التمساح» (الاتحاد السوفيتي) عام 1969، و«جائزة اللوتس» للكتاب الآسيويين والأفارقة 1976، كما مُنح عضوية فخرية في PEN Club بالمملكة المتحدة 1985، وميدالية تولستوي الذهبية 1989. هذه اللائحة، كما يوثقها موقع وزارة الثقافة التركية ومواد مرجعية أخرى، تثبت أن سخريته تجاوزت الحدود الثقافية، محولة الضحك التركي إلى لغة عالمية.
وفي 27 مايو 1960، مع نشوة التغيير السياسي بعد الانقلاب العسكري، تبرّع بالنخلتين الذهبيتين لخزانة الدولة؛ بعد أشهر قليلة سُجن مجدداً. لكن الجوائز أنقذته – رمزياً – من اليأس، فقال لنفسه: «الناس تحتاج من يُدهشها ويُضحكها»… فكتب، وكتب: أكثر من ألفي قصة – وبالنسبة لرب أسرة مثلي، لم يكن الرقم مجون مبالغة، بل برنامج عمل يومي. عند الثالثة والخمسين كان في رصيده ثلاثة وخمسون كتاباً، وأربعة أطفال، وحفيد واحد، وديون ثقيلة؛ تُرجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة، وعُرضت مسرحياته (نحو سبع عشرة مسرحية) في سبعة بلدان. كان ينهض كل صباح إلى العمل – بلا انقطاع تقريباً – ويقول: لا أريد فرصة أعود فيها إلى الدنيا لأكرر ما فعلت؛ إن عاد بي الزمن سأعمل أكثر بكثير. هذا الإنتاج الغزير، الذي يجمع بين القصة القصيرة والرواية والمسرح، جعله واحداً من أبرز الكتاب التركيين في القرن العشرين، وأثره يمتد إلى اليوم في الأدب الساخر العالمي.



سلمان رشدي، «سيفاس 1993»، ومعطف الدم
لم يكن همّ نيسين أن يتم اتهامه بالهرطقة والإلحاد أو ينتقد ممارسات تدين سطحية متعمدا؛ كان فقط يسخر من نفاق المتديّنين ومن محاولات ربط الدين بالجهل وقمع الحريات. لم يعلن أبدا إلحاده جهاراً، بل قال في إحدى مقابلاته: «لا يهمني أن يتم اتهامي بالإلحاد، فهذا لن يوقفني عن ملاحقة المتظاهرين بالتدين وفضح نفاقهم.» هذا التصريح يعكس موقفه: ليس رفضاً للدين كمعتقد شخصي، بل نقداً لاستخدامه كأداة للقمع. ومع ذلك، دفع ثمن دفاعه الصلب عن حرية الإبداع؛ لكنه حين أعلن رغبته في ترجمة رواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانية» إلى اللغة التركية عام 1993، صار في مرمى غضب أعمى من المتشددين والمتطرفين.
وبعد أعوام قليلة، في 2 يوليو 1993، شهد فندق ماديماك في سيفاس حريقاً مروّعاً خلال مهرجان ثقافي للاحتفاء بالشاعر بير سلطان أبدال، قُتل فيه 37 من المثقفين والفنانين – أغلبهم من الوسط الألوي – بينهم شعراء مثل بهروز كيشكين وميتين ألتيوك، وموسيقيون كبار. نجا نسين عبر سلم خارجي، لكن المعطف الأبيض الذي دخل به المستشفى بقي ملوثاً ببقع الدم – وسيفخر بها ما حييت: الثمن الذي يجب أن يدفعه كاتب للحرية. تشير مصادر عديدة، بما فيها تقارير منظمات حقوق الإنسان، إلى أن الغضب عليه ارتبط بنيّته ترجمة الكتاب، وإن اختلفت القراءات حول استهداف شخصي أو استهداف الضيوف الألويين كجماعة. كانت المذبحة، التي أشعلتها حشود متشددة، رداً على خطاب نسين في المهرجان حيث تحدث عن الحاجة إلى تكييف الدين مع العصر الحديث، مما أثار غضباً أدى إلى الحريق.
تلك الواقعة كشفت هشاشة العلاقة بين حرية الكاتب واحتقانات المجتمع؛ وكشفت أيضاً كيف قد يحوّل الاستقطاب السياسي والديني مهرجاناً ثقافياً إلى مأتم عام. ظل نيسين يؤمن أن الدين أكبر من أن تهزّه رواية، وأن علاج الأفكار السيئة أفكار أفضل، لا محارق للفنانين والكتاب. بعد الحادث، استمر في عمله، لكنه عاش تحت التهديد، مما يعكس صموده ككاتب ملتزم.



الوقف… تحويلُ السخرية إلى رعاية

في 1973 أسّس «وقف نيسين» (Nesin Vakfı): مشروعاً تربوياً إنسانياً لرعاية أبناء الفقراء ومجهولي النسب، يوفر لهم التعليم والإيواء والحنان. أراد تحويل ما كتبه عن الطفولة المحرومة إلى بيت فعلي يجدون فيه الغذاء النفسي والجسدي. الوقف يكبر حتى اليوم، كما يسجل ذلك تقارير منظمات مثل أمنستي وموقع الوقف نفسه؛ بعد زلزال 2023، وسّع نشاطه لخلق مساحات شافية لأطفال هاتاي المتضررين، بما في ذلك برامج تعليمية ونفسية. هذا الامتداد يشرح ما أراده: أن تبقى السخرية شجاعة أخلاقية تتحوّل – في نهاية المطاف – إلى فعل رعاية اجتماعية.
قبل رحيله، أوصى رفاقه أن يُدفن جسده داخل الوقف، قريباً من الأطفال، وبلا شاهد ظاهر حتى لا يخيفهم الموت؛ من أراد زيارته فليقف على آلته الكاتبة التي قضى عليها وقتاً أطول مما سيقضيه في التراب. إنها، في نظر الكاتب، قبر للزمن أيضاً: تبتلع الساعات لتصبح كتباً وحكايات. الوقف – كفكرة – هو وجه آخر لسخريته: ليس تجميداً للثروة، بل تحريراً لها في جيل جديد؛ أن تنتقل من النص إلى الفعل، ومن القلم إلى المطبخ والملجأ والصف الدراسي. اليوم، يشمل الوقف قرية الرياضيات التي أسسها ابنه علي نسين عام 2007، حيث يتعلم الشباب الرياضيات المتقدمة في بيئة حرة، مما يجعل الإرث مستمراً.



الخرافة، الجهل، والبِيروقراطية… موضوعات السخرية الكبرى

سخرية نسين ليست نكتة، بل سؤال أخلاقي حاد: لماذا نقبل الظلم باسم جميل؟ لماذا نقدس الخرافات؟ لماذا يتواطأ الإعلام مع السلطة، والبيروقراطية مع الفساد، والجهل مع الورع الزائف؟ لذلك جاءت قصصه – في الصحافة والمسرح – مسمّاة بالأشياء كما هي: البائع الذي يغش، الموظف الذي يتسلط، «الجنرال» الذي يتوهم العالم خرائط، السياسي الذي يبدل الأقنعة، «المصلح» الذي يكره العلم. في روايته «الرجل الذي أصبح ديكاً»، يسخر من التحولات الاجتماعية، مستلهماً كافكا لكن بطابع تركي.
وحين نقرأ دفاعه عن حق رشدي في الكتابة، نفهم المبدأ: حرية الإبداع؛ لا يعني قبول الأفكار، بل الإيمان بأن الحجة تهزم بحجة أقوى، وأن الحرق – للروايات أو الفنانين – إعلان إفلاس أخلاقي. دفع ثمن قناعته أمناً مضطرباً ومحاكمات ونيراناً، لكنه بقي صوتاً للعلمانية.



ناظم حكمت… الغيرةُ التي تصنع صداقة

كان ناظم حكمت، شاعر تركيا الأكبر، حاضراً في خلفية حياة نيسين: صديق يجرؤ على قسوة النصيحة. قال له: «دع الشعر» – فتركه احتراماً له وللشعر. في المقابل، شعر حكمت بغيرة من سرعة كتابة نسين وأثره الشعبي؛ كانت غيرة مبدع يعرف أن السخرية، حين تتقن، تصبح شعراً من نوع آخر: قافية ضحك على وزن الحقيقة. بينهما توتر جميل يصنعه اختلاف الأدوات واتحاد الغاية: الحرية والعدالة الاجتماعية.



«قصتي»… حين تصبح السيرةُ مختبرًا للأسلوب

من يقرأ «قصتي» يجد العصب الأخلاقي للسخرية: الفقر الذي علّم الصبر، الأم التي علّمت الجمال، البئر الذي علّم الخيال، الصفعة التي علّمت الاحترام، الثكنة التي علّمت أن الأزرار لا تصنع رجلاً، والسجن الذي علّم أن الكلمة أقوى من القضبان. لهذا كتب أحياناً بأسماء نساء ورجال من جنسيات مختلفة؛ ليس تلاعباً، بل حيلة حياة كي يمر الصوت إلى القراء عندما يغلق باب الاسم.
في ترجماتي العربية – المنشورة في «الحوار المتمدن» وعدة مواقع وصحف عربية – وثقت مشاهد من طفولة نيسين: «المحظورات وأول وآخر صفعة»، «الطبيب والمقبرة»، «الفأر الصغير في زيت…»، «الديك والشادوف»، لم تكن نقل لغوي فحسب، بل مرافقة إنسانية لصوت أراد الوصول إلى القارئ العربي بحرص دافئ بحلاوته ومراراته، مع الحفاظ على نبرة السخرية التي تطرق دون أن تهدم.



حصيلةُ العمر… ما يبقى بعد الضحك

عندما وصل إلى عمر الثالثة والخمسين أعلن أن لديه ثلاثة وخمسين كتاباً، وترجمات تجاوزت العشرين لغة، ومسرحيات تعرض في بلدان شتى، ودَيناً ثقيلاً… ولكن لديه أيضاً قراء؛ والقراء – لا الجوائز وحدها – معيار الكاتب. ذكّر نفسه دائماً: لولاهم لانقلب الضحك ثرثرة، ولولا الأيتام في الوقف لانقلبت السخرية بلاغة أخلاقية لا تفعل شيئاً على الأرض.
لم يزعم أنه يريد العودة ليكرر حياته؛ قال إنه لو عاد عمل أكثر. تلك وصية كاتب عاش على عجل، كأن الحياة مشروع كتابة مؤجل دائماً إلى «غد» لا يأتي إلا إذا كتبت. أبقى قوائم «أعمال الغد» قصاصات صغيرة لا يتلفها؛ صارت وثائق تربط ماضيه بحاضره ومستقبله.



الضحكُ كقارب نجاة

عزيز نيسين ليس مجرد كاتب ساخر «مضحكاً»؛ هو منقذ صغير يرمي قارباً للناس في بحر يومهم: يضحكون، نعم، لكنهم – في الضحك – يرون أنفسهم: بيروقراطية تذل، سلطة تنافق، إعلام يضلل، خرافة تطفئ المصباح. ومع الضحك، يحمل إليهم أماً تطرز القماش حدائق، وأباً يغيب فلا يغيب من الخيال، وصفعة تبني الاحترام، وبئراً يعيد الغائبين، ووقفاً يفتح للأيتام باباً ليس إلى الخبز وحده، بل إلى العلم والكرامة.
عاش الرجل كما كتب، ومات كما عاش: بلا ضجيج زائد، وقبر بلا شاهد كي لا يخيف الأطفال. من أراد أن يزوره فليقف على الآلة الكاتبة – حيث عاش أطول من قبره – وليتذكر أن السخرية، حين تكون صادقة، ليست فناً للهو، بل فناً للحياة. وفي سرد حياته، نجد اقتباساته الجميلة تتردد كأصداء: «يجب أن يصمت المرء، أو ينطق بكلمة أقيم من الصمت»، يقولها مستلهماً فيثاغورس، لكنها تعكس فلسفته في الكتابة. وعن المرأة: «مهما أعطيت المرأة، تردّه مضاعفاً أضعافاً»، في إشارة إلى الكرم الإنساني. وفي وصيته: «دفنوني في حديقة مدرسة بلا شاهد قبر، ليجري الأطفال فوقي»، رمزاً للحياة الدائمة. وأخيراً: «أنا لا أحتاج إلى الله لأنني لا أريد الجنة ولا الجحيم؛ أريد أن أعيش حراً»، تصريح يلخص صراعه من أجل الحرية.



المراجع والهوامش (مختارات أساسية)

• وزارة الثقافة التركية: صفحة تعريف رسمية وبيان بأشهر الجوائز الدولية (النخلة الذهبية 1956–1957، القنفذ الذهبي 1966، التمساح 1969، جائزة اللوتس 1976، عضوية PEN الفخرية 1985، ميدالية تولستوي 1989). • قانون الألقاب التركي 1934: الخلفية التاريخية لفرض الألقاب واختيارها. • مذبحة سيفاس 1993 / فندق ماديماك: السياق والضحايا ودور نسين ونجاته عبر السلم؛ قراءات مختلفة لهدف الهجوم. • نية ترجمة “الآيات الشيطانية” ودفاعه عن حرية الإبداع: مقالات وشهادات حول علاقة الهجوم بتلك النية. • وقف نسين (Nesin Vakfı): تاريخ التأسيس 1973، رسالته التربوية، واستمراره حتى اليوم وتوسعه بعد زلزال 2023. • حكاية الاسم والهوية (نصرت/عزيز): سرد تستعاد فيه مفارقة اختفاء الاسم الحقيقي خلف الاسم الأدبي.
ترجماتي عن عزيز نسين (نماذج منشورة في الحوار المتمدن باسم: «عزيز نسين – ترجمة: أوزجان يشار») • «المحظورات وأول وآخر صفعة»—من مذكرات عزيز نسين. • «الطبيب والمقبرة»—من ذكريات الطفولة ومشاهد الأسرة. • «الفأر الصغير في زيت…»—من مذكرات الكاتب التركي. • «الديك والشادوف»—مشاهد من الريف والناس. • «القرآن وماكينة الخياطة»—مقطع من المذكرات بترجمتي. • صفحة تعرف بي في الحوار المتمدن، وتوثق جانباً من أعمالي في ترجمة نسين.

ملاحظة منهجية:

التواريخ والوقائع العامة (الجوائز/الوقف/سيفاس/قانون الألقاب) وثقت بمصادر مرجعية حديثة ومعتبرة؛ أما المشاهد الحياتية الدقيقة (الأم، الزهور، البئر، الصفعة، اللعب بالأسماء) فاستندت إلى نص «قصتي» ومذكرات نسين كما نقلتها في ترجماتي المنشورة أعلاه، وإلى شهادات شخصية وردت في مقابلات ومواد سيرية.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذئب الذي صار إنسانًا… والإنسان الذي صار ذئبًا
- أدوات وآليات التأثير بين الفن والسلطة: كيف نصنع أثرًا يبني و ...
- الكلام مهارة والإصغاء فن: بين الفهم والرد
- الفيل القابع في الحفرة بين الأزرق والأحمر
- التهذيب مرآة الحضارة عبر ثقافات الأمم.
- ومضات من فن الرسام البحريني علي الموسوي
- قواعد التوفيق الخمسة عشر: طريقك نحو التميز والتفوق
- ومضات من حياة وأدب إدوارد مورغان فورستر
- مهارة التفاوض: سلوك يومي في الحياة لا ساحة معركة حتمية
- سور الصين العظيم: عندما سقط الجدار من الداخل
- التركي الذي ركب صاروخاً ليتحدث مع المسيح عيسى عليه السلام
- كيف أتصالح مع الجانب المظلم داخلي وأحب ذاتي بصدق؟
- النور الخفي يشع في روح الإنسان… لكن البعض لا يرى سوى العتمة
- حكاية الثعلب الماكر والمزرعة الواسعة
- الذكاء العاطفي وإدارة الأولويات: عندما تقود المشاعر قراراتنا
- غياب الفهم المتبادل: سجن للروح أم حرية في ظل التواصل الإنسان ...
- تركيا الحديثة بين الحقائق والمزايدات: كمال أتاتورك وعصمت إين ...
- توحش الحليف وغدر الصديق: كيف خانت الولايات المتحدة قطر مرتين
- التوقعات التي تحمي النوايا الطيبة من الصدمات
- الرضا الذاتي: السيادة على النفس ومعنى الحرية الداخلية


المزيد.....




- أسطورة الشطرنج بوبي فيشر.. البيدق الأميركي الذي هزم السوفيات ...
- القضاء الأمريكي يحكم على مغني الراب -ديدي- بالسجن أربع سنوات ...
- محمد صلاح الحربي: -محتاج لحظة سلام- بين الفصحى واللهجة
- سياسات ترامب تلقي بظلالها على جوائز نوبل مع مخاوف على الحرية ...
- مئات المتاحف والمؤسسات الثقافية بهولندا وبلجيكا تعلن مقاطعة ...
- ساحة الاحتفالات تحتضن حفلاً فنياً وطنياً بمشاركة نجوم الغناء ...
- انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب 2025
- انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب 2025
- لا أسكن هذا العالم
- مزكين حسكو: القصيدة في دورتها الأبدية!


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضاتٌ من حياة “جحا التركي” عزيز نيسين: أيقونة الأدب التركي الساخر