عباس موسى الكعبي
الحوار المتمدن-العدد: 8476 - 2025 / 9 / 25 - 23:43
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بقلم: توماس إي. آي. ويتاكر
ترجمة عباس موسى الكعبي
المبدأ المبكّر للإيمان (1825–1827)
وُلِد أنطوني نوريس غروفز في الأوّل من شباط/فبراير 1795 في نيوتن فالنس بمقاطعة هامبشاير جنوبي إنكلترا. كان والده في السابق مالكاً لمصفاة ملح مزدهرة على الساحل، غير أنّ سلسلة متلاحقة من الكوارث أطاحت بمعظم استثماراته المالية. فقد غرقت السّفينة رويال جورج، التي استثمر فيها بكثافة، في حادثة غرق مأساوية، وفشل مشروع لاستصلاح الأراضي، كما تسرّب سرّ تجاري يتعلّق بعمليات الملح إلى المنافسين. وربما بسبب هذه الظروف المالية الصعبة للأسرة، أُرسل غروفز إلى منزل عمّه وعمّته قرب لندن ليلتحق بالمدرسة، ثمّ دخل في تدريب مهني في الكيمياء تمهيداً لاتباع مهنة عمّه، وهو طبيب أسنان ناجح.
في سن الثامنة عشرة انتقل غروفز إلى مدينة بليموث في جنوب غرب إنكلترا ليتابع مساره المهني البرجوازي. وفي لندن كان يُجبر على حضور الكنيسة ضمن التزام المدرسة، لكنّه كان يخبئ روايات أدبية داخل الكتاب المقدّس ليحتمل طول العظات. غير أنّه في بليموث عام 1816 عاش تجربة "التحوّل الإنجيلي"، الأمر الذي عمّق التزامه بعقيدته الأنغليكانية. منذ ذلك الحين كرّس نفسه للكنيسة، وشارك بنشاط في جمعية "الأثينيوم" الأدبية. وفي العام ذاته تزوّج من ابنة عمّه ماري طومسون، وانتقلا معاً عام 1818 إلى مدينة إكستر. هناك انضمّت مساعيه الفكرية في الأدب والعلوم إلى نزعة متزايدة نحو العمل الخيري وروح أعمق من الالتزام الكنسي. ومع تزايد إخلاصه للكنيسة وجمعياتها الطوعية في عشرينيات القرن التاسع عشر، نما لديه شغف بالعطاء المالي القرباني، حتى راح يتساءل لماذا لم يُدرِك سائر المسيحيين بعدُ أهمية أن يعهدوا بدخلهم كاملاً إلى الله.
إنّ دفاتر يوميات غروفز المنشورة لا تكشف مجمل أفكاره الداخلية، بل مجرّد مقتطفات منتقاة بعناية أراد أن يقدّمها للعالم الخارجي. وقد شكّلت هذه المقتطفات مادّة لخيال القرّاء الغربيين في إعادة بناء صورة "حياته الغريبة". وفي هذا العالم المتخيَّل استطاع غروفز أن يُبرز أدلّته بقوة، مستنداً إلى تجربة معاشة، ليُطوّر بذلك صيغة "تجريبية" لمبدأ الإيمان تؤكد الحماية المعجزية الإلهية كقانون كوني للمؤمن المسيحي. لقد أصبحت يومياته بمثابة برهان عملي على العناية الخاصة، جديرة بأن تُتداول في سياقات دفاعية ولاهوتية.
وفي عام 1831 أرسل غروفز دفاتر رحلته إلى بغداد ليقوم بنشرها جيمس نيسبت. وقد حرّر النص ألكسندر جون سكوت، الوزير الأسكتلندي في لندن ومساعد المبشّر إرفنغ سابقاً. وجاء في مقدّمة سكوت:
"إنّ هذا السجلّ شهادة للعالم على صدق كلمة الكتاب المقدّس: «طوبى لمن يتّكل على الربّ». وإنّ هذا التأكيد والتوضيح، كما لو كان معروضاً عملياً في شخص السيد غروفز، لكلّ ما دعا الكنيسة إلى الإيمان به على أساس كلمة الله وحدها، التي خاطر بسمعتها بكل جرأة، لا بدّ أن يُرغم الناس، مهما كانت قلوب جاحدة، على التصديق من أجل هذا العمل ذاته، وأن يدفعهم إلى تمجيد الله وهم يقرأون الأدلة الوافية الواردة في الصفحات التالية عن أمانة الله ومحبته لطفل بسيط واثق. فكل وعد من وعود يسوع المسيح، آمن به هذا الخادم، قد تحقّق كما سيظلّ الأمر دوماً؛ ونحن لا نحصل لأنفسنا إلا قليلاً، لأننا حين نطلب لا نتوقع أن ننال مرادنا."
أما غروفز نفسه فكان أقل ثقة عند تفسيره لغاية كتابته:
"إنّ هدفي الوحيد من الاحتفاظ باليوميات، هو أن أسجّل ما نراه من تعاملات الله معنا أو مع غيرنا، علّها تكون نافعة لي أو ربما للكنيسة."
ومع ذلك، فإنّ نشره للنص يكشف اقتناعه بأنّ "الكنيسة" ستوظف تسجيل تلك "التعاملات الإلهية" لصالح بعثة المبشّرين.
وقد احتوى السجلّ على تفاصيل ما اعتبره غروفز حماية إلهية معجزية للبعثة. فتباهى مثلاً بقلّة المطر المعرقل لرحلتهم من بطرسبورغ إلى بغداد، وظلّ يسبّح الله على التبرّعات التي توافرت لهم من المسيحيين في طريقهم، كما فرح بأنّ عربة السفر – وإن تعطّلت مراراً – كانت أعطالها دوماً قريبة من مناطق مأهولة، ولم تتسبّب بأكثر من "بضع ساعات تأخير". وفي أراضٍ كردية خطرة، لمّا أشار رفيق محلي إلى حاجته لسلاح، أجابه غروفز: "أشرت إلى السماء باعتبارها مصدر أمني، ويبدو أنه فهم قصدي." وبرغم سماعهم عن السرقات والقتل، أعلن غروفز: "يمكننا أن نقول الآن إنّه من بطرسبورغ إلى بغداد لم نفقد خيطاً ولا شراك حذاء، بل جئنا جميعاً، مع كل متاعنا، سالمين." وفي ختام الكتاب كتب:
"أمّا المستقبل فلا نعرف عنه شيئاً، ولسنا معنيين بمعرفته؛ يكفينا أن نعلم أنّ كل الأشياء ستعمل معاً لمجد أخينا الأكبر، كما ستعمل معاً لخيرنا. وليس علينا إلا أن نستمر ببساطة في الاتكال على الرب."
لكن إيمان غروفز البسيط بالعناية الإلهية سيخضع للاختبار لاحقاً في العام ذاته.
بَغداد، العناية الإلهية، والاختبار المرير (1831–1833)
في عام 1831 استقرّ أنطوني نوريس غروفز مع زوجته وأطفاله، ومعهم العالِم الكتابي الأصم جون كيتو، في مدينة بغداد، حيث أسّسوا مدرسة لتعليم الأطفال الأرمن. لكن ما إن بدأت المدرسة بالازدهار حتى اجتاحت المدينة سلسلة من الكوارث. فبينما كان الجيش العثماني الغازي يقترب، ضرب الكوليرا بغداد، أعقبته فيضانات مدمّرة.
في يومياته الثانية، التي حرّرها سكوت ونُشرت عام 1832، عبّر غروفز بجلاء عن رؤية "ما قبل الألفية" لفكرة العناية الخاصة. بالنسبة إليه، كان هذا المزيج الكارثي علامة واضحة على دينونة الله. قرأ هذه "الزيارات" باعتبارها "أحكاماً" ينفّذها "ملاك الهلاك"، وكتب قائلاً: "يبدو أن هذا المعقل لمجد محمدي… قد نال صكّ موته من يد الرب." ورأى في ذلك دلالة على اقتراب الألفية: " إن كل عوامل الانحلال تعمل في صميم الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية. الطواعين، الزلازل، الحروب الأهلية، كلها تشير إلى أن أيام مجيء الرب باتت قريبة."
كما وجد غروفز في أخبار أوروبا علامات أخرى على اقتراب النهاية: " يا له من خبر غريب، مقلق… يبدو أن الرب ينخل الأمم، ويُري حكّامها أنّه بدون بركة الرب لن تصمد ثقتهم وخططهم ومضارباتهم… بلا شك هذه علامات في الأزمنة قد تدفع حتى أشدّ المتشكّكين إلى التساؤل." لقد عزّز سكوت، محرّر اليوميات، هذه القناعة، معتبراً شهادة غروفز دليلاً على "القوة العملية" للإيمان الألفي، في مقابل النظرة السائدة عند بعض المسيحيين الذين كانوا يرون التفكير في عودة المسيح موضوعاً "افتراضياً للعقول الفضولية". غير أنّ خبرة غروفز وزوجته أثبتت – بحسب سكوت – أنّ "الجزء النظري من الدين ينهزم أمام واقع التجربة؛ ففي خضمّ الارتباك والفقدان والرعب، نراهم متشبّثين بأمل واحد لأنفسهم وللعالم: أنّ الرب آتٍ ليملك، ومن ثمّ تبتهج الأرض."
كان غروفز مقتنعاً أنّ العناية الخاصة ستبقي بيته في مأمن، حتى وإن اجتاح الوباء كل أسرة أخرى في المدينة. كتب قائلاً: "سيكون الربّ لنا مقدساً صغيراً، مهما أرسل على الأرض من أحكام قاسية، إذ لنا وعد خاص بالحماية." وقد منحه مزمور 91 شعوراً عميقاً بالطمأنينة: "يا له من شعور مبارك أن تعلم أنّك لست خاضعاً لحكومة عامّة، بل لسلطان خاص ومباشر من يهوه… أنّه فداك، ونقشك على كفّيه، ويقظته الليلية والنهارية مسلّطة لحفظك."
لكنّ هذا اليقين تعرّض لامتحان قاسٍ حين أصيبت زوجته ماري بالكوليرا وماتت لاحقاً. عندها تغيّر نَفَس يومياته، فبعد أن كان واثقاً من أن الرب سيحفظ "أسرته الصغيرة المتّحدة والسعيدة"، كتب بمرارة: "لكن طرقه ليست طرقنا، ولا أفكاره أفكارنا." تحوّلت كتاباته إلى صلوات ملحّة، وتجلّت صورة لله أكثر غموضاً. ومع ذلك ظلّ غروفز يتوسّل الرحمة، معترفاً بأنّ مشيئة الله – مهما كانت مؤلمة – صائبة بالضرورة: "إن كان ذلك لمجدك ولخيرها، فاصنع، أيها الرب القدير، مشيئتك."
بعد وفاة زوجته، واجه غروفز السؤال الأكبر: كيف يوفّق بين موت زوجته وإيمانه بحماية الله للمؤمنين؟ كان جوابه مزيجاً من التسليم بسرّ الله ومحاولة عقلنة الحدث باعتباره بركة خفيّة. كتب في يوم وفاتها: "يوم مظلم ثقيل على الطبيعة البائسة، لكن الرب كان نوره وسنده." لقد رأى أنّ الله يعمل حتى في موتها، وأنّ تدبيره يتجاوز إدراك الحواس البشرية، قائلاً: "سواء قدّم لنا الجرعة المرّة أو الحلوة، فإنّ رايته علينا هي المحبة."
اعتبر غروفز أنّ ماري بلغت في بغداد ذروة تقواها، وأنّها ازدادت انشغالاً بالتأمل في المجيء الثاني. حتى وهي طريحة الفراش بالوباء، ظلّت تقول: "سيتصرّف بي الرب بأعظم رحمة." بالنسبة إليه، كانت وفاتها تحقيقاً لرغبتها القصوى بالانضمام إلى "المفديين المتسربلين بالبياض". ومن خلال هذا "الاقتناع الظافر" وحده استطاع أن يتجنّب الانهيار. أعاد تعريف "الخير الأسمى" للمسيحي بحيث يشمل الموت نفسه، متمسّكاً ببرنامجه اللاهوتي القائم على العناية الخاصة.
لقد تجاوز "مبدأ الإيمان" عند غروفز مسألة العطاء المالي، ليؤكد صلاح الله وسيادته في كل أبعاد الحياة والموت. صحيح أنّ جانب "التكريس المالي" الذي ظهر في كتابه الإخلاص المسيحي ظلّ قائماً، لكن في بغداد بدا أنّ المعونة المادية تصل بتدبير إلهي غامض، إذ قدّم بعض الأرمن الأغنياء دعماً سخياً لأسرته، الأمر الذي عدّه غروفز "برهاناً على عناية الآب السماوي". ومع وفاة ماري، صار العيش بموجب الإيمان يتجاوز الحسابات المادية ليشمل الحياة برمّتها. فالمسيحي مدعوّ لأن يعتمد اعتماداً صريحاً على العناية الإلهية، لا أن يحصرها في قوانين ميكانيكية جامدة.
كان لاهوت غروفز العملي مبنيّاً على مفهوم الاعتماد الكلّي على الله. وقد تبلور هذا المفهوم بوضوح أكبر في كتاباته اللاحقة. ففي عام 1833، انتقل مع أسرته ونشاطه التبشيري إلى الهند، وأصدر كتيّباً بعنوان في طبيعة التأثير المسيحي، دافع فيه عن "مبدأ الإيمان" ضدّ من اتهموه بأنّه يلغي كل رجاء في أن يؤثّر المسيحيون على جيرانهم. جادل غروفز بحماسة أنّ الأثر المنظور للاعتماد على الله هو المصدر الوحيد الموثوق للتأثير المسيحي. كتب: "أُعطي [الاعتماد] أهمية كبرى. إنّه أجمل ما يميّز الطفل… لكن الطبيعة البشرية تمقته. فحبّ الاستقلال ثمرة الكبرياء، وأحد أسوأ ثمار السقوط." ورأى أنّ الرغبة في الاستقلال التام نقيض لرسالة المسيحي، التي هي "قيادة قلوب الآخرين إلى الاعتماد على الله، وتمكينهم من إدراك قوّة الأمور الروحية."
هكذا أكّد غروفز أنّ الاعتماد على وعود الله، المعرّفة من خلال قانون العناية الخاصة، يتعين أن يكون السمة الأساسية لحياة كل مسيحي.
#عباس_موسى_الكعبي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟