علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (6)

عباس موسى الكعبي

الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 04:49
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

الإبقاء على مسافة

على امتداد معظم القرن العشرين، لم يجد أدب الرحلات والاستكشافات المبكرة السبيل إلى الدراسات الأثرية، لذا، ظلت الدراسات التاريخية التخصصية نفسها نادرة نسبيًا، وركزت بشكل كبير على القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فقد جرى بين الفينة والأخرى انتشال بعض الأفراد من غياهب النسيان وإبرازهم إلى الواجهة، على سبيل المثال، روبرت كير بورتر، وبيترو ديلا فالي، وجين ديولافوا، وكورنيليس دي بروين، وأدولفو ريفادينيرا، وإرنست هيرزفيلد.
لم توظف كتابات الرحّالة الأوروبيين كمصادر لمعلومات معاصرة عن الحقبة العثمانية في هذه المنطقة إلا قليلا. فلم تُعر الدراسات التاريخية والجغرافية التاريخية اهتماماً يُذكر في منطقة ما بين النهرين السفلى بوصفها مجالاً مستقلاً للبحث. وبذلك لم يبقَ سوى علم آثار المشاهد الطبيعية بوصفه الميدانَ الأكثر قابلية لالتقاء الدراسات المادية بالدراسات النصية معاً، وهو ما أتاح بالفعل إنجاز العديد من الأبحاث على تخوم علم الآثار وعلم الآشوريات على مرّ السنين. غير أنّ معظم هذه الجهود ظلّ منصبّاً على الحقبة السابقة للعصر العثماني، إذ كان علم الآثار الرافديني، بل والشرق أوسطي عموماً، ينظر إلى نفسه على أنّه دراسة للماضي السحيق لهذه المنطقة.
ومع ذلك، ظهرت بعض الاستثناءات الدالّة على إمكانية توظيف أدب الرحلات لإعادة بناء مشاهد بلاد الرافدين في العهد العثماني. ففي عام 1927 نشر ريموند دوغيرتي نتائج مسحٍ في منطقة "شط الكار"، تضمّن عرضًا لوصف المنطقة من زمن لوفتس (1849-1854) إلى أولبرايت (1925)، إضافة إلى إعادة بناء نظام "شط الكار" استنادًا إلى تلك الروايات. كما تضمّنت دراسة روبرت م. آدامز حول مسح "ديالى" قراءة موجزة، ولكنها واسعة زمنيًا لمرويات الرحّالة عن المنطقة قبل القرن العشرين. وأخيرًا، احتوى كتاب ماكغواير غيبسون " المدينة ومنطقة كيِش" على ملخّص موجز جدًّا لوصف المشاهد الطبيعية لرافدي نهر الفرات، الحلّة والهندية، منذ العصر الإسلامي، كما فعل "ستيفن كول" في دراسته للجغرافيا التاريخية لمنطقة بورسيبا.
ومع أنّ القيمة المحتملة للمدونات الأوروبية في العصر العثماني كان مُعترَفاً بها ضمناً في جميع هذه الدراسات، إلا أنّ معظمها لم يُوسّع من نطاق أدب الرحلات بالطريقة التي تبلور بها في النصف الأول من القرن ذاته. فضلا عن ذلك، اشتركت جميعها في التركيز بشكل مميّز على القرن التاسع عشر، إما بسبب قلّة المادة المتاحة للفترات السابقة (كما في حالة دوغيرتي) أو ببساطة لأن تلك الفترة المبكرة عُدّت أقل أهمية. وتميّز عمل آدامز باعتماده مقاربة شمولية في دراسة المشاهد الطبيعية، إذ تجاوز حدود الروايات المذكورة في الدراسات السابقة؛ غير أن منشوراته اللاحقة تركت الفترة العثمانية شبه مهملة، ودون دراسة إلى حد كبير. ولم يتحوّل استخدام أدب الرحلات على هذا المستوى البحثي إلى ممارسة منتظمة؛ إذ غالبًا ما استُخدمت هذه المرويات كمادة للحشو بغية الانتقال من حقبة الجغرافية العربية (القرن السادس إلى الرابع عشر) إلى القرن التاسع عشر الأكثر توثيقًا (غيبسون 1972: 26-30)، أو كصور توضيحية أكثر من كونها مادة بيانية قابلة للتحليل النقدي.
وهكذا، حتى أواخر القرن، ظلّ التركيز منصبًّا على علم الآثار في القرنين التاسع عشر والعشرين. فلم تُفلح الدراسات المباشرة (أي، التاريخ التخصصي) ولا غير المباشرة (أي استخدام أدب الرحلات كمصدر للمعلومة) في تسليط الضوء على كامل نطاق المرويات المتاحة. وقد حافظ هذا الوضع على الاعتقاد الضمني بأنّ المصادر ذاتها، وكذلك الحقبة التي تنتمي إليها، ليست ذات أهمية خاصة للأبحاث الأثرية. وظلّت الصورة السائدة تقول إنّ علم الآثار نشأ في أذهان أفراد، في مقدمتهم ديلا فالي في القرن السابع عشر، ولم يكتسب أهميته العلمية إلا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبالأخص في القرن التاسع عشر. وقد جادلتُ في موضع آخر بأنّ مثل هذا التفسير ضيّق للغاية.

يتبع..

#عباس_موسى_الكعبي (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل