علم الآثار الرافديني وأدب الرحلات: علاقات متحوِّلة (2)

عباس موسى الكعبي

الحوار المتمدن-العدد: 8466 - 2025 / 9 / 15 - 02:28
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

بقلم. بارت أوغه - جامعة خنت
ترجمة: عباس موسى الكعبي

الأيام الأولى: الرحّالة وعالم الآثار - وجهان لعملة واحدة
البدايات
يُعتقد عمومًا أن ظهور علم الآثار الرافديني بمعناه الدقيق قد حدث في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر. أما الإكتشافات الأثرية "الحقيقية" التي جرت في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، إلى جانب حفريات موقعي نينوى وبابل في أربعينيات القرن التاسع عشر، فتعتبر كبرى الإنجازات في هذا المجال. ولا شك أنه لا يمكن التقليل من أهمية تأثير هذه الاكتشافات؛ وفي ذات الوقت، من الواضح أيضًا لأي باحث أن علم الآثار الرافديني لم ينشأ من العدم في أذهان الأكاديميين الأوروبيين. بل، كأي علم آخر، نما تدريجيًا من خلال اهتمامات متنوّعة جذبت الأوروبيين على مر القرون إلى هذا الجزء من العالم أو أغرتهم بدراسة ماضيه. وقد تراوحت هذه الاهتمامات بين الأكاديمية (مثل دراسة أراضي الكتاب المقدس أو البحث عن الوثائق العربية)، والسياسية (مثل البحث عن حليف فارسي ضد الإمبراطورية العثمانية)، أو الاقتصادية (مثل تجارة القوافل والسعي إلى العثور على ممر سريع إلى جزر الهند)، والدينية (مثل العمل التبشيري) وحتى الشخصية البحتة (مثل الحج أو السياحة).
باستثناء عدد قليل من سرديات ما قبل القرن السادس عشر، لم يصل الوجود الأوروبي في بلاد ما بين النهرين السفلى، ولا المرويات المنشورة عنه إلى أعداد ملموسة إلا في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وخلال هذه المرحلة المبكرة من الاستكشاف، لعب الرحّالة، على اختلاف أنواعهم، دوراً محورياً في إنتاج ونشر المعارف حول حاضر المنطقة وماضيها، إذ أصبح أدب الرحلات جزءاً مهماً من عملية جمع البيانات العلمية عن المناطق التي تقع خارج بلدانهم. فقد ساعدت روايات الرحّالة التي تتناول بلاد الرافدين في تسليط الضوء على وسائل السفر عبر المنطقة، والإشارة إلى أهم المدن والبلدات؛ كما قدّمت أولى المحاولات لرسم جغرافية تاريخية مبنية على الملاحظة، وزودت القراء الأوروبيين بتفاصيل عن مواقع مثل طيسفون وعقرقوف وسامراء. وقد أولت الفلسفة العلمية الإنسانية أهمية كبرى للسفر كوسيلة لجمع المعلومات حول العالم، وشجعت على إنتاج كتب الرحلات ومختارات من أدبها، ولم يكن السفر إلى بلاد الرافدين استثناءً من ذلك. وفي حين يمكن ملاحظة اختلافات نوعية بين شتى كتاب الرحلات، إلا أنه في هذه المرحلة المبكرة من الاستكشاف لم يكن هناك تمييز صارم بين الرحّالة المتخصصين وغير المتخصصين. فقد اختلفت النصوص عن بعضها البعض من حيث الأوصاف وتدوين الاحداث التأريخية، لكن سواء أكان الكاتب متعلماً على مستوى عال (مثل الطبيب ليونارت راوولف) أم تاجراً قليل الاهتمام بالشأن الأكاديمي (مثل جون إلدرِد أو غاسبارو بالبي)، فقد جرى ضمّهم إلى الدراسات المعاصرة. وبالمثل، بينما اقتصرت دراسة الماضي السحيق لهذه المنطقة بشكل شبه حصري على الدراسات التاريخية واللغوية، لكن بوسعنا ملاحظة الاهتمامات الآثارية في بعض نصوص الرحالة الأوائل. فمثلاً، تُعد مذكرات "جورج فيرنبرغر" غير المنشورة، مثالاً على امتزاج الفضول الشخصي بالاهتمامات العلمية. فقد قام برحلة عبر المنطقة عام 1589 بدافع الفضول المحض، لكنه حاول أحياناً تفسير معالم الأرض بالاستناد إلى المراجع الكلاسيكية والتوراتية. كما أنه جلب معه "طابوقة" من زقورة عقرقوف، معتقدا أنها برج بابل، في إشارة إلى شغف تلك الحقبة بجمع الآثار.
بعض الملاحظات الميدانية وجدت طريقها لاحقاً إلى الدراسات الأوروبية حول طبيعة وتاريخ وجغرافيا الشرق، مما يدل على الأهمية الأكاديمية الممنوحة لمثل هذه المصادر، على الرغم من عدم وجود أي محاولة على ما يبدو لدمج جميع كتب الرحلات المتاحة في هذه الدراسات. فعلى سبيل المثال، اعتمد أولفرت دابر في كتابه المنشور عام 1680 حول تاريخ وحاضر الشرق الأوسط على مصادر رحّالة متنوّعين مثل الحاخام بنيامين التطيلي، والرحالة التاجر غاسبارو بالبي، والباحث في التأريخ الفارسي بيدرو تيخيرا. وقد فنّد الاعتقاد السائد حينها بأن موقع بابل يقع قرب بغداد، وهو رأي ظلّ رغم ذلك متداولاً بعد عقدين من الزمن في التراث الشرقي. أما آرثر بيدفورد في كتابه عن التسلسل الزمني للكتاب المقدس، فقد أشار إلى أن بنيامين التطيلي عدّ نينوى منطقة ممتدة شرق الموصل. بيد ان إدوارد ويلز، الذي انشغل بالروايات التوراتية والكلاسيكية للمنطقة بقدر انشغال بيدفورد، فقد أشار في كتابه "الجغرافيا التاريخية للعهد القديم" إلى ملاحظات الرحّالة موندريل في تحديد موقع جنة عدن. ومن الواضح أن أدب الرحلات شكّل مصدراً محتملاً للمعلومات عن ماضي بلاد الرافدين إلى جانب المصادر التاريخية الأكثر رواجاً (الوثائق الكلاسيكية والتوراتية، فضلاً عن الوثائق العربية والفارسية المحلية) التي اعتُبرت أكثر وثوقاً.
يتبع..

#عباس_موسى_الكعبي (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل