ثورة العشرين- وجهة نظر الطرف الآخر..

عباس موسى الكعبي

الحوار المتمدن-العدد: 7299 - 2022 / 7 / 4 - 02:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

مقتطفات من كتاب (العراق – قلب الشرق الأوسط)، تأليف ريتشارد كوك
ترجمة: عباس موسى الكعبي

ما الذي جرى في ثورة العشرين - ماذا يقول الطرف الآخر..

... في عام 1920، بات تحت تصرف السلطات العسكرية البريطانية ستون ألف جندي، العديد من هؤلاء الجنود بعيدين عن وحداتهم العسكرية ومسخرين "لأعمال" مدنية أخرى، وجميعهم موزعين في بلد لا يمتلك سوى النزر القليل من وسائل النقل على امتداد مسافات شاسعة، ويبلغ عدد سكانه ما يقرب من ثلاثة مليون نسمة.. وبالتالي، قد يُنظر إلى احتمال حدوث أي شيء بقلق مثل القيام بعصيان عام.

مر شهر حزيران 1920 بهدوء، ولم تعكره سوى أحداث صغيرة مشبوهة، غير ان الاجواء كانت مشحونة، وقد تنفجر العاصفة في أي وقت. وفي نهاية الشهر وقع حادث، أظهر بجلاء خطورة الوضع: فقد اقترض شيخ من شيوخ قبيلة بني حچيم، وهي قبيلة شرسة من قبائل منطقة الفرات الادنى كانت ترى ان الضرائب بدعة غير مرحب بها، اقترض مبلغ 100 جنيه استرليني من الحكومة كقرض زراعي، غير انه لم يفي بتسديده على مدى فترة طويلة من الزمن. عندها، تم ابلاغ المسؤول السياسي في القاطع عن هذا الأمر، فأمر باعتقاله. وتم جلبه واحتجازه في المكتب السياسي المحلي، على أن يتم ترحيله بالقطار المسائي لغرض المساءلة من قبل السلطات العليا. وعلى أثر ذلك، رفعت قبيلته بيارقها للتلويح بالحرب، وقام بعض رجاله باقتحام المكتب وإطلاق سراح الشيخ وقتل جميع افراد الشرطة ممن حاولوا التدخل.

وعلى الفور اندلعت العاصفة في جميع أنحاء المنطقة، وقطعت السكك الحديدية في عدة أماكن، وعادت قطارات الاستكشاف إلى الوراء، وجرى تطويق بلدة الرميثة التي تضم حامية بريطانية صغيرة وعدد من المدنيين البريطانيين. ولوحظ أن القوات المتمردة التي تحاصر البلدة كانت مزودة ببعض المهارات والمعارف العسكرية، واتضح فيما بعد أن رجال القبائل كانوا تحت قيادة ضباط قوميين وأتراك.

فشلت المحاولات الأولى لإنقاذ المدينة. كانت العملية تواجه تحديات واضحة. وسرعان ما انتشرت أنباء الحصار وتضخمت أهميته. وعلى ضوء ذلك، انتشرت القوات البريطانية على شكل مفارز صغيرة على مساحات شاسعة وغير ودية. وصدرت أوامر على الفور تفيد بتمركز جميع الحاميات البعيدة داخل مدينة بغداد، لغرض إعادة انتشارها بسهولة. واستعدت السلطات لمواجهة حملة يحتمل أن تكون واسعة النطاق في مناطق الفرات الأوسط.

في أوائل شهر تموز، باتت مدينة الكوفة تشكل مركز استياء واسع. في هذه الأثناء وقعت الكارثة، فقد تعرض رتل صغير يعمل في قاطع الحلة – كوفة الى هجوم أدى إلى خسائر في صفوف القوات البريطانية تقدر بعشرين قتيلًا و360 جريحًا ومفقودًا. كانت تلك الخسائر هي الاثقل التي تكبدتها القوات البريطانية، وأصبح من المستحيل إخفاء خطورة التمرد سواء في بلاد ما بين النهرين أو في بريطانيا العظمى. ووقع ثمانون رجلاً من فوج مانشستر أسرى في أيدي المتمردين لعدة أشهر من ذلك التاريخ.

وبحلول منتصف شهر آب، وقعت مدينة بعقوبة مع سكتها الحديدية الرئيسية المؤدية إلى بلاد فارس، في أيدي المتمردين، وكذلك بلدة شهربان. واثناء الهجوم على شهربان، تم اسر سيدة إنجليزية واحتجازها لعدة أسابيع.

في الشمال، بدأت مجموعات من قبيلة شمر تثير المشاكل، واظهرت القبائل الكردية الساكنة عند تخوم بلدة كفري الباحثة دوما عن فرصة للنهب، علامات تدعو للقلق. في هذا السياق، اضطرت القوات الانجليزية، في عدة مناسبات، إلى إظهار القوة المسلحة في الشوارع، وهي عملية أثبتت كفاءتها في تهدئة حماسة ثوار المقاهي ذوي الملابس العصرية (الافندية). لم يبد عامة الناس في بغداد ميلا كبيرا للانخراط في هذه الأحداث، واستمرت الحياة العادية المزدحمة للمدينة بسلاسة مدهشة طوال فترة التمرد. ومع ذلك، تمكن المتمردون من احراق وتدمير مستودع النقل الميكانيكي البريطاني في بغداد بالكامل، مما أدى إلى خسارة أكبر مخزن لقطع الغيار والبدائل في بلاد ما بين النهرين. ودب خوف حقيقي حيال المخازن الحكومية الأخرى والأماكن المهمة في محيط المدينة، غير أن التدابير الاحتياطية التي تم اتخاذها كانت كافية لردع الجناة.

في منتصف شهر آب، بدأت بعض القبائل القاطنة شمال غرب بغداد تظهر علامات السخط، وهو ميل وصل إلى نهايته الدرامية بسبب جريمة القتل الشائنة للطالب العربي والمدير الإداري البريطاني العقيد ليچمان. فقد نفذت العملية بطريقة غادرة وخسيسة للغاية. ففي منتصف الطريق الصحراوي بين بغداد والفلوجة، وبعيدًا عن كل علامات الحياة البشرية باستثناء السكك الحديدية وخط التلغراف، يوجد مركز للشرطة في خان النقطة. والمركز عبارة عن مبنى متواضع طالما شهد أيامًا هادئة. وفي هذا المكان، وجه العقيد ليچمان، المسؤول السياسي البريطاني للمنطقة في ذلك الوقت، دعوة الى الشيخ ضاري لغرض مقابلته في أحد صباحات شهر آب. وصل الشيخ باكراً مع اثنين من أبنائه وبعض أقاربه وأتباعه، وتبعه مباشرة العقيد ليچمان بسيارته، وكان معه مرافقه وسائقه فقط. جرت أحاديث عمل ودية لبعض الوقت، عندها ظهرت سيارة أخرى عند الخان تضم مجموعة من العرب يشتكون من تعرضهم للتوقيف والسرقة من على مسافة قصيرة من المكان. وعلى ضوء ذلك، أرسل العقيد ليچمان مجموعة صغيرة من الشرطة باتجاه مكان السرقة المزعومة، وعاد إلى مكتبه في الخان. لكن بعد مرور بعض الوقت، طلب الشيخ ضاري الإذن بمقابلة العقيد مرة أخرى، وبناء على ذلك تمت دعوته إلى المكتب، فدخل رجلان إلى الغرفة، أحدهما ابنه، وأطلقوا النار فورا ودون سابق إنذار، فأصابوا العقيد ليچمان بجروح خطيرة، ثم أكمل الشيخ ضاري بنفسه فعلته الغادرة بطعن الضابط المحتضر بسيفه. كان موت العقيد إشارة إلى انتفاضة عامة في القضاء، بحيث تم عزل الفلوجة والرمادي عن بغداد. ولحسن الحظ، وقف شيخ الدليم صاحب النفوذ القوي (الذي يمتد إلى غرب الفرات وهيت وعانة)، وقف موقفا حازمًا، الامر الذي أراح السلطات البريطانية من كل قلق بشأن المنطقة الشمالية الغربية.

في الجنوب، سارت الأمور بشكل أفضل مما كان متوقعًا. فلم تبدي قبائل منطقة جنوب شرق دجلة، بما في ذلك قبائل البو محمد البربرية ذات السمعة السيئة، أي علامات تدعو الى القلق. وفوق ذلك، بقيت قبائل المنتفج، التي بوسعها عزل الحكومة بالكامل من خلال عزل بغداد عن البصرة والبحر، بقيت موالية للحكومة طيلة ذلك الوقت. وكذلك لم تُظهر البصرة وضواحيها أي استعداد للتعاطف مع المتمردين. وكانت الاضطرابات في الجنوب محصورة بشكل شبه كامل في منطقة أسفل نهر الفرات.. ويعود الفضل الكبير في الهدوء النسبي لمنطقتي المنتفج والبصرة إلى الوجهاء المحليين، ومنهم السيد طالب باشا النقيب من البصرة.
لم يكن التمرد تحت سيطرة زعيم واحد أو سلطة واحدة. وسرعان ما أصبح واضحًا أن الحكومة، بكل موارد العلوم الحديثة التي تحت إمرتها، لا بد أن تنتصر على التحالف الشاذ بين رجال القبائل والملالي والاقطاعيين والقوميين، ذلك التحالف الذي نشأ نتيجة الاعتقاد الخاطئ بضعف الانجليز.
شهد الربع الأخير من العام تقدما عاما في استرداد المناطق التي تم الاستيلاء عليها؛ لكنه كان تقدما تدريجيا للغاية. فتم قمع الاضطرابات في شمال غرب بغداد، التي اندلعت بعد مقتل العقيد ليچمان، وأعيد ربط منطقة الفرات العليا بأكملها بالعاصمة.

كان تخلّي زعماء المدن الدينية عن قضية بناء الدولة الفتية أمرًا مؤلمًا للغاية. فقد كان العثمانيون المتعصبين ينظرون إلى المدن المقدسة بعين الريبة وليس بعين الوقار. ففي عهد العثمانيين، لم يسمح لأي شيعي مسلم بشغل أي منصب حكومي، ولم يكن لدى الشيعة محاكمهم الشرعية الخاصة. ولم يشعر الشيعة آنذاك سوى بالخوف من الاتراك وكراهيتهم على أسس عرقية وطائفية. على الجانب الاخر، قام الانجليز بتحريرهم من تلك الاغلال ومساعدتهم على اقامة محاكمهم الشرعية، كما ضمنوا لهم سلامة أماكنهم المقدسة ولم يقيموا اي حامية عسكرية في تلك الاراضي، حتى انهم تركوها خارج مسار سكة حديد وادي الفرات الجديدة. إضافة إلى ذلك، ألغى البريطانيون جميع الاجراءات الرسمية التي كانت تحول دون توظيف الشيعة، وفتحوا أمامهم ذات الفرص للحصول على وظيفة عامة كسائر ابناء السنة. ورغم ذلك، انحاز رجال الدين الشيعة بقوة نحو الاتراك، وتناسوا تعامل الاتراك الوحشي معهم، لدرجة انهم دعموا عصيانا على اراضي مدنهم المقدسة.

ومن الانصاف أن نضيف أن بعض رجال الدين قد ندموا على دعم الثورة، لان رجال القبائل النهابون السلابون لم يظهروا أي احترام لأنفسهم، فقد نهبوا ممتلكات الفلاح العراقي البسيط وصاحب المقهى الفقير كما نهبوا ممتلكات الجندي البريطاني، لا فرق!

#عباس_موسى_الكعبي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات