أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد ساجت قاطع - العراق بين أزمة الوعي وفساد السلطة















المزيد.....

العراق بين أزمة الوعي وفساد السلطة


محمد ساجت قاطع
كاتب وباحث عراقي

(Mohammed Sajit Katia)


الحوار المتمدن-العدد: 8474 - 2025 / 9 / 23 - 20:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يُنظر إلى العراق بوصفه بلد المفارقات الكبرى؛ فهو أرض الحضارات القديمة وموطن الثروات الطبيعية الهائلة، لكنه يعيش منذ عقود طويلة تحت وطأة الأزمات المتكررة. فمنذ سقوط النظام الملكي عام 1958 وحتى اليوم، تعاقبت على العراق أنظمة سياسية متباينة في شعاراتها، لكنها متشابهة في إنتاجها للأزمات. وإذا كان الاستبداد والحروب قد شكّلا السمة الغالبة على القرن العشرين، فإن القرن الحادي والعشرين حمل معه ملامح أزمة مركبة أكثر عمقًا، يمكن اختزالها في ثنائية قاتلة: وعي شعبي مأزوم وسلطة سياسية فاسدة.
هذه الثنائية لا تعني تحميل الشعب كامل المسؤولية ولا إعفاء السلطة من جرائمها، بل الكشف عن جدلية التواطؤ بين الطرفين: سلطة تفتك بالمجتمع وتنهب ثرواته، ومجتمع عاجز عن إنتاج وعي نقدي قادر على مقاومة الفساد وكسر حلقة الخراب. وهنا تبرز الإشكالية المحورية: هل العراق ضحية فساد السلطة وحده، أم ضحية وعي اجتماعي متهالك سمح بتغوّل الفساد واستمراره؟


رثاثة الوعي الشعبي
إن توصيف "رثاثة الوعي" لا يراد به إهانة الشعب، بل تشخيص حالة تراكمت بفعل عوامل تاريخية وسياسية ودينية. والرثاثة هنا تعني وعيًا هشًا، عاجزًا عن تجاوز الانقسامات الأولية والطائفية، وعيًا يستبدل النقد بالتقديس، ويغلب الولاءات الجزئية على الانتماء الوطني.
جذور رثاثة الوعي:
1. التاريخ السياسي: عقود من الاستبداد البعثي والحروب العبثية التي سلبت الناس ثقتهم بأنفسهم وبالدولة، وجعلت الخوف وسيلة للبقاء.
2. التدين الشعبوي: هيمنة خطاب ديني طائفي غذّى الانقسام بدلًا من تعزيز روح المواطنة، وحوّل المرجعية الدينية إلى وسيط سياسي مباشر.
3. انهيار التعليم والإعلام: غياب مناهج التفكير النقدي، وتغليب ثقافة الحفظ والتلقين، ما أبقى المواطن أسير الشعارات الجوفاء.
مظاهر رثاثة الوعي:
1. انتخابات تقوم على الطائفة والقبيلة بدل البرامج والكفاءات.
2. التطبيع مع الفساد: يُنظر إلى السارق الكبير كرمز للنفوذ، بينما يُعامل الصادق والنزيه كحالم ساذج.
3. الاستسلام للعجز: يتكرر القول الشعبي "ما نكدر نغيّر" كتبرير للاستمرار في الدائرة نفسها.
إن رثاثة الوعي ليست ثابتًا أبديًا، لكنها بنية متجذرة تصعّب مهمة أي مشروع إصلاحي حقيقي، لأنها تخلق مجتمعًا يتكيّف مع الخراب بدل أن يثور عليه.


فساد السلطة
إذا كان الوعي المأزوم والرثّ هو الأرضية الاجتماعية، فإن السلطة الفاسدة هي الآلية السياسية التي تستثمر هذه الأرضية وتعيد إنتاجها.
بنية السلطة بعد 2003:
 المحاصصة الطائفية: تقاسم الدولة على شكل حصص بين الأحزاب، بحيث تحوّل كل منصب إلى غنيمة.
 تسييس مؤسسات الدولة: القضاء، الجيش، والوزارات تحولت إلى أدوات في يد القوى المتنفذة.
 هيمنة الميليشيات: تغوّل الجماعات المسلحة المرتبطة بمرجعيات خارجية، ما جعل مفهوم الدولة هشًا وملتبسًا.
مظاهر الفساد:
1. نهب الثروات النفطية وتحويلها إلى شبكات مالية خارجية.
2. غياب الخدمات الأساسية (الكهرباء، الماء، الصحة) رغم مليارات الدولارات.
3. عسكرة المجتمع وتحويله إلى رهينة لمعادلات القوة الطائفية والإقليمية.
لقد تحولت السلطة في العراق من مؤسسة لإدارة الدولة إلى شبكة مافيوية تضم رجال السياسة ورجال الدين ورجال الأعمال، بحيث صار الفساد ليس مجرد انحراف فردي، بل نظامًا قائمًا بذاته.


جدلية التواطؤ بين الوعي المأزوم والسلطة الفاسدة
يتغذى الطرفان على بعضهما في دائرة مغلقة:
 وعي شعبي قائم على الولاءات الأولية يفرز سلطة فاسدة عبر صناديق الاقتراع أو عبر الصمت الممنهج تجاه الانحرافات.
 وسلطة فاسدة تُعيد إنتاج هذا الوعي عبر تكريس الطائفية، تجهيل المجتمع، وإفقاره لضمان استمرارية التبعية.
إن هذه الجدلية تفسر قدرة النظام السياسي العراقي على الاستمرار رغم الفشل المزمن، وتفسر كذلك عجز المجتمع عن تحويل احتجاجاته المتكررة إلى مسار إصلاحي مستدام. فالمعادلة هنا ليست مجرد "سلطة فاسدة مقابل شعب ضحية"، بل "سلطة فاسدة وشعب مأزوم في وعيه"، ما يجعل الأزمة ذات طبيعة بنيوية معقدة.
العلاقة بين الاثنين ليست عرضية، بل هي علاقة جدلية: الشعب الفاقد للوعي النقدي ينتج سلطة فاسدة عبر صناديق الاقتراع حين يصوّت وفق الطائفة والقبيلة. والسلطة الفاسدة بدورها تعيد إنتاج وعي رثّ من خلال:
 تكريس الطائفية عبر الإعلام والخطاب الديني.
 تجهيل المجتمع عبر إضعاف التعليم والجامعة.
 إفقار الناس كي تبقى حياتهم مرهونة بالمعونات والوظائف الحزبية.
هكذا يدخل العراق في دائرة مغلقة: وعي رثّ ⇄ سلطة فاسدة ⇄ خراب مستمر.
هذه الجدلية تفسر لماذا فشلت كل المحاولات الإصلاحية منذ 2003، ولماذا تحوّل الفساد إلى جزء "طبيعي" من الحياة اليومية، حتى كاد المواطن يتعامل معه كما يتعامل مع الطقس.


جدلية الخلاص
رغم قتامة الصورة، يبقى السؤال مشروعًا: كيف يمكن كسر الحلقة المفرغة؟
دور النخب والاحتجاجات: انتفاضة تشرين 2019 مثلت أول محاولة جادة لبناء وعي جمعي جديد يرفض الطائفية ويفضح فساد السلطة. لقد طرحت شعار "نريد وطن"، بما يعكس تحوّلًا من الولاءات الجزئية إلى البحث عن هوية وطنية جامعة. ورغم قمعها الدموي، فتحت الباب أمام إدراك جديد بأن السلطة ليست قدرًا، وأن الشعب قادر على صناعة مصيره.
ملامح الوعي البديل:
 المواطنة بدل الطائفة: أن يكون العراقي عراقيًا قبل أن يكون شيعيًا أو سنيًا أو كرديًا.
 العقل النقدي بدل التبعية: تحرير الدين من الاستغلال السياسي، وتحرير المواطن من عبودية الزعامات.
 المشاركة الشعبية بدل الخضوع: بناء دولة مدنية تقوم على المحاسبة والشفافية.

معوّقات الخلاص:
 رسوخ شبكات الفساد في بنية الدولة.
 غياب قيادة سياسية قادرة على تحويل الحراك الشعبي إلى مشروع سياسي بديل.
 استمرار التدخلات الإقليمية والدولية التي تستثمر في الانقسام.
رغم ذلك، يبقى التراكم التاريخي للاحتجاجات مؤشّرًا على تحوّل تدريجي في الوعي، قد يشكل أساسًا لبناء دولة مختلفة في المستقبل.


الخاتمة
إن خراب العراق لم يكن وليد فساد السلطة وحدها، ولا نتيجة استبداد الأنظمة فقط، بل هو نتاج تواطؤ مزدوج بين سلطة فاسدة ووعي اجتماعي عاجز. هذه الثنائية صنعت دائرة الخراب التي يعيشها العراق اليوم، وكسْرها يتطلب إعادة بناء الوعي الشعبي قبل أي إصلاح سياسي.
فالسلطة الفاسدة، مهما بلغت قوتها، لا تستطيع أن تصمد أمام شعب يمتلك وعيًا نقديًا حيًا. لكنها تستطيع أن تستمر لعقود إذا كان وعي الشعب هشًا ومشلولًا. ومن هنا فإن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، من إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة على أسس جديدة، قوامها الحرية والمواطنة والعدالة.
ويبقى السؤال مفتوحًا أمام العراقيين جميعًا: هل يمكن أن يولد وعي جديد من ركام الوعي الرثّ؟ أم أن السلطة ستظل قادرة على إعادة إنتاج الخراب؟



#محمد_ساجت_السليطي (هاشتاغ)       Mohammed_Sajit_Katia#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من تشرين العظيمة إلى نيبال
- العراق والتفكير الأحادي في فهم الظاهرة السياسية
- بين سلطة الله وسلطة الحاكم
- لماذا نحتاج إلى نقد الدين السياسي؟
- بين لاهوت التحرير ولاهوت الطاعة
- الدين السياسي عدو الإصلاح
- الدين حين يتحول إلى أيديولوجيا قمع
- كيف تُنتج الدولة رجال دينها؟
- من الدين لله إلى الدين للسلطة
- الدين بين الرسالة والأداة
- بين التحالف والخيانة... فرقٌ كبير
- آثار ظاهرة وعّاظ السلاطين على الدين والمجتمع
- الوجه النفسي لظاهرة وعّاظ السلاطين: الحاجة إلى الحماية بدل ا ...
- مثقفو التبرير: حين يتحول الفكر إلى أداة بيد السلطة
- تأثير الغباء الاجتماعي على الشعوب: قراءة في نظرية ديتريش بون ...
- فقه الطاعة وفقه الاستبداد: التحليل الفقهي والسياسي لشرعية ال ...
- الجذور التاريخية لظاهرة وعّاظ السلاطين
- كيف يُهزم الجهل؟
- ليس الجهل وحدهُ الخطر...
- نظرية المشاركة: محاولة حسن العلوي للتصالح مع التاريخ


المزيد.....




- مشهد مخيف.. لحظة انهيار جسر جراء فيضانات عارمة في تايوان
- شاهد.. إعصار راغاسا يضرب هونغ كونغ برياح سرعتها 160 كليومترً ...
- بين التحذيرات والمباحثات: غروسي يتحدث عن برنامج إيران النووي ...
- إطلاق علاء عبد الفتاح وآخرين.. بداية صفحة جديدة مع المعارضين ...
- لماذا لا يدعم العلم ربط ترامب بين الباراسيتامول والتوحّد؟
- عون يطالب إسرائيل بوقف عدوانها والانسحاب من لبنان
- هل أصبحنا أقرب إلى بناء كلية اصطناعية؟
- ترامب ينتقد عودة جيمي كيميل إلى الشاشة ويهدد بمقاضاة إيه بي ...
- براك يؤكد اقتراب سوريا وإسرائيل من اتفاق أمني والشرع يحذر من ...
- نازحو غزة يستأجرون المنازل المقصوفة والمدمرة رغم خطورتها


المزيد.....

- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد ساجت قاطع - العراق بين أزمة الوعي وفساد السلطة