أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد ساجت قاطع - مثقفو التبرير: حين يتحول الفكر إلى أداة بيد السلطة














المزيد.....

مثقفو التبرير: حين يتحول الفكر إلى أداة بيد السلطة


محمد ساجت قاطع
كاتب وباحث عراقي

(Mohammed Sajit Katia)


الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 07:15
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لا تقتصر المخاطر التي تهدد أي مجتمع على وجود سلطة قمعية أو مؤسسة دينية متحالفة معها، بل تتعداها إلى بروز فئة ثالثة أشد خطورة، وهم المثقفون الذين يُفترض أن يكونوا ضمير المجتمع وعقله النقدي. حين يتخلى بعض هؤلاء عن أدوارهم التنويرية، يتحولون من مثقفي تغيير إلى مثقفي تبرير، يشرعون في إنتاج خطاب يجمل قبح الاستبداد ويمنحه مسوغات فكرية وأخلاقية تحت شعارات مراوغة مثل "درء الفتنة"، و"الحفاظ على النظام"، و"المصلحة الوطنية العليا".
ففي وقت لا يكون التحالف بين السلطة القمعية والمؤسسة الدينية كافياً لإنتاج مناخ استبدادي خانق، غالبًا ما نرى أن هذا المناخ يتعزز بوجود هؤلاء المثقفين الذين يتحولون إلى أدوات تزيين للاستبداد، يضفون عليه هالة فكرية وأخلاقية تمنحه القبول في الوعي العام.

لو تأملنا مفهوم المثقف عند أنطونيو غرامشي، نجد أنه يقوم على رؤية تجعل المثقف جزءًا لا يتجزأ من البناء الاجتماعي، يتحمل مسؤولية تشكيل الوعي الطبقي، ويشارك بوعي وفعالية في إنتاج الثقافة والفكر الذي يعبر عن مصالح فئته، سواء كانت حاكمة أو مضطهدة. المثقف العضوي عند غرامشي ليس مجرد أداة تابعة للسلطة، بل هو فاعل ذكي وناقد، قادر على تعزيز التحولات الاجتماعية أو تحدي هيمنة الطبقات السائدة بحسب موقعه في المجتمع.
وهذا المفهوم يتناقض تمامًا مع نموذج "مثقفي التبرير" الذي نحن بصدد نقده. هؤلاء المثقفون لا يملكون استقلالية فكرية أو جرأة أخلاقية، ولا يهدفون إلى إنتاج ثقافة نقدية تحررية، بل يُختزل دورهم في تقديم تبريرات آلية للاستبداد، وشرعنة للاستكانة والخضوع. يتحولون إلى أدوات هامشية بيد السلطة، يغرقون في خطاب مزيف يُكرّس الهيمنة، وينزع من الثقافة دورها التحرري، ويحولونها إلى غلاف لتجميل وجه القمع بدلاً من أن تكون قوة مقاومة وتغيير.

أما المفكر إدوارد سعيد نراه في كتابه «المثقف والسلطة» يقدم تحليلاً دقيقًا لدور المثقف في العلاقة مع السلطة، مشددًا على أن المثقف الحقيقي يجب أن يكون صوتًا ناقدًا مستقلًا، قادرًا على فضح التواطؤات بين السلطة والثقافة. ويرى سعيد أن المثقفين الذين يختارون الاصطفاف مع السلطة، لا يعملون فقط على تزيين وجه القمع، بل يصبحون شركاء في القمع ذاته، من خلال إنتاج سرديات تسهم في إدامة الظلم وتقويض الوعي النقدي.

يتموضع مثقفو التبرير في المساحة الرمادية بين السلطة والجمهور، فيستعيرون خطاب النخب النقدية من حيث الشكل، لكنهم يفرغونه من جوهره، ليصبح أداة ضبط اجتماعي بدل أن يكون أداة تحرر. تحت لافتات براقة مثل "درء الفوضى"، "المصلحة الوطنية العليا"، أو "الحفاظ على السلم الأهلي"، يمارسون عملية إعادة صياغة للأحداث بحيث تبدو ممارسات السلطة القمعية خيارات عقلانية أو ضرورية.

تاريخيا، لم تخلو أي مرحلة في العالم العربي أو الإسلامي من وجود مثقفين يبررون الاستبداد. ففي العصور الإسلامية الكلاسيكية برز داخل أروقة قصور وبلاطات الخلفاء والسلاطين ما يعرف بشعراء وعلماء البلاط، الذين كانت وظيفتهم مدح السلطان رغم فساده، وكتابة رسائل تمجيدية لشرعنة حكمه، وتبرير الغزو والفتوحات الوحشية، أو قمع المعارضين، أو فرض الضرائب الجائرة، باسم "وحدة الأمة" أو "حماية الدين".
وفي القرن العشرون وصولاً إلى واقعنا المعاصر تطورت الأدوات، فحلّت المقالة الصحفية، والبرنامج التلفزيوني، والمنصة الرقمية محل المنبر التقليدي، لكن وظيفة المثقف المبرّر لم تتغير، حيث وُجدَ بالأمس مثقفون وإعلاميون في ظل الأنظمة الملكية والجمهوريات العسكرية ممن برروا القمع السياسي باعتباره ضرورة لمواجهة "الخطر الخارجي" أو "حماية الوحدة الوطنية"، واليوم هنالك كُتّاب وإعلاميون في القنوات الفضائية الرسمية أو الممولة سياسيًا، يصوغون خطابًا يتبنى مفردات الإصلاح والانفتاح، بينما يبرر بقاء السلطة على حالها، أو يشيطن المعارضة المدنية.

سيكولوجيًا، يمكن فهم ظاهرة مثقفي التبرير عبر آليات نفسية مثل "التطبيع مع القمع" و"التنافر المعرفي"، حيث يفضّل بعض المثقفين الانسجام مع القوة المهيمنة بدل مواجهتها، حفاظًا على الأمان الشخصي أو الموقع الاجتماعي. ويجدون في صياغة خطاب تبريري وسيلة للتخفيف من التوتر الداخلي بين قناعاتهم الأصلية ومتطلبات بقائهم في دوائر النفوذ.
سوسيولوجيًا، يرتبط مثقفو التبرير ببنية النخب في المجتمعات العربية، حيث غالبًا ما تُدار الثقافة عبر شبكات الزبائنية والمحسوبية. هذا يجعل استقلالية المثقف مهددة، ويحوّله أحيانًا إلى جزء من ماكينة السلطة، لا سيما حين تكون فرص النشر، والدعم المالي، والظهور الإعلامي، مرهونة بالرضى السياسي.

خطورة مثقفي التبرير لا تكمن فقط في خطابهم، بل في قدرتهم على تعطيل الوعي النقدي وإعادة صياغة الإدراك الجمعي، بحيث تصبح مقاومة الاستبداد نفسها فعلًا غير مرغوب فيه، أو تهديدًا للاستقرار. إنهم لا يكتفون بتزيين وجه الطغيان، بل يعملون على تشويه صورة أي بديل محتمل.
في ظل هذا الدور، تصبح معركة الوعي حربًا مزدوجة، لا تقتصر على مواجهة السلطة المستبدة، بل تطال أدواتها من مثقفي التبرير الذين يرتدون عباءة الثقافة لشرعنة القمع، ويجملون الاستبداد بعبارات براقة وأقنعة فكرية مزيفة.

***
محمد ساجت السليطي (كاتب وباحث عراقي)



#محمد_ساجت_السليطي (هاشتاغ)       Mohammed_Sajit_Katia#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأثير الغباء الاجتماعي على الشعوب: قراءة في نظرية ديتريش بون ...
- فقه الطاعة وفقه الاستبداد: التحليل الفقهي والسياسي لشرعية ال ...
- الجذور التاريخية لظاهرة وعّاظ السلاطين
- كيف يُهزم الجهل؟
- ليس الجهل وحدهُ الخطر...
- نظرية المشاركة: محاولة حسن العلوي للتصالح مع التاريخ
- الإصلاح الديني... لماذا يفشل دائما ؟ (1)
- الإصلاح الديني... لماذا يفشل دائما ؟ (2)
- أسطورة المنقذ: بين الحاجة للعدل واستغلال الوهم
- حين ينتصر الجهل
- فاجعة الكوت... حين يُستغل الألم لتصفية الحسابات
- من يصنع الجهل؟
- ماذا يشعر الجاهل؟
- التطبير... بین شجاعة الفتوى ومراعاة الجماهير
- متى يُصبح الجهل مقدسًا؟
- الجهل ... موت بطيء في هيئة حياة
- مضيق هرمز سلاح إيران ذو الحدين
- العراق وأزمة المياه: حين تتقدّم التجارة على السيادة
- قراءة في كتاب -آلهة في مطبخ التاريخ-
- قراءة في كتاب - حرب العاجز، سيرة عائد، سيرة بلد - لزهير الجز ...


المزيد.....




- لقطات تفطر القلب.. فتيات يتيمات ينهلن بالدموع بحفل تخرجهن في ...
- ماذا تعني الضمانات الأمنية لأوكرانيا؟
- إيران أمام -معضلة استراتيجية- بعد الحرب مع إسرائيل: تفاوض صع ...
- عزلة وفقر.. الجزيرة نت تستطلع أحوال نازحي جنين بعد 7 أشهر من ...
- إلى أين تتجه مسارات السلام في السودان؟
- تحليل لغة جسد ترامب وقادة أوروبا وكيف جلسوا أمامه وحركة ميلو ...
- السفارة السعودية تعلق على وفاة سعود بن معدي القحطاني بعد سقو ...
- ترامب يستبعد إرسال قوات برية إلى أوكرانيا وسويسرا تعرض حصانة ...
- النظم العشبية.. الحليف المهمل في مكافحة تغير المناخ
- الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته شمال ووسط قطاع غزة


المزيد.....

- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد ساجت قاطع - مثقفو التبرير: حين يتحول الفكر إلى أداة بيد السلطة