محمد ساجت قاطع
كاتب ومدون عراقي
(Mohammed Sajit Katia)
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 22:44
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في كل مرحلة من التاريخ الإسلامي، كانت هناك أصوات ترفع راية "الإصلاح الديني"، بدافع استعادة روح الدين الأولى، أو استجابة لتحديات العصر، أو رفضًا للفساد الديني والسياسي. ومع ذلك، بقيت تلك الأصوات تغرد في هوامش الوعي، تصطدم بجدار من الرفض أو التجاهل، ثم تُطوى سيرتها في ركن منسيّ، أو تُحاكم بوصفها تهديدًا للمقدّس.
رغم مرور قرون من المحاولات والتجارب، ما زال السؤال المؤلم يلاحق الوعي الإسلامي:
لماذا يفشل الإصلاح الديني دائمًا؟
هل الخلل في النصوص؟ أم في طرق تأويلها؟
هل العطب في المصلحين؟ أم في الجماهير؟
أم أن البنية العميقة للسلطة الدينية والسياسية لا تسمح بأي إصلاح جذري؟
الإجابة عن هذا السؤال تتجاوز سرد الوقائع أو التذكير بسير الرموز، لتلامس جوهر الأزمة في داخلنا: في طريقة فهمنا للدين، وحدود حرية التفكير في بيئة تستمد شرعيتها من التقليد لا من العقل، ومن الطاعة لا من المساءلة.
لقد تحوّلت الدعوات الإصلاحية في أغلب التجارب إلى خطر يجب تحييده، أو صوت يجب تشويهه، أو شذوذ يجب إخراجه من الجماعة، لا لأنّها لم تكن صادقة أو ضرورية، بل لأنها اصطدمت بجدار الثوابت المصنوعة، والمصالح المقدّسة، والوعي المشروط بالخوف.
هذا المقال ليس عرضًا تاريخيًا لمراحل الإصلاح، بل محاولة لفهم العوامل البنيوية والفكرية التي تجعل مشاريع الإصلاح، مهما اختلفت أسماؤها، تتحوّل غالبًا إلى تجارب معزولة، تُوأَد قبل أن تُزهر، وتُعامل كرجس يجب اجتنابه.
لأن الإصلاح يهدد بنية المصالح
الإصلاح الديني لا يعني تجميل الخطاب أو تحديث الفتاوى بلغة معاصرة، بل هو في جوهره زلزال يهزّ مراكز الفهم والتفسير والتأثير؛ إنه تغيير في معادلة السلطة والشرعية والوعي. لذلك يُنظر إلى أي إصلاح ديني حقيقي بوصفه تهديدًا وجوديًا، لا فكرة قابلة للنقاش.
إن الإصلاح الديني، حين يكون جادًا، يربك ثلاث قوى متشابكة ومترابطة:
1. المؤسسة الدينية، التي راكمت نفوذها التاريخي من خلال احتكار التأويل، وفرض نمطٍ معين من التدين، وتكريس الطاعة كفضيلة، والسؤال كخيانة.
2. السلطة السياسية، التي وجدت في الدين أداة فعالة للضبط الاجتماعي، وتبرير الاستبداد، وقمع المعارضة تحت لافتة "الخروج عن الجماعة" أو "نشر الفتنة".
3. الوعي الشعبي، الذي أُشبع بالخضوع للمألوف، وتمّ تطبيعه على رفض النقد، والتبرّم من الأسئلة، والارتياح لعالم خالٍ من القلق الفكري.
هنا، لا يظهر المصلح بوصفه مجددًا أو مفكرًا، بل كمشاغب أو مشاكس أو مثير للفتنة، لأنه يزعزع السائد، ويهدم البُنى النفسية والرمزية التي اعتادها الناس، ويهدد مصالح طبقة كاملة بنت سلطانها على الجمود.
تاريخيًا، كانت العلاقة بين السلطة الدينية والسياسية قائمة على مقايضة صامتة:
"أمنحك الطاعة والشرعية، وأمنحني الحماية والهيبة."
وهذا التحالف جعل من الإصلاح خطرًا مزدوجًا، يُنظر إليه لا كمسعى فكري، بل كفعل تمرد على منظومة متكاملة تُقدّم نفسها بوصفها "الدين".
الإصلاح إذًا لا يُرفض لأنه باطل، بل لأنه يفتح أبوابًا مغلقة، ويعيد الأسئلة إلى الواجهة، ويُخرج المؤسسة من منطقة الأمان التي طالما أقامت فيها باسم القداسة والتقليد. ولهذا، حين يُطرَح خطاب إصلاحي حقيقي، فإن أول ما يتحرك لمواجهته هو تحالف غير معلن بين: حراس الدين، حماة السلطة، أنصار العادة.
لا شيء أخطر على البنى الراسخة من فكرة جديدة تحمل وعيًا حرًّا، أو من مصلح يرى أن الدين يجب أن يُحرّر من قبضات المصالح لا أن يُعاد ترميمها.
لأن الجمهور لا يريد أن يُفكر
ليست كل مقاومة للإصلاح الديني نابعة من السلطة أو المؤسسة، بل كثير منها يصدر من الجمهور نفسه، الذي يرى في أي محاولة للمراجعة تهديدًا لطمأنينته النفسية وهويته الدينية.
الإصلاح يتطلب شروطًا صعبة: مساءلة الموروث، تفكيك المسلّمات، نقد القداسة الزائفة، استبدال الطاعة بالمسؤولية.
لكن المجتمعات المتدينة في أغلبها تربّت على الخوف من السؤال، والتوجس من التفكير، والخضوع للموروث بوصفه مقدسًا غير قابل للنقاش. في هذه البيئة، يُصبح التسليم هو الإيمان، والشكّ كفرًا، والتفكير تمرّدًا.
حين يظهر صوت إصلاحي، لا يُستقبل كدعوة للتجديد، بل كعدوان على الثوابت. تُرفع في وجهه عبارات جاهزة:
"أنت تشكك في الدين"،
"من أنت لتفهم؟"،
"هذه أفكار مستوردة"،
"لا تثير الفتنة"،
"هذا ليس وقت الأسئلة".
هكذا يُحوَّل العقل الجماعي إلى سجن طوعي، نُغلق أبوابه من الداخل باسم الإيمان، بينما الإيمان الحق لا يخشى التفكير، ولا يهرب من النقد، ولا يُهادن الجهل. هذا العداء للسؤال ليس جديدًا، بل يتكرّر كلما حاول شخص أن يسأل السؤال الأول:
"لماذا نفعل ما نفعل؟ وهل هذا ما أراده الله، أم ما صنعه الناس باسم الله؟"
لكن الجمهور، المرهق من تناقضات الواقع، والمنهك من الصراع بين الدين والتحديث، غالبًا ما يختار الراحة الذهنية، فيلوذ بالموروث، ويستسلم للرموز، ويجد في الصمت عبادة.
إن المصلح الديني لا يُقابل فقط بسيف السلطة، بل أيضًا بعصا الجماعة، التي تعتبر كل مساس بالمألوف خطرًا على وحدتها، أو طعنًا في إيمانها، أو تعدّيًا على مرجعياتها.
وهنا تتجلى المفارقة: الجمهور الذي يحتاج إلى الإصلاح، هو أول من يقف ضدّه، لأنه لا يريد أن يفكر خارج ما تعلّمه، ولا أن يرى خارج ما أُرشد إليه.
إن الإصلاح الذي لا يبدأ من تحرير الإنسان من الخوف من التفكير، سيظل يدور في دائرة مغلقة، مهما كان عمقه أو صدقه أو جرأته.
لأن الإصلاح يتعثر داخل أدوات التراث ذاته
كثير من المشاريع الإصلاحية في التاريخ الإسلامي لم تُواجه فقط بالرفض من الخارج، بل تعثرت من الداخل، لأنها حاولت إصلاح البنية التقليدية بأدواتها ذاتها. لقد وقع كثير من المصلحين في فخ التوفيق بين روح التجديد وهيكل الجمود، فتبنوا نفس المنهجيات التي أنتجت الأزمة، ثم استغربوا لماذا لم يتغيّر شيء.
بدل أن تكون مشاريعهم ثورة على أنماط التفكير المغلقة، تحوّلت إلى ترقيعات معرفية، حاولت أن تُرضي الجميع، ففقدت القدرة على إقناع أحد. إن المشكلة ليست فقط في الموروث، بل في طريقة التعامل معه. فقد لجأ بعض المصلحين إلى نفس الأدوات القديمة:
نفس طرائق الاستدلال بالنصوص بمعزل عن السياق.
نفس المفاهيم المستهلكة: "الفرقة الناجية"، "أهل السنة والجماعة"، "الخروج عن الحاكم"، "الطاعة المطلقة".
نفس اللغة الفقهية الصارمة التي تقيس الحياة على مقولات الحلال والحرام، لا على معيار الحرية والكرامة والعقل.
والأخطر من ذلك أن بعض الإصلاحيين سَعَوا إلى إقناع المؤسسة التقليدية بصلاحية إصلاحهم، فاضطروا إلى ليّ أعناق المفاهيم، وتجميل أفكارهم بلغة ترضى عنها السلطة الدينية، فخسروا زخم الثورة، ودخلوا في لعبة المصالح التي كانوا يريدون خلخلتها.
لقد تحوّل كثير من الخطاب الإصلاحي إلى عملية ترويض للقديم، لا مساءلة له، وبدل أن يكون الإصلاح مشروعًا معرفيًا يفتح آفاقًا جديدة، أصبح أشبه بمحاولة تجميل البناء الآيل للسقوط.
الإصلاح لا يمكن أن ينجح ما دام محبوسًا داخل نفس الأدوات التي صادرت حرية العقل في الأصل.
لا يمكن لعقل يريد التحرّر أن يستند إلى نفس المسلمات التي كبّلته، ولا يمكن لفكر نقدي أن يستخدم مفاهيم بُنِيت أصلًا على قمع السؤال. التحرر يبدأ حين نجرؤ على إعادة بناء المنهج، لا مجرد تغيير النتائج، وعلى تفكيك آليات إنتاج الفهم، لا إعادة ترتيبها. أما أن نطلب من القديم أن يجدد نفسه من الداخل، دون تغيير الأدوات، فهو كمن يطلب من السلاسل أن تفتح الباب.
#محمد_ساجت_السليطي (هاشتاغ)
Mohammed_Sajit_Katia#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟