محمد ساجت قاطع
كاتب ومدون عراقي
(Mohammed Sajit Katia)
الحوار المتمدن-العدد: 8414 - 2025 / 7 / 25 - 14:54
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مدخل عام: حين يُصبح الخلاص أسطورة
منذ أن بدأ الإنسان يصطدم بجدار العجز، تشكّلت في لاوعيه فكرة "الخلاص" بوصفها تعويضًا نفسيًا عن واقعٍ لا يُطاق. لم تكن الأديان وحدها من صاغت هذه الفكرة، بل تلاقت حولها أساطير الشعوب وملاحمها الكبرى: من كريشنا الهندوسي، إلى الماشيح اليهودي، إلى المسيح العائد، وصولًا إلى المهدي المنتظر في الثقافة الإسلامية.
هذا "المنقذ" هو اختزال لرغبة عميقة في العدالة، لكنه كثيرًا ما يتحول – كما يُشير المفكر ماجد الغرباوي – إلى إسقاطٍ لأوهام القوة على المجهول، وتفريغ للذات من مسؤوليتها التاريخية. في هذا المقال، نحاول أن نتأمل الفكرة لا بوصفها "عقيدة غيبية"، بل كـ"وظيفة اجتماعية وأسطرة دينية"، وأن نقرأ حضورها وتناقضاتها على ضوء نقد العقل الديني، كما طرحته أعمال فكرية مثل مدارات عقائدية ساخنة، البحث عن منقذ، نقد الفكر الديني، وغيرها من الكتب التي حاولت تفكيك الوعي الغيبي ووهم العدالة المؤجلة.
المخلّص في الوجدان البشري: من الحاجة إلى الأسطرة
تظهر الحاجة إلى "المنقذ" حين يُفقد الإنسان ثقته بإمكانات الإصلاح الذاتي أو الجمعي. في أزمنة الانكسار، يولد المخلّص؛ لا من رحم الواقع، بل من ظلال الأمل المعزول. إن فكرة "الخلاص المؤجل" تعبّر عن عجز الجماعات عن المواجهة، فتحتمي بالوهم كدرعٍ نفسي.
وفي هذا السياق، تنمو الأسطورة لتلبي حاجة داخلية، لكنها سرعان ما تُختطف سياسيًا، ويُعاد إنتاجها كأداة هيمنة.
اللاهوت الشعبي، بحسب ماجد الغرباوي في مدارات عقائدية ساخنة، يميل إلى تهريب الإلهي نحو الخارج، نحو الزمان المؤجل، أو المخلّص الغيبي، لا ليعبده بوعي، بل ليُبرر عجزه المزمن. وهنا، يتحوّل "المنقذ" إلى مسكِّن روحي ووسيلة تأجيل للمواجهة، يكرّس القبول بالواقع بدل مقاومته.
يرى مصطفى حجازي في كتابه سيكولوجية الإنسان المقهور أن المجتمعات المقهورة نفسيًا تطور آليات دفاعية من ضمنها التعلّق بصورة مخلّص خارجي يتولى عنها ما تعجز هي عن فعله. يقول:
"حين تعجز الذات عن الفعل، تبحث عن خلاص خارجها، وتعيد تشكيل وعيها ليكون معلقًا بالأمل لا بالفعل."
ويضيف كارل يونغ في الإنسان ورموزه أن صورة "المنقذ" تمثل أركيتايبًا نفسيًا جماعيًا، لكنه حين لا يُقترن بالتحول الداخلي، يتحوّل إلى عبء على الوعي، لا إلى وسيلة للخلاص.
المهدوية في الإسلام: من النص إلى الأيديولوجيا
في السياق الإسلامي، تبلورت عقيدة "المهدي المنتظر" ضمن مناخات سياسية واجتماعية مضطربة. لم يرد اسم المهدي في القرآن الكريم، ولم ترد عقيدته بنص قطعي. ورغم ذلك، بُني حوله تراثٌ ضخم من الروايات، شكّل لاحقًا ركيزة لمشاريع سياسية كبرى.
في التشيع الإمامي، ارتبطت المهدوية بعقيدة "الإمام الثاني عشر الغائب"، بينما توسّعت الفكرة في الخيال السني أيضًا، عبر تصور ظهور مهدٍ من آل البيت في آخر الزمان.
يرى أحمد الكاتب في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي أن فكرة "الإمام الغائب" لم تكن عقيدة أصيلة، بل جاءت كضرورة لتجاوز الفراغ السياسي بعد الإمام الحسن العسكري. ويؤكد:
"المهدي ليس حقيقة تاريخية مثبتة، بل ضرورة عقائدية فُرضت بعد أزمة الغيبة."
كما يُظهر التاريخ أن المهدوية لم تبقَ حكرًا على الفقه والعقيدة، بل تحوّلت إلى أداة سياسية كبرى:
الديانة البهائية: تأسست نتيجة تأويلات الشيخية للمهدوية، خصوصًا عند أحمد الإحسائي والباب.
حادثة جهيمان في الحرم المكي (1979): تم اقتحام الكعبة بزعم أن المهدي المنتظر قد ظهر.
جماعات عراقية مثل جند السماء وأنصار المهدي واليماني: جميعها استثمرت المهدوية في العنف والسلطة.
ويؤكد فالح مهدي في كتابه البحث عن منقذ أن هذا النمط من التدين المهدوي يعكس حالة انكسار جمعي، تُغذى بأسطورة تسكّن الألم، لكنها لا تغيّره.
وظيفة الأسطورة: الكهنوت والسياسة
وفقًا لماجد الغرباوي، فإن الدين حين يُختزل إلى طقوس ورموز، يفقد بعده الوجودي ويتحول إلى أداة تخدير. وهنا، تصبح المهدوية نموذجًا مثاليًا: عقيدة غيبية لا تتطلّب فعلًا، بل انتظارًا.
تاريخيًا، استُخدمت هذه العقيدة لتبرير السكون. كلما اشتد الظلم، قيل للناس: اصبروا، فالمهدي قادم. وهكذا، تُنتزع من الإنسان إرادته، ويُعاد تشكيل وعيه ليكون تابعًا، لا فاعلًا.
يصف عبد الله القصيمي هذه الظاهرة قائلًا:
"المنقذ ليس من سيأتي، بل من لن يأتي، لأنه ضرورة سياسية لا ضرورة إنسانية."
ويحذر صادق جلال العظم من "تجميد الزمن التاريخي" عبر أسطرة الزمن الغيبي، حيث يتحوّل الإنسان من فاعلٍ إلى منتظر، ومن حرٍّ إلى مرهون بوعد لا يُسائل.
ويرى فالح مهدي أن الشعوب التي جُرّدت من القدرة على الفعل، غالبًا ما تُلقّن فكرة المنقذ لتبرير ضعفها، لا لتحريرها.
نقد عقلي وفلسفي للفكرة
1. التناقض مع المسؤولية الإنسانية
إذا كانت العدالة لا تتحقق إلا عبر كائن خارق، فما جدوى التكليف؟ وما وظيفة الضمير؟ يقول ماجد الغرباوي:
"كلما علّقنا نجاتنا على غائب، فرّغنا أنفسنا من المسؤولية، وعلّقنا العدالة على احتمالٍ مجهول لا يمكن محاسبته."
ويؤكد صادق جلال العظم أن هذا الإيمان يعفي الإنسان من المساءلة، ويُحوّل الدين إلى تسويف زمني.
2. الخلل المنطقي في الفكرة
المهدي، بحسب الروايات، غائب منذ أكثر من ألف عام. فهل يُعقل تعطيل التاريخ بانتظار فرد؟
يرى ميرسيا إلياد في أسطورة العود الأبدي أن هذه العقلية تدور في زمنٍ دائري، لا تاريخي، تُجمّد الفعل وتؤبد الوهم.
3. إزاحة الفاعلية إلى الخارج
يقول فالح مهدي: "الشعوب التي تنتظر المنقذ، لا تتحرر، بل تغيّر نوع القيد فقط."
ويضيف في تاريخ الخوف: المنقذ حين يُستدعى للهروب من الخوف، لا يصنع خلاصًا، بل يُعيد إنتاج العجز.
والقرآن ذاته يعلن المبدأ المضاد تمامًا:
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم."
تحرير الوعي من وهم الخلاص الغيبي
فكرة المنقذ تُبقي الناس في دائرة الانتظار، وتُنتج نوعًا من العبودية الرمزية. يقول ماجد الغرباوي:
"حين يصبح الانتظار دينًا، يُعاد تشكيل الوعي ليتناسب مع الطاعة لا مع النقد."
ويضيف أحمد الكاتب: "حين يعلق الناس خلاصهم على شخصية خفية، يصبحون جزءًا من لعبة الوهم، لا من معادلة الإصلاح."
في البحث عن منقذ، يوضّح فالح مهدي أن الشعوب التي تعوّدت على القهر تميل إلى الخلاص الغيبي، بدل بناء مشروعها التحرري. حتى كارل يونغ يحذّر من هذه الصورة، إذا لم ترتبط بالتحوّل الداخلي، فتحوّل الأمل إلى عائق.
وهكذا، لا يمكن تحرير الفعل إلا بنقد بنية الانتظار نفسها، وفهم الخلاص كمسار ذاتي–اجتماعي، لا كـ"معجزة غائبة".
خاتمة: حين يتحرر الإنسان من سرداب الخلاص
ليست المشكلة في الأمل، بل في تأبيد الانتظار. وليست الخطورة في المهدي كرمز، بل في المهدي كقيد.
حين تتحوّل فكرة "المنقذ" من أفق أخلاقي إلى نظام تبريري للجمود، يفقد الإنسان سيطرته على مصيره، ويعيش خارج التاريخ.
لقد أظهر النقد المعرفي والديني أن "المهدوية" ليست مجرد عقيدة، بل بنية نفسية–سياسية تتغذى من الخوف وتُستخدم لتعليق الفعل.
والمخلّص الحقيقي ليس من يهبط من الغيب، بل من ينهض من القاع.
والمهدي ليس هو الذي يُنتظر، بل الذي نصنعه في وعينا، في تمرّدنا، في رفضنا للظلم.
فالتحرر لا يبدأ بظهور فرد، بل بقرار جماعي ألا ننتظر أحدًا.
» محمد ساجت السليطي
كاتب وباحث عراقي مهتم بالشأن الديني والاجتماعي، يقدم مقاربات نقدية للخطاب الديني وسلوك المؤسسة الدينية، ويسعى لإعادة قراءة الموروث بعين عقلانية وعصرية. نشر مقالاته في عدد من المنصات العربية.
قائمة المراجع والمصادر
1. ماجد الغرباوي (مدارات عقائدية ساخنة)
2. صادق جلال العظم (نقد الفكر الديني)
3. فالح مهدي (البحث عن منقذ: دراسة مقارنة بين ثماني ديانات)
4. فالح مهدي (تاريخ الخوف: نقد المشاعر في الحيز الدائري)
5. عبد الله القصيمي (هذا هو الإنسان)
6. مصطفى حجازي (سيكولوجية الإنسان المقهور)
7. أحمد الكاتب (تطور الفكر السياسي الشيعي: من الشورى إلى ولاية الفقيه)
#محمد_ساجت_السليطي (هاشتاغ)
Mohammed_Sajit_Katia#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟