محمد ساجت قاطع
كاتب وباحث عراقي
(Mohammed Sajit Katia)
الحوار المتمدن-العدد: 8443 - 2025 / 8 / 23 - 06:44
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا يمكن فهم سلوك وعّاظ السلاطين دون الغوص في الجذور النفسية التي تفسّر انجذاب بعض رجال الدين إلى السلطة، أو خضوع الجماهير لتبريراتهم. في عمق هذه العلاقة، يبرز ما يمكن تسميته بـ"عقدة الحماية"، حيث تحل الحاجة إلى الأمان محل نزعة التحرر. فبدل أن تكون الحرية غاية، تصبح عبئًا يثير القلق، ليغدو الاستقرار – ولو على حساب الحقوق – هو المطلب الأسمى.
يُظهر الخطاب الوعظي السلطوي وجهًا أبويًا صارمًا، يعد بالطاعة مقابل الحماية، وبالاستقرار مقابل القبول بالأمر الواقع. هذا النموذج، الذي يشبه ما وصفه إريك فروم في كتابه الخوف من الحرية بـ"السلطوية الأبوية"، يجد صداه في نفسية الجماهير التي تعيش حالة "الرضا الطفولي" بالحماية، حتى ولو كان ثمنها التنازل عن الكرامة والحقوق. وفي هذا السياق، يتحوّل الدين إلى أداة لتهدئة القلق الجمعي عبر تقديم الطغيان كـ"أهون الشرين" وكمصدر وحيد للأمان.
التاريخ الإسلامي يقدم أمثلة واضحة على هذا النمط: فقد روّج بعض وعّاظ الدولة الأموية لفكرة أن طاعة الخليفة – مهما كان ظالمًا – خير من الانزلاق في "فتنة" تطيح بوحدة الأمة، وهو خطاب أعاد الظهور في العصر العباسي بصيغة "الأمن أو الفوضى". وفي العصر الحديث، لا يختلف المنطق كثيرًا حين يوظَّف خطاب "حماية الدولة" أو "درء الفتنة" لتبرير القمع، مع استحضار صور انهيار الدول الأخرى كأدلة تخويفية.
الواعظ السلطوي نفسه لا يرى في دفاعه عن السلطة مجرد حماية للحاكم، بل يجد فيه وسيلة لتسكين قلقه من الحرية المجهولة، تمامًا كما وصف حنّة آرندت في تحليلها لجذور الطغيان: فبعض الأفراد – بمن فيهم النخب الدينية – يشعرون بالارتياح في ظل السلطة المركزية القوية، لما توفره من إحساس باليقين والنظام. وهكذا، يُعاد تشكيل الوعي العام وفق ثنائيات قاتلة: الأمن أو الفوضى، الطاعة أو الهلاك، النظام أو الانهيار.
هذه العلاقة النفسية المركبة بين القمع والرضا به تخلق حلقة مغلقة: القمع ينتج وعظًا يبرره، والوعظ يولد استكانة، والاستكانة تزيد الحاجة إلى مزيد من القمع. ومن هنا، فإن نقد ظاهرة وعّاظ السلاطين ليس مجرد موقف سياسي أو أخلاقي، بل هو دعوة إلى تحرير الإنسان من هذه البنية النفسية التي تستبدل الحرية بالأمان، وإعادة الاعتبار للحرية كقيمة نفسية واجتماعية، لا كترفٍ فلسفي أو رفاهية نخبوية.
***
» محمد ساجت السليطي ( كاتب وباحث عراقي )
#محمد_ساجت_السليطي (هاشتاغ)
Mohammed_Sajit_Katia#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟