أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8474 - 2025 / 9 / 23 - 10:12
المحور:
الادب والفن
الأدب كضمير في مواجهة المادية
في عالمٍ يتخبّط بين صخب الآلة وصعود النزعات المادية، يبرز صوت الكاتب الإنجليزي إدوارد مورغان فورستر بوصفه ضميرًا إنسانيًا ظل يذكّر الناس بأن الفن ليس ترفًا، وأن الحب ليس مجرد عاطفة عابرة، بل هو القيمة الجوهرية التي تضمن بقاء الإنسان إنسانًا. كتب فورستر في إحدى مقالاته: «إن للفن قيمة لأنه يخلق عوالم صغيرة متناغمة وسط هذا الكوكب الذي تعيث فيه الفوضى.» ولعل هذه العبارة تختصر مشروعه كله؛ مشروع الكاتب الذي قاوم قسوة القرن العشرين ودمويته بالبحث عن الانسجام في قلب الفوضى.
كان فورستر شاهدًا على زمن التحوّلات العظمى: من أواخر الحقبة الفيكتورية إلى صعود الإمبراطورية البريطانية ثم أفولها، ومن الحرب العالمية الأولى إلى الثانية، ومن بدايات الحداثة إلى ثوراتها الفكرية. وسط كل ذلك، ظل وفيًا لقيمه: الصدق، التسامح، الطيبة، التواصل الإنساني. وفي كل مرة واجه سؤال المادية الطاغية، عاد ليؤكد أن البديل ليس في الأيديولوجيا ولا في السياسة، بل في الإنسان ذاته، في الحب والعلاقات الإنسانية.
أهمية فورستر اليوم لا تعود فقط إلى رواياته الشهيرة مثل هواردز إند أو رحلة إلى الهند، بل إلى الرؤية الفلسفية التي صاغها: رفض الاستلاب أمام المادية، والدفاع عن الثقافة كمساحة للحوار والحرية. في زمن تُختزل فيه القيم الإنسانية في معايير السوق والربح، يبدو استدعاء صوته ضرورة أخلاقية.
لقد آمن بأن الأدب يمكن أن يكون طريقًا لفهم الذات والآخر، وأن الرواية تستطيع أن تكشف ما لا نعترف به حتى لأنفسنا. قال ذات مرة: «الكاتب يعرف شخصياته من الداخل، يستطيع أن يغوص في عقولها الباطنة ويكشف مشاعرها الدفينة.» هذه القدرة على النفاذ إلى الأعماق جعلته مختلفًا عن غيره من أبناء جيله الذين اكتفوا بوصف السطح الاجتماعي.
كما أن فورستر لم يكن مجرد كاتب صامت، بل ناشطًا فكريًا حاضرًا في النقاش العام. كان صوته مسموعًا في هيئة الإذاعة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان من المدافعين عن الحريات المدنية والديمقراطية. جمع بين ضمير الأديب ووعي المفكر، وبين صدق الروح وجرأة الناقد.
إن قراءة حياة فورستر وأدبه اليوم ليست عودة إلى الماضي، بل مواجهة مع أسئلتنا المعاصرة: كيف نصون الإنسان وسط طغيان الآلة؟ كيف نحافظ على قيم الحب والجمال وسط العنف والتشيؤ؟ كيف نجعل من الأدب وسيلة للتواصل لا للعزلة؟ هذه الأسئلة التي طرحها فورستر قبل قرن ما زالت تصرخ في وجوهنا.
من هنا تأتي أهمية هذا المقال: ليس كعرضٍ لسيرة أديب، بل كرحلة في لحظات حياته التي تضيء دربنا نحن، وتضعنا أمام ضمير أدبي قاوم المادية، وحلم بإنسانية أوسع وأكثر صدقًا.
⸻
الطفولة والبدايات
وُلد إدوارد مورغان فورستر في لندن يوم الأول من يناير عام 1879. كان ميلاده في اليوم الأول من السنة رمزًا كأن القدر أراد أن يربطه دائمًا بالبدايات. رحل والده وهو في الثانية من عمره، فبقي وحيدًا مع أمه. هذه الأم، التي كانت من أسرة متواضعة، أثرت فيه عميقًا، إذ رافقها حتى وفاتها عام 1946. غير أن العمّة ميريان ثورنتون لعبت الدور الأهم في طفولته؛ إذ أوصت له بمبلغ ثمانية آلاف جنيه عند وفاتها عام 1887، وهو مبلغ مكّنه من أن يعيش مستقلاً عن ضغط الوظيفة. اعترف فورستر لاحقًا: «لولا عمتي ميريان لما استطعت أن أكتب، لقد منحتني الحرية.»
كانت هذه الحرية المبكرة امتيازًا قلّما ناله أدباء آخرون. فقد عاش تشارلز ديكنز حياة قاسية اضطرته للعمل في المصانع، بينما عاش فورستر في بيئة مكّنته من أن يتفرغ للكتابة والتأمل. ومن هنا جاءت خصوصيته: لم يكتب تحت ضغط السوق أو الناشرين، بل كتب بضمير حر. وربما لهذا السبب بقيت كتاباته وفيّة لصوته الداخلي، ولم تسقط في الاسترضاء أو المسايرة.
⸻
التعليم والتمرد على المؤسسات
التحق فورستر بمدرسة ابتدائية في إيستبورن، ثم بمدرسة داخلية في تونبردج. هناك واجه نظامًا قاسيًا يركز على الانضباط الجسدي ويهمل الروح والخيال. كتب لاحقًا بمرارة أن هذه المدارس تنتج «أجسادًا قوية، عقولًا متوسطة، وقلوبًا ضامرة.» لم تكن هذه مجرد عبارة عابرة، بل شهادة كاشفة عن رؤيته للتعليم الذي يصادر الخيال بدل أن يحرره.
هذا النفور من المؤسسات التعليمية لم يكن عارضًا، بل أصبح جزءًا من فلسفته. كان يرى أن المدارس، مثلها مثل الكنيسة والدولة، تحاول قولبة الإنسان وسلبه فرديته. وقد انعكس ذلك في روايته أطول رحلة، التي صوّرت قسوة التعليم على التلاميذ وقتلها للخيال.
في هذا الموقف يلتقي مع فرجينيا وولف التي كتبت في غرفة تخص المرء وحده أن النظام الأبوي حرم النساء من التعليم والإبداع. كلاهما رأى أن المؤسسات، بدل أن تحرر، تُخضع وتكبح. وهكذا تشكّل مبكرًا لدى فورستر ذلك الوعي الناقد لكل سلطة مؤسسية تُقزّم الإنسان وتحوّله إلى رقم أو أداة.
⸻
سنوات كمبردج والتأثر بالفلسفة الحديثة
عام 1897 التحق فورستر بجامعة كمبردج، وهناك وجد البيئة الفكرية التي طالما حلم بها. لم تعد قيود المدارس الداخلية الثقيلة تضغط على روحه، بل انفتح على فضاء جديد من الحرية والتساؤل. في قاعات كمبردج قرأ الأدب الكلاسيكي والتاريخ، غير أن الأثر العميق جاء من الفلسفة، وبخاصة كتاب «مبادئ الأخلاق» للفيلسوف جورج إدوارد مور، الذي كان أحد أساتذة الجامعة.
قال مور: «أسمى القيم التي يمكن أن يتمتع بها الإنسان هي الحب والجمال والعلاقات الفردية.» هذه العبارة ستصبح حجر الزاوية في فكر فورستر. لم يعد الأدب بالنسبة له مجرد حكايات ممتعة، بل وسيلة لصياغة قيم بديلة في مواجهة عالمٍ يتزايد فيه نفوذ الصناعة والمادية. في كمبردج تعلم أن الثقافة ليست ترفًا، بل طريق للتحرر من الاستلاب.
هناك أيضًا التقى شبابًا سيصبحون لاحقًا من نواة جماعة بلومزبري. كانوا جميعًا يتشاركون الشك في العقائد الجامدة، والانفتاح على الفن الحديث، والبحث عن معنى للحياة يتجاوز المعايير الفيكتورية الجامدة. هذا الوسط الثقافي كوّن لديه إيمانًا بأن الكاتب ليس مجرد فرد منعزل، بل عضو في شبكة فكرية واسعة تطرح أسئلة أخلاقية وسياسية وجمالية.
أصبحت كمبردج بالنسبة له وطنًا رمزيًا. سيظل يذكرها دائمًا باعتبارها اللحظة التي تحرر فيها خياله، وهناك صاغ أولى أفكاره حول العلاقة بين الفن والحياة، بين الفرد والجماعة، بين الحرية والسلطة.
البدايات الروائية والنقد الاجتماعي
في مطلع القرن العشرين بدأ فورستر كتابة القصص القصيرة. وقد ظهرت موهبته سريعًا، فكان أول عمل كبير له رواية «حيث تخشى الملائكة أن تخطو» عام 1907. الرواية تمزج بين السخرية والدراما، وتكشف عن التناقض بين الأعراف الاجتماعية والرغبات الإنسانية. وفي العام التالي نشر «غرفة بمنظر»، حيث صوّر قيود المجتمع الفيكتوري على العلاقات العاطفية.
غير أن التحفة الكبرى في تلك المرحلة كانت «هواردز إند» (1910). في هذه الرواية قدّم نقدًا لاذعًا لمادية الطبقة الوسطى الإنجليزية. البيت الذي يحمل اسم الرواية لم يكن مجرد مكان للسكن، بل رمزًا لروح إنجلترا الضائعة بين الطموح المادي والبحث عن قيم روحية. كتب فورستر هناك عبارته الأشهر: «فقط تواصلوا… فقط تواصلوا.» وكأنه يلخّص رسالة حياته كلها: إن الخلاص يكمن في القدرة على مدّ الجسور بين البشر، لا في الانعزال أو الاستحواذ.
رأى النقاد في هواردز إند أكثر من رواية اجتماعية. إنها دراسة فلسفية حول كيف يمكن للفرد أن يعيش بصدق في عالمٍ تهيمن عليه المصالح. ولعل قوتها تكمن في أنها لا تكتفي بالنقد، بل تبحث عن بديل: عن قيم التسامح، النية الحسنة، التواصل. هذه الرواية جعلت من فورستر واحدًا من أبرز الأصوات في الأدب الإنجليزي الحديث، وجعلت منه رمزًا للكاتب الذي يرفض الخضوع لمعايير السوق أو السياسة.
⸻
الهند كرحلة وجودية وسياسية
الهند كانت نقطة تحول كبرى في مسيرة فورستر. زارها أول مرة قبل الحرب العالمية الأولى، ثم عاد إليها عام 1921 ليعمل سكرتيرًا لحاكم ولاية هندية. هناك واجه عن قرب التوترات العميقة بين الإنجليز المستعمرين والهنود، ورأى كيف أن السلطة الاستعمارية ليست مجرد نظام سياسي، بل جدار نفسي وثقافي يفصل بين البشر.
من هذه التجربة وُلدت روايته الأشهر «رحلة إلى الهند» (1924). الرواية ليست فقط عن الاستعمار، بل عن حدود الفهم الإنساني. الكهوف المظلمة في مارابار تجسد الغموض الذي لا يمكن للعقل أن يسيطر عليه، واللقاء بين الإنجليز والهنود يصبح رمزًا لاستحالة الفهم الكامل بين الثقافات.
قال فورستر عن الرواية: «إنها تتحدث عن بحث الجنس البشري عن وطن أكثر ديمومة، وعن الكون كما يتجسد في التراب الهندي.» ورأى الناقد جون كولمر أنها محاولة لفهم علاقة الإنسان بالله، بينما رأى آخرون أنها بحث في الأخوّة الإنسانية.
مقارنة مع جوزيف كونراد في «قلب الظلام» تكشف الفرق: كونراد رأى الاستعمار رحلة إلى أعماق الوحشية البشرية، بينما رأى فورستر في الهند اختبارًا لقدرة البشر على التواصل، حتى وإن انتهى بالفشل. كان أكثر أملًا في إمكان تجاوز الحواجز، رغم إدراكه لصعوبتها.
لقد جعلته هذه الرواية صوتًا عالميًا. لم تعد إنجلترا وحدها موضوعه، بل أصبح يسائل علاقة الغرب بالشرق، والذات بالآخر، والإنسان بالكون.
⸻
جماعة بلومزبري والحرية الفكرية
بعد عودته إلى لندن، وجد فورستر نفسه جزءًا من إحدى أهم الحلقات الفكرية في إنجلترا: جماعة بلومزبري. هذه الجماعة لم تكن تنظيمًا رسميًا، بل شبكة من الكتّاب والفنانين والفلاسفة، من بينهم فرجينيا وولف، ليونارد وولف، فانيسا بيل، ودنكان غرانت. ما جمعهم كان إيمانًا بالحرية الفردية، بالتجريب الفني، وبالتشكيك في الموروثات الجامدة.
في هذا الوسط كتب فورستر رواية «موريس» (1913)، التي تناولت مثليته الجنسية بجرأة غير مسبوقة. لكنه لم ينشرها في حياته خشية الرفض الاجتماعي والقانوني، إذ كان الشذوذ الجنسي في إنجلترا آنذاك جريمة يعاقب عليها القانون. ومع ذلك، وزع الرواية على بعض أصدقائه في بلومزبري، معتبرًا أنهم البيئة الوحيدة التي يمكن أن تتفهم ما أراد قوله.
قال في إحدى مذكراته: «ظننت أنهم سيتفهمونني ويتعاطفون معي.» وهكذا مثّل بلومزبري بالنسبة له فضاءً آمنًا للتعبير عن ذاته. لقد كانت الجماعة ملاذًا من القيود، ومختبرًا للأفكار الجديدة، وساحة لمناقشة الفن والسياسة والفلسفة من دون خوف من الرقابة أو الرفض.
ومع أن بلومزبري لم تكن حركة سياسية صريحة، فإن موقفها النقدي من الحرب ومن السلطة ومن المادية جعلها رمزًا لروح متمردة تبحث عن بديل إنساني وجمالي.
⸻
الصمت الطويل وأسبابه
بعد صدور «رحلة إلى الهند» عام 1924، لم ينشر فورستر أي رواية جديدة طوال ما تبقى من حياته، أي ما يقرب من 46 عامًا. بدا وكأنه أغلق باب الرواية تمامًا.
السبب لم يكن عجزًا إبداعيًا، بل ظروفًا مركبة: أولها عجزه عن التعبير بحرية عن مثليته الجنسية في مجتمع محافظ، وثانيها شعوره بأن الرواية الإنجليزية قد دخلت في مرحلة جديدة مع جيمس جويس وتي. إس. إليوت وفيرجينيا وولف، حيث أصبح التجريب اللغوي والحداثة الشكلية سمة العصر. لم يرَ فورستر نفسه في هذا الاتجاه، وظل وفيًا لأسلوب تقليدي نسبيًا يركز على العلاقات الإنسانية.
لكنه لم يصمت تمامًا. كتب سيرًا ذاتية، منها سيرة عمته ميريان ثورنتون (1956)، وواصل كتابة المقالات والمحاضرات، كما شارك في الحياة العامة بوصفه ضميرًا ناقدًا. كان صمته الروائي احتجاجًا صامتًا: رفضًا أن يكتب شيئًا لا يعبّر عنه بصدق.
⸻
الناقد والمفكر في زمن الأزمات
عام 1927 ألقى فورستر سلسلة من المحاضرات في جامعة كمبردج، جُمعت لاحقًا في كتابه الأشهر «فن الرواية». في هذه المحاضرات قدّم رؤيته للفن الروائي، مؤكدًا أن الرواية ليست مجرد حبكة، بل نافذة تكشف أعماق النفس البشرية. قال: «الروائي يعرف شخصياته من الداخل، يستطيع أن يغوص إلى أعماقها، وهذا ما لا نجرؤ نحن على قوله حتى لأنفسنا.»
لم يكن هذا الكتاب مجرد تنظير أكاديمي، بل بيان أدبي إنساني. فقد رفض فورستر المقاييس الشكلية الصارمة، وفضّل معيارًا بسيطًا: الحب. قال: «إننا نحكم على الرواية كما نحكم على الأصدقاء: بمدى حبنا لهم.» بهذا المعنى، جعل من الرواية علاقة إنسانية لا معادلة نقدية جافة.
إلى جانب ذلك، أصدر مقالاته في مجموعتين بارزتين: «حصاد أبينجر» (1936) و**«تصفيق للديمقراطية»** (1951). في الأولى عبّر عن قلقه من صعود الفاشية، وفي الثانية دافع عن الديمقراطية كقيمة أساسية في مواجهة المادية والاستبداد.
وأثناء الحرب العالمية الثانية قدّم عدة برامج في هيئة الإذاعة البريطانية، ناقش فيها أزمة الحضارة الحديثة. لم يكن مجرد روائي منعزل، بل مثقفًا عامًا حاضرًا في قضايا عصره، مدافعًا عن الحرية والضمير الإنساني.
فن الرواية عند فورستر
يُعد كتاب «فن الرواية» (1927) حجر الأساس في النقد الأدبي الحديث. لم يكتبه فورستر بروح الناقد الأكاديمي الذي يغرق في المصطلحات، بل بروح الأديب الذي يحدّث القراء عن تجربته. كان يرى أن الرواية كائن حي، وأن أعظم ما يميزها هو قدرتها على كشف المشاعر الإنسانية الخفية.
قال: «الواحد منا لا يتحدث عن نفسه بصدق حتى لنفسه. أما الروائي، فهو في موقع يسمح له أن يغوص في شخصياته إلى أن يصل إلى عقلها الباطن.» هذه الرؤية جعلته يرفض أن تُقاس الرواية بمقاييس جامدة، فالقيمة الحقيقية تكمن في مدى صدقها وقدرتها على لمس القلوب.
ناقش فورستر عناصر الرواية: الحبكة، الشخصيات، الإيقاع، والوحدة. اعتبر أن الحبكة يجب أن تكون حية وليست مجرد مخطط هندسي. أما الشخصيات فهي قلب الرواية؛ والروائي الناجح هو من يمنحها عمقًا نفسيًا يجعلها أكثر واقعية من الواقع نفسه.
أكد أيضًا أن الرواية فن خالد أمام تقلبات التاريخ. فبينما تتغير الأحداث والسياسات، تبقى الرواية قادرة على التعبير عن جوهر الإنسان. وفي ذلك قال: «التاريخ يتحرك، أما الفن فثابت.»
⸻
الحربان العالميتان وتحوّل الضمير
لم تكن حياة فورستر بعيدة عن صخب التاريخ. خلال الحرب العالمية الأولى خدم في الصليب الأحمر بمدينة الإسكندرية بين عامي 1915 و1918. هناك عاش تجربة مباشرة مع الموت والمعاناة، وأدرك عبثية الحرب. لم يكتب رواية عن تلك التجربة، لكنه ترك إشارات متفرقة في مقالاته، حيث وصف كيف أن الحرب تسحق الروح الإنسانية تحت وطأة التنظيم البيروقراطي والقتل الجماعي.
أما الحرب العالمية الثانية فقد واجهها من موقع مختلف: عبر ميكروفون هيئة الإذاعة البريطانية. قدّم برامج فكرية وأدبية ناقش فيها معنى الحرية، ومصير الديمقراطية في مواجهة الفاشية. كان صوته هادئًا لكنه عميق، يذكّر المستمعين بأن القيم الإنسانية أسمى من الانتصارات العسكرية.
هذه التجارب زادت من حدة موقفه ضد المادية والاستبداد. رأى أن الحرب ليست فقط صراعًا بين دول، بل اختبارًا لقيم الحضارة كلها. ومن هنا جاءت نبرته كضمير إنساني يقاوم القبح بالعقل والجمال.
⸻
الأجيال اللاحقة وتأثير فورستر فيهم
رحل فورستر عن عالم الرواية عام 1924، لكنه لم يرحل عن الأجيال التي تلته. فقد ظل تأثيره حاضرًا في كتابات كثيرين من الأدباء المعاصرين.
الكاتب سلمان رشدي رأى في «رحلة إلى الهند» نموذجًا مبكرًا للأدب ما بعد الاستعماري، حيث يواجه الكاتب سلطة الإمبراطورية عبر إعادة سرد العلاقة بين الشرق والغرب. أما إيان ماكيوان فقد وجد في مقولة فورستر «فقط تواصلوا» مفتاحًا لفهم الرواية كجسر بين البشر. وكازو إيشيغورو الحائز على نوبل استلهم منه فكرة أن الرواية ليست فقط حكاية، بل مساحة للتأمل الأخلاقي في معنى الذاكرة والضمير.
حتى في النقد الأدبي الأمريكي والفرنسي، بقي فورستر حاضرًا. فقد رأى النقاد فيه نموذجًا للكاتب الذي يربط بين الأخلاق والفن، بين السياسة والجمال، دون أن يسقط في المباشرة. لقد أصبح «فن الرواية» مرجعًا في أقسام الأدب حول العالم، وصار اسمه رمزًا للكاتب الذي قاوم المادية بالقيم الإنسانية.
⸻
السنوات الأخيرة والاعتراف المتأخر
بعد وفاة أمه عام 1946، استقر فورستر في كمبردج، حيث عاش حياة هادئة لكنه لم يكن منعزلًا. ظل يكتب مقالات ومحاضرات، ويستقبل أصدقاءه من الأدباء والفنانين. كان قد بلغ من العمر ما يجعله أقرب إلى الرمز منه إلى الكاتب الفعّال. ومع ذلك، لم يتوقف عن أن يكون ضميرًا حيًا يذكّر المحيطين به بما هو جوهري: الحرية، التسامح، والصدق.
نال فورستر عام 1969 وسام الاستحقاق البريطاني، وهو من أرفع الأوسمة التي تُمنح للعلماء والفنانين. كان ذلك اعترافًا متأخرًا من المؤسسة الرسمية بالكاتب الذي أمضى عمره ناقدًا لها. بدا كأن التاريخ يلتفت إليه أخيرًا ليقول: لقد كنت على حق.
وعندما رحل عام 1970 عن عمر يناهز الحادية والتسعين، كانت المفاجأة أن روايته «موريس»، التي كتبها سرًا قبل أكثر من نصف قرن، نُشرت أخيرًا. كشف العمل عن صراعاته الداخلية وعن رغبته في التعبير عن مثليته في زمن لم يكن يسمح بذلك. ومعه نُشر أيضًا كتاب «الحياة القادمة»، الذي ضم قصصًا عالج فيها قضايا الهوية والجنس والحب. كان ذلك بمثابة اعتراف متأخر من الكاتب ومن مجتمعه معًا.
⸻
الضمير الإنساني الذي قاوم المادية
إدوارد مورغان فورستر لم يكن مجرد روائي بارز في تاريخ الأدب الإنجليزي، بل كان ضميرًا إنسانيًا قاوم عصره بقوة القيم. كتب عن الحب في زمن الكراهية، وعن الصدق في زمن المظاهر، وعن الفن في زمن المادية. شعاره «فقط تواصلوا» ظل صرخة خالدة عبر الأجيال.
لقد قاوم فورستر صخب القرن العشرين عبر لغة هادئة، مؤمنًا أن الأدب يمكن أن يكون ملاذًا من الفوضى، وأن الفن يمنح الإنسان انسجامًا في قلب عالم ينهشه التشيؤ والحروب. كان يؤمن أن «الفن يخلق عوالم صغيرة متناغمة وسط الفوضى»، وهذه الفكرة هي جوهر رسالته.
اليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على رحيله، ما زال فورستر حاضرًا. ليس فقط عبر رواياته التي تُدرَّس في الجامعات، بل عبر رسالته الإنسانية: أن الحب والتسامح والنية الحسنة هي القيم التي يمكن أن تنقذ الإنسان من براثن المادية. لقد رحل الجسد، لكن بقي الصوت، وبقي الضمير الذي قاوم، وبقيت الومضات التي تنير طريق كل من يبحث عن إنسانية أعمق في عالم يزداد قسوة.
المصادر:
• E. M. Forster, A Passage to India (1924)
• E. M. Forster, Howards End (1910)
• E. M. Forster, Aspects of the Novel (1927)
• George Edward Moore, Principia Ethica (1903)
• John Colmer, E. M. Forster: The Personal Voice (1975)
• Nicola Beauman, E. M. Forster: A Biography (1993)
• Virginia Woolf, A Room of One’s Own (1929)
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟