أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - راسم الخطاط شاعر الومضة ومهندس القصيدة














المزيد.....

راسم الخطاط شاعر الومضة ومهندس القصيدة


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 10:52
المحور: سيرة ذاتية
    


في إحدى قرى الجنوب البابلي، حيث التراب يعرف خطو الفلاحين، وحيث الشمس تستيقظ على إيقاع النايات الخفية، وُلد راسم الخطاط عام 1955، في بيتٍ لم يعرف نور الأبجدية، لكنه ما لبث أن انفتح على دنيا الحروف عبر نافذة واحدة: شقيقه الأكبر، الذي جاء ذات مساء بديوان "سلوة الذاكرين" لعبد الأمير الفتلاوي، فأوقد في قلب الفتى شعلة لن تخبو. من تلك اللحظة، لم يعد الشعرُ للخطاط زينةً لغوية، بل مصيراً يتربى معه ويكبر في روحه.
لم تسعفه الحياة بترف الدراسة العليا، فغادر مقاعد التعليم بعد الإعدادية، لكنه لم يغادر مقاعد الوعي، وانكب على القراءة والعمل، واتخذ من الخط والرسم مهنةً ومسلكًا، ومن الحرف ملاذًا لا يعرف الخيانة. في المكتب الذي ضم الحبر والفرشاة، وُلد "الرسام" الذي سيعرف لاحقًا بلقب شعري لا يقل جمالية عن لوحاته، إذ أن مفردته القصائدية، كانت كلوحاته تمامًا: دقيقة، متقنة، مغموسة بالدهشة.
راح يخط الشعر كما يخط اللوحة، يرسم الكلمة، لا يقولها فحسب. منذ أواخر الستينيات، بدأ يغزل حروفه على منوال خاص، وسرعان ما وجد لنفسه مكانًا في جمعية الشعراء الشعبيين عام 1973، ومنها انطلقت قصائده كعطر بريّ، يملأ الصفحات والمسامع: في "الجنائن" و"الفرات" و"الصباح" و"كربلاء" و"السنبلة"، وغيرها من منابر العراق، وكان له حضور واضح في الشاشات والإذاعات والمهرجانات، بل كان من السبّاقين إلى إعادة ترتيب بيت الشعر الشعبي بعد التغيير، فساهم في تأسيس الاتحاد العام للشعراء الشعبيين، وترأسه ثم تولّى أمانته.
الشاعر الذي اختصر الشعر بالدهشة
تميّز راسم الخطاط في زمنٍ أصبح فيه التكرار سيد المواقف، بمسحة نادرة من التفرّد: كان شاعر الومضة بامتياز. يلتقط المعنى كما تلتقط العدسة لحظة برق، يوجز ولا يفرّط، يتأنق في انتقاء مفرداته كما يتأنق الخطاط في رسم الحرف. لم تكن قصائده سردًا عاطفيًا ينساب، بل كانت لوحة محكمة، كل بيت فيها مشهد مكتمل، وكل مفردة فيها دلالة مشبعة. كتب القصائد القصيرة كما لو أنه يكتب تعاويذ، وكتب الومضة وكأنها نبض الحقيقة.
لم يكن شاعرًا فقط، بل ناقدًا أيضًا. كتب عن غيره كما كتب عن نفسه، واحتضن الأسماء الجديدة برؤية فاحصة، وكتب عن عماد المطاريحي، وقاسم الياسري، وعودة التميمي، وغيرهم، كما كتب عنه النقاد بنظرةٍ تُنصف الإبداع وتمنحه ما يستحق، ولعل أبرزها شهادة الناقد عيسى مسلم جاسم، التي نُشرت في طريق الشعب، وتحلل قصيدة "شمام" بوصفها مثالًا على تزاوج الانسيابية مع العمق، والومضة مع البوح.
"شمام": قصيدة أم مرآة للروح؟
في قصيدته "شمام"، يتماهى راسم مع الصورة، ويعبر الجمال عبر استعارة واحدة طافحة بالإيحاء:
على طولك غفا الشمام
وخدودك ورد ليهسه ما مشموم
بهذين السطرين ينسج مجازًا مترفًا، يُلغي المسافة بين الطبيعة والجسد، بين الرغبة والواقع. يخترق الحسُّ السطور، وتمتزج لغة القصيدة بجسد الحبيب، فتغدو المفردة ملامسة، والعطر طقسًا شهوانيًا لا يُرى. رأى فيه الناقد عيسى مسلم قصيدة رومانسية خالصة، تتحرك ضمن مدرسة تتغذى من الحنين والحب والرمز، ورأى فيها دفقًا ناعمًا لا يخضع للتكلف، بل ينثال كما ينثال النسيم، سلسًا وعميقًا.
أحب النقّاد في قصيدته وحدة الموضوع، وأناقة المبنى، وسلاسة الانتقال بين الصور، ورأوا فيها نموذجًا لقصيدة شعبية تتقاطع مع شعر التفعيلة من حيث الروح والانسياب، ومع الشعر العمودي من حيث هندسة الإيقاع، لكن خصوصية راسم تكمن في أنه لم يتقيد بمدرسة بقدر ما ابتكر أسلوبه الخاص، فصار "أكاديمية القصيدة" على حد تعبير الناقد.
مزيج الفن والشعر
لم يكن راسم شاعرًا فقط، بل كان فنانًا بالمعنى الواسع للكلمة. كتب القصة القصيرة جدًا، أو ما يسمى "الومضة القصصية"، فاز بها في مسابقات عراقية وعربية، وكتب المسرحية الشعبية التي عُدت من أنضج ما أبدعه، حيث الواقعية ليست تجسيدًا سطحيا للواقع، بل اختزالًا لمكنوناته. ويكاد يكون القارئ أمام سيرة فنانٍ شامل، يجيد الإمساك باللحظة، ويعرف كيف يودعها في نص لا يشبه سواه.
وراسم الخطاط ليس شاعرًا عابرًا في مسيرة الشعر الشعبي العراقي، بل حجر أساس في مدرسة تتغذى من الذائقة العالية، والفكر الشفاف، والإحساس الدقيق. إننا حين نقرأه، لا نقرأ مفردة بقدر ما نقرأ إحساسًا مضمّخًا بالمعرفة، وحسًا مشبعًا بالصور، وفنًا يقول ما عجزت عنه الأقلام. لقد جعل من القصيدة مرآة، ومن الومضة دهشة، ومن الحرف خفقة قلب.
ولعل المستقبل، مهما أمعن في الحداثة، سيعود دومًا إلى "راسم الخطاط"، ليستدل على شاعرٍ صاغ القصيدة كما تُصاغ اللوحة، وكما يُعزف اللحن، وكما يُحبُّ الحبيب.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الراحل كاظم الرويعي بين الأغنية الملتزمة والاغتراب الموجع
- شاكر ميم.. شاعر الغفوة والابتسامة العابرة
- عبد الستار شعابث شجرة الشعر التي نبتت على ضفاف الحلة
- الناقد والقاص سلام حربة صوتٌ نقدي وقلمٌ سردي في المشهد الثقا ...
- حامد كعيد الجبوري شاعرٌ خرج من رحم الحلة ومضى ليكتب للوطن وا ...
- علي السباك الكاتب الذي جعل من الحلة سطرًا أول في دفتر الحكاي ...
- عماد الطالباني طبيب الحرف وروح الباحث
- الباحث محمد هادي رحلة في آفاق البحث والتأليف
- الشاعر إبراهيم الشيخ حسون صائغُ الحرف الشعبي ومغني الروح الح ...
- عبد الأمير خليل مراد شاعر يُمسك بجمر القصيدة ويشعل بها خيمة ...
- مهدي المعموري ضفاف الحرف ومرافئ الذاكرة
- الدكتور عدنان العوادي حكمة الأكاديمي وروح الأديب
- ليلى عبد الأمير حين تتكئ القصيدة على ريشة وتكتب قلبًا
- حسين مبدر الأعرجي: القاص الذي كتب بمداد الذاكرة والمكان
- عمران العبيدي شاعر تتقد الكلمات بين أصابعه
- وسام العبيدي الباحث الجاد والشاعر المتأمل
- محمد الزهيري... فكرٌ يقاوم، وصوتٌ لا يهادن
- قيس الجنابي الناقد الذي حرّك سواكن النص، وفتّش في ضمير الترا ...
- محمد مبارك بين الفلسفة والنقد الأدبي
- ناجح المعموري رحالة الأسطورة والفكر في فضاء الثقافة العراقية ...


المزيد.....




- -السلام لن يكون بالقتل والتهجير-.. ضاحي خلفان يعلق على اعترا ...
- الإمارات.. شرطة دبي تعلن القبض على-عصابة إجرامية- وتكشف ما ف ...
- -لدي ذكريات طيبة مع ترامب-.. زعيم كوريا الشمالية يضع شرطًا ل ...
- 3 قتلى وإصابتان في غارات روسية على زابوروجيا
- تداعيات الهجوم السيبراني مستمرة: مطار بروكسل يطلب إلغاء نصف ...
- بعد 108 سنوات من وعد بلفور.. بريطانيا تعترف رسميا بدولة فلسط ...
- إيران تؤكد استعدادها لمواجهة التهديدات الخارجية برد -يفوق ال ...
- كيف أصبح توزيع المساعدات في غزة مسرحا لحرب صليبية جديدة؟
- واشنطن بوست: طالبان تفرض نفسها دوليا لهذه الأسباب
- مغردون: لماذا انقسم الغرب في الاعتراف بدولة فلسطين؟


المزيد.....

- أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - راسم الخطاط شاعر الومضة ومهندس القصيدة