عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 10:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
خصص ألان دونو الفصل الأول من كتابه "نظام التفاهة"، لتمدد هذا النظام في الجامعات. كيف؟!
مقابل 500 مليون دولار، مثلًا، يزود معهد الطاقة والعلوم الحيوية في جامعة بيركلي شركة بريتش بتروليوم بنتائج أبحاث أساتذته. ويذكر المؤلف اسم خبير في الزهور والنَّحل، في جامعة إكسترا البريطانية، كان يُدفع له من قِبَل شركة سينجنيتا العملاقة في مجال المبيدات الحشرية لكي يُثبت أن لا علاقة لمنتجاتها بهلاك النَّحل بأعداد كبيرة حول العالم.
ويقول إن شركة كوكا كولا موَّلت دراسات علمية تدَّعي أن سبب السُّمنة يعود إلى قلة الحركة وعدم ممارسة الرياضة. ويضيف ألان دونو أن شركات دوائية تدفع لأساتذة طب، كي يهونوا في قاعات الدَّرس من الآثار الجانبية الضارة للأدوية.
ويشير أيضًا إلى أن اقتصاديين يدرِّسون في الجامعات وينشرون أبحاثًا، يصعب تصور أن نتائجها لا تصب في خدمة شركات مالية وصناعية هم أعضاء في مجالس إدارتها. هذه الأمثلة وكل ما يماثلها، يدمغها مؤلف كتاب "نظام التفاهة" ب"التواطؤ المصلحي" الضار بالبحث العلمي الحر. يقول دونو بهذا الخصوص:"إن علاقة الخضوع هذه التي صارت تربط الجامعة بعملائها الذين يشترون عقولها المنتجة بشكل دوري، هي من طبيعة ما كان ماكس فيبر(عالِم اجتماع ألماني) ليتخيلها، رُغم أنه كان يرفض منذ مئة سنة، التفاهة التي كانت الجامعة تغرق فيها من خلال تسليم نفسها لإغراء العلاقات التجارية ذات الطبيعة الاختراقية".
وهكذا صارت التفاهة غالبة في التعليم الجامعي، فالشركات تمول جامعات مقابل إعداد أبحاث تخدم مصالحها، حتى لو كانت تقلب الحقائق. الجامعة لم تعد اليوم تبيع نتائج أبحاثها، وإنما تبيع علامتها التجارية، تلك العلامة التي تختم بها التقارير وتمتلك حقوقها التجارية. وبلغ الجدب الأخلاقي للبحث العلمي حدّ أن الشئ الوحيد الذي عُني به الباحثون، هو حجم تمويل أبحاثهم، معاملهم، ومؤسساتهم. الأكاديميون لا يفعلون شيئًا، كما يقول دونو، سوى تكريس أفضل سنواتهم وقدراتهم كأدوات لاستعباد أنفسهم. إنهم يصطادون الفرص حتى تكون لديهم الوسائل الاقتصادية، لكي يصبحوا تمامًا مثل الجميع يرون أنفسهم تروسًا في آلة كبرى اسمها نظام التفاهة. باختصار، الأكاديميون استسلموا للمال، بحسب دونو، وهو ما ينعكس على الكيفية التي ينبغي لهم فيها استخدام اللغة في البحث، وبالذات في اختيار الكلمات. فمن المفضل اختيار كلمات تبدو علمية، وإن لم تكن كذلك للإيحاء بأن أفكارك ليست ذات علاقة بالمكان ولا بالزمان. لا تستخدم مصطلح النقود، بل العملة. تجنب الكلمات المشحونة بالعاطفة والمثقلة بالتاريخ. فلا تقل ثورات سياسية، وإنما تحدَّث عن "الصمود". دعك من كلمة "الطَّبَقَة"، واستبدل بها "الفئات الاجتماعية". حذارِ من استخدام لغة خشنة للسخرية من لاعبين سياسيين بارزين، لا سيما إذا كانوا من ذوي النفوذ. فلا تنسى أن الشركات متعددة الجنسيات قد تخطر على البال مع ذكر هؤلاء. وإذا صادفتك ظواهر معينة، فاستخدم تعابير مثل "تصرفات مريبة" أو "حوكمة" عوضًا عن استخدام مفردات مثل "جرائم" أو "نهب". لا تذكر أسماء لاعبين منخرطين في تصرفات غير قانونية، فعدم الإفصاح عن المعلومات يُكسبك مظهرًا علميًّا.
الميل إلى الغموض صار سمة للكتابة العلمية المعاصرة، حيث باتت اللغة الأكاديمية شيفرة سرية يستخدمها الباحثون كي يبعثوا برسائل مرمزة تفيد بأنهم جديرون بثقة نظام التفاهة. النصوص الأكاديمية تشكيلة واسعة من الأخطاء، ستقابل بالرفض من قِبل أي محرر ليس عضوًا متواطئًا من الوسط الأكاديمي. الباحثون الجامعيون يسيطر عليهم خوف غامض، أو سلطة تقديرية، وهذا هو أثر ما يسمية دونو "بقرطة" مهنة البحث العلمي.
الطلبة، حتى الأذكياء منهم، يصبحون أكثر جهلًا مما كانوا عليه قبل قبولهم في الكليات الجامعية، لأن المؤسسات الأكاديمية تنقل لهم خطاب الجهل وتنتجه معًا. أما طلبة الدراسات العليا، فيستغلهم أساتذتهم المنهمكين في أعمال إضافية لقلة الرواتب لإنجاز بعض مهامهم ومنها إعداد أجزاء كبيرة من أبحاثهم الأكاديمية. الأكاديميون لا وقت لديهم، فهم منهمكون في نظام التفاهة، وذلك من خلال التزامهم بمهام أدوارهم كمستشارين للحكومة أو يبيعون أنفسهم لسادة الشركات الكبرى.
وكل أكاديمي يصدف أن يحصل على تعيين في الجامعة ويتبين أنه مزعج لمصالح المتنفذين في نظام التفاهة، لا بد وأن يدفع ثمن مواقفه. فقد يعاني من المضايقات بمختلف تمظهراتها، أو التسريح من العمل دون معرفة السبب.
ولا تفوت ألان دونو الإضاءة على المدرسين الجامعيين بعقود مؤقتة، ويسميهم "الموسميين" أو "المساعدين". أكثر ما يقلق هؤلاء عدم تأكدهم مما إذا تجددت عقودهم أم لا. ويركز دونوعلى ميزة تخص هؤلاء في سياق ما نحن بصدده، ويعني افلاتهم بنيويًّا من التشوهات الأساسية للمؤسسة الجامعية. هذه الميزة في صالحهم رغم ظروفهم القلقة، ويرى دونو انها تجنبهم الضغوطات التي يعانيها نظراؤهم الأقدم. وكأن دونو هنا يلمح إلى الشللية المصلحية في مجتمع الأكاديميين، حيث يلتقي أصحاب المصالح المشتركة على كل من يرون أنه "غير مؤهل" لعضوية هذه الشلة أو تلك.
ونتفق مع ما ذهبت إليه مترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، الأستاذة الجامعية الدكتورة مشاعل عبدالعزيز، بقولها إن كثيرًا مما يتحدث عنه دونو باستفاضة عن أحوال الجامعات في زمننا تعرفه الجامعات العربية. وكأن العلم قد غيَّرَ غايته، لتصبح الحصول على المال والجاه أو ما يسمى في دارجتنا "البريستيج" الاجتماعي. وقد رأينا أن من أهم ما ناقشه دونو في كتابه، تسليع المعرفة الأكاديمية وبيعها للشركات الممولة للجامعات. وتبدأ هذه العملية بسلسلة خطوات، أولها، سعي الأكاديميين للحصول على المنح من الشركات. وعندما يتحول مُنتج المعرفة إلى تاجر، ينزلق التعليم إلى مستنقع التفاهة. ويرى دونو في ظهور تخصصات جديدة وجهًا آخر للتفاهة، بمعايير تسطيح المعارف من خلال توسعتها بدلًا من تعميقها.
ولعل من أظهر مؤشرات انزلاق الجامعات إلى التفاهة، بحسب دونو، تنحي المثقف الحكيم والعالِم، ليحل محله الخبير والمتخصص والأستاذ، والفرق بين هؤلاء وأولئك كبير. المثقف الحكيم والعالِم يضع نصب عينيه الحق والحقيقة. لا يصدر أحكامه إلا بعد وزن الأمور بمحفزات ضميره. وعليه، لا يمكن لأي ترغيب أو ترهيب أن يؤثر في خطابه. المثقف يقول الحق بحرية كما يقتضي ضميره العلمي وجدارته الأكاديمية، وبوجوده يؤدي التعليم الجامعي دوره في خدمة المجتمع. أما الخبير والأخصائي والأستاذ فأولى أولوياتهم خدمة مصالحهم الشخصية الضيقة، ولا ضير بمعاييرهم المصلحية في تزييف الحقائق العلمية خدمة لمحتكري السلطة والمال والنفوذ.
الخبير في نظام التفاهة، يمثل السلطة، مقابل المثقف صاحب الفكر الحر الملتزم بالقيم والمبادئ. المثقف تحركه دوافع أخلاقية، بينما الخبير يقوم بدوره مقابل ما يحصل عليه من مكافآت.
لم يعد الإبداع والقابلية للتعلم والإنجاز والموهبة معايير الإرتقاء في الدرجات الأكاديمية. المهم أن يتقن "الاستاذ" الجامعي فنون لعبة التفاهة ويكون بارعًا في التملق والنفاق والاحتيال والخضوع لنظام التفاهة.
لمصلحة من يجري هذا كله؟!
الإجابة سهلة، وفق ما يرى دونو، بقدر ما هي صادمة. ما يحدث هو خدمة للسوق في عالم يسيطر عليه المليارديرات الذين بأيديهم مقاليد السلطة. الجامعات تخضع لقانون السوق، والتعليم أصبح خادمًا ذليلًا للمال. يتبع.
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟