محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 16:30
المحور:
القضية الفلسطينية
حين أُجبر اليابانيون على توقيع وثيقة الاستسلام في نهاية الحرب العالمية الثانية، كانوا يدركون أنّ العدو الذي انتصر عليهم، رغم قسوته وبشاعة ضرباته النووية، لن يقتلعهم من أرضهم، ولن يسرق تاريخهم، ولن يزرع شعباً غريباً مكانهم. كانوا يعرفون أنّ أمريكا لن تُغيِّر أسماء مدنهم وقراهم، ولن تمنع أبناءهم من السير في شوارعهم، ولن تُقيم حواجز إذلال عند كل مفترق طرق، ولن تمزّق نسيجهم الاجتماعي، ولن تحاصرهم حتى في لقمة الخبز وجرعة الدواء. كانوا يعلمون أنّ الحرب انتهت عند التوقيع، وأنّ المستقبل، مهما كان ثقيلاً، سيبقى يابانيّاً.
أمّا غزّة، فقصتها مختلفة. غزّة تعرف أنّ العدو لا يريد إنهاء الحرب، بل يريد للحرب أن تصبح قدراً يوميّاً. العدو هنا لا يبحث عن هزيمة عسكرية فحسب، بل عن اقتلاع الذاكرة وطمس الهوية وإحلال الغريب مكان صاحب الأرض. في غزّة، لا تنتهي المأساة عند التوقيع، بل تبدأ مأساة أكبر: استيطان فوق الأرض، ومجازر بحق البشر، وتهجير يُشرِّد العائلات من البحر إلى المنافي، وحصار يقطع الأنفاس عن الأطفال قبل الشيوخ.
اليابان وقّعت على الاستسلام فعادت تنهض، أمّا غزّة، فإنّ أيَّ توقيعٍ غير عادلٍ يعني موتها ببطء، واستنزافها عبر عقود من الطرد والتهجير والخذلان. اليابان أُعيد بناؤها لتصبح قوّة اقتصادية عالمية، وغزّة تُهدم كلَّ يوم لتبقى جرحاً مفتوحاً في الجسد الفلسطيني والعربي والإنساني.
الفرق كبير بين عدوٍّ يقاتلك ليهزمك في ساحة المعركة، ثم يترك لك أرضك وتاريخك، وعدوٍّ يقاتلك ليطردك من بيتك، ويجعل تاريخك ملكاً له، ويُعيد كتابة وجودك حتى لا يبقى لك أثر. الفرق كبير بين حربٍ نهايتها هدنة وحياة، وصراعٍ نهايته نفي وطمس ودماء لا تجفّ.
غزّة اليوم ليست أمام خيار "توقيع سهل" ولا "استسلام كريم"، بل أمام قدر لا يُشبه إلّا نفسها: صمودٌ يدفع ثمنه الأحياء بالشهداء والجوع والخذلان، لكنّه يترك للأمّة كرامتها، ويترك للأرض أصحابها، ويكتب للأجيال القادمة أنّ هذا الجرح بقي مفتوحاً لأنّه رفض أن يندمل على الخيانة.
في غزّة لا يساوي التوقيع ورقة، بل يساوي وطناً. وفي غزّة، كل دمعة أم، وكل بيتٍ مهدوم، وكل شهيدٍ يُشيَّع، هو شهادة على أنّ الطريق طويل، لكنّه الطريق الوحيد حتى لا نصحو ذات يوم بلا أرض، بلا اسم، بلا هوية.
غزّة تعرف الفرق... بين استسلام يُنهي الحرب، واستسلام يُنهي الوطن.
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟