أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - ذاكرة الموج















المزيد.....


ذاكرة الموج


رانية مرجية

الحوار المتمدن-العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 00:50
المحور: الادب والفن
    


الفصل الأول: الولادة الغامضة


في تلك الليلة، بدا البحر كأنه يغيّر نَفَسَه. هدأ فجأة، ثم تنفّس طويلًا، كأن موجًا عتيقًا في صدره يريد أن يقول شيئًا ولا يقوله. في كوخٍ صغير عند طرف القرية، أضاءت قنديلة وحيدة وجه القابلة، وارتجفت يدها وهي تسمع أنين امرأة شاحبة، لا تصرخ، فقط تطبق أسنانها على شهقة وتتركها تطير.



وُلد الطفل دون بكاء. هذا ما أخاف القابلة، فمالت نحو وجهه تبحث عن الصرخة المألوفة فلم تجدها؛ وجدت عينيه فقط، مفتوحتين كنافذتين على ضوء غير مرئي. كان جسده دافئًا أكثر مما ينبغي، وكفّه الصغيرة انغلقت على هواء الغرفة كأنه يمسك خيطًا لا يراه أحد سواه.



لم تمضِ ساعة حتى أُسدل الستار على الأم. رحلت كما جاءت الليلة: بلا ضجيج. الأب، “سالم”، جلس على العتبة، يثبت نظره في حفرة ظلال على الأرض. لم يمدّ يده ليبكي، ولا عرف ماذا يقول للجار الذي جاء يحمل الماء. فقط همس:

— سمّيناه آدم.



انتشر الخبر قبل أن يطلع الفجر. قرية صغيرة لا تُخفي سرًا، والنساء يتهامسن:

— لم يبكِ الطفل…

— عيناه تضحكان للهواء…

— ربما هو من الأولياء… وربما…



في اليوم الثالث، رأته “حسنية” العجوز—امرأة كانت تُستشار في الشدائد، لها سيرة طويلة مع المرضى والضائعين. اقتربت من سرير الخوص، وضعت سبّابتها على جبينه ثم سحبتها بسرعة، وقد وخزها دفءٌ غريب. تمتمت:

— هذا الصبي جاء ومعه علامة… لا تخافه، يا سالم، ولكن لا تجرّبه.



كبر السؤال في صدر الأب: ما العلامة؟ ولماذا أوصته العجوز ألا “يجرّب” ابنه؟ لزم الصمت. وحين نام العالم، كان يسمع من ناحية المهد حروفًا مبعثرة، كأن الطفل يتهجّى لغته الخاصة وهو يحلم.



في اليوم السابع، حمل سالم رضيعَه إلى البحر. وقف حيث ينكسر الموج هادئًا، وقال:

— أمّكِ أحبّت الماء… وها أنا أعرّفك عليه.

لم يدرِ كيف لاحظ ذلك: حين اقترب من الزبد، توقّف الموج لحظةً قصيرة، قصيرة جدًا، لكنها كانت كافية ليحسّ الأب أن البحر… أنصت.



عاد سالم بالطفل، وفي عينيه شيء يشبه اعتذارًا للعالم: سيكبر هذا الصغير، وستكبر معه أسئلة لا جواب لها.

الفصل الثاني: بدايات مختلفة


على غير عادة الأطفال، لم تكن بدايات آدم صاخبة. كان يسكت طويلًا ثم ينطق جملة كاملة، جملة لا تشبه ما يقوله الصغار. في عامه الثالث، أمسك حصاة على الشاطئ وقال لأبيه بصوتٍ متردد:

— هذه ليست من هنا… هذه كانت هناك… ثم جاءتها سفينة كبيرة، ونامت سنوات في بطن حوت.

ضحك سالم على استحياء، ثم التفت فوجد “حسنية” تقف غير بعيد وتومئ للصغير أن يتابع. سألته:

— أين “هناك”؟

قال وهو يشير إلى الأفق:

— وراء الخطّ الأبيض.



في المساء نفسه، رسم آدم بأصبعه على الرمل دوائر وخطوطًا متقاطعة. بدت كحروفٍ لا يعرفها أحد. مرّ صيادٌ ونظر إلى الرسم ثم غمره برجله كي لا يراه أحد آخر. تمتم:

— لا نريد متاعب.



لم يكن آدم يطلب شيئًا من العالم، العالم هو الذي كان يطلب منه. الطيور كانت تهبط قربه دون خوف، والقطط تركن إلى ظلّه. وإذا عبَرت أمامه امرأة حاملة جرّة ماء، رفع رأسه وتأمّل خطواتها ثم قال لليان—الطفلة اليتيمة التي صارت صديقته الوحيدة:

— الماء يثقل قلوبنا عندما نحمله طويلًا… لكن البحر لا يتعب.

تضحك ليان، وتعيد الجملة بصوتٍ مقلّد:

— البحر لا يتعب! وهل نتعب نحن؟

فيجيب كمن يقرأ من كتابٍ لا يراه أحد:

— نتعب لأننا لا نعرف أين نضع ثِقَلَنا.



كانت ليان تطرق بابه كل صباح وتهمس من خلفه: “آدم، إلى الشاطئ”. يعرف صوتها فينهض، يلتقط عُلبة الألوان التي أهداها له معلم المدرسة، ويمشيان على الطريق الضيق بين البيوت. يشيران إلى البحر كأنهما يتفقان معًا: هذا ملعبنا، وهذا معلمنا الأول.



في المدرسة، وقف المعلم أمام لوحة الحروف، يلقّن التلاميذ: ألف، باء، تاء… كان آدم يتبع معه بلا حماس، ثم فجأة كتب على ورقة: “ما قبل البحر وما بعد البحر”. نظر المعلم إلى الجملة بإعجاب وحذر؛ لم يرد أن يُظهر دهشته أمام بقية الصغار. استدعى سالم بعد الدرس وقال له:

— ابنك يرى أسرع من الآخرين. احذر عليه من عيون الناس.

سأل سالم:

— أأمنعه من المدرسة؟

— لا، لكن علّمه الصمت حين يلزم.



غير أن الصمت لم ينقذه من الشائعات. صار بعض الأهالي يمنعون أبناءهم من اللعب معه. قالت أمّ طفلٍ لصديقةٍ لها:

— هذا الصغير يعرف ما لا ينبغي أن يعرفه طفل.

وردّت الأخرى:

— أو ربما نحن الذين لا ينبغي أن نجهل.



في عصرٍ دافئ، ظهرت “حسنية” عند الشاطئ. جلست قرب آدم وليان، وبيدها قطعة قماش قديمة نسجتها بنفسها. بسطتها على الرمل، فإذا هي مليئة برموز دقيقة: أنصاف دوائر، مثلثات صغيرة، نقط متراصّة. قالت لآدم:

— أترى هذه؟ هذه لغةٌ قديمة، مات أهلها ولكن بقيت حروفهم في البحر.

نظر آدم طويلًا، ثم بدأ يرسم فوق القماش أشكالًا مماثلة، لكنه غيّر ترتيبها. تتابعت أنامله كأنها تتذكّر. شهقت العجوز وهمست لسالم الذي كان يراقب من بعيد:

— قلت لك، جاء ومعه علامة.



في الليلة نفسها، هبّت ريح قصيرة ثم توقفت. خرج سالم يتفقد الأبواب، فرأى ابنه واقفًا في العتمة، يحدّق في خط الأفق الغارق. ناداه برفق:

— ماذا ترى؟

قال آدم بلا التفات:

— الذين تحت الماء… يضيئون البيوت التي لا نراها.

— أي بيوت؟

— البيوت التي يسكنها الذين لا ينامون.



لم ينم سالم بعدها بسهولة. يحاول أن يضع كلمات ابنه في خانة الخيال الطفولي، لكن شيئًا في نبرة الصوت لم يكن طفوليًا. في الصباح، استوقفته حسنية وقالت:

— لا تفسّر كل شيء لصالح العقل يا سالم… أحيانًا يحتاج العقل أن يصمت ليعبر.

أجاب وهو يمدّ نظره إلى ابنه:

— أخاف عليه من الناس.

— خَف عليه من خوف الناس، لا من الناس أنفسهم.



أمّا ليان، فكانت ترى في آدم شيئًا بسيطًا واحدًا: صديقها الذي يفهمها دون أن تشرح. إذا حزنت، لا يسأل لماذا؛ فقط يجلس بجوارها ويصغي للريح كأنّها تحكي عنهما. وفي إحدى المرات قالت له:

— لو كان لك سرّ، أعدني ألا تخبّئه عني.

ابتسم:

— أعدك… إذا كان السرّ لي.

— ماذا تقصد؟

— بعض الأسرار لا يملكها من يحملها.



مرّت الأشهر، وكبُر معه الشعور بأن هناك موعدًا ينتظره. كان إذا اقترب المساء، جلس على الصخرة العالية يسمّي الموج بأسماء غريبة: “العابر”، “الحارس”، “الذي لا يعود”. تحفظ ليان الأسماء وتضحك، لكنه لا يضحك كثيرًا. يظل ينظر إلى الماء ويقول بصوتٍ لا يسمعه أحد سواها:

— ليس بعيدًا اليومُ الذي يسألني فيه البحر: من أنت حقًّا؟

الفصل الثالث: الصديق الوحيد


لم يكن في القرية من يقترب من آدم سوى ليان. فتاة يتيمة، تسكن مع عمّتها الصارمة التي لم يكن يعنيها من العالم أكثر من تدبير قوت اليوم. ليان كانت تعرف معنى أن تكون غريبًا بين الناس، لذلك لم تخف من غرابة آدم.



كانا يلتقيان كل صباح عند طرف السور الحجري الذي يطلّ على البحر. تحمل هي معها رغيفًا يابسًا وبعض الزيتون، ويحمل هو ألوانه أو دفترًا صغيرًا منحه إياه معلمه. يقضيان الساعات في رسم الأمواج وتعداد الطيور، ثم يضحكان على الأشكال التي تتكوّن في الغيم.



في أحد الأيام، قالت له:

— ليتني أملك جناحين لأطير بعيدًا عن هذه القرية.

أجابها بهدوء:

— لديك جناحان، لكن الناس لا يرونهما.

ابتسمت:

— وأنت؟ هل لديك جناحان؟

— عندي… ولكن البحر هو جناحي.



شيئًا فشيئًا، صار أهل القرية يتهامسون: “ليان الوحيدة التي تجرؤ على مرافقة الغريب.” لم تكترث، ولم يسعَ آدم لتبرير صداقتهما. كان يكفيه أنها تنظر إليه دون خوف، بل بعينين فيهما دهشة وفضول، لا اتهام ولا ريبة.



وفي مساءٍ عاصف، جلسا معًا على الصخرة العالية. كان الموج يرتفع أكثر من المعتاد، والريح تصفّر كأنها تُنذر بشيء. قال آدم وهو يحدّق في الأفق:

— تسمعين؟

— أسمع الريح فقط.

— ليست ريحًا… إنهم يكلّمونني.

شهقت ليان:

— من؟

— الذين تحت الماء.



ارتجفت الصغيرة، لكنها تماسكت. لم تشأ أن تتركه وحيدًا في غرابته. فقط وضعت يدها في يده، وقالت:

— إن كانوا يكلّمونك، فأخبرهم أنني هنا أيضًا.



كان ذلك الموقف أول عهدٍ بينهما: مهما بدا العالم غريبًا، لن يتركا بعضهما.

الفصل الرابع: المرأة العجوز


ظهرت حسنية كأنها تعرف اللحظة المناسبة. كانت امرأة تخطّت التسعين، لكنها تمشي بخفة، وعيناها تحملان بريقًا لا يخبو. جلست قرب آدم وليان وهما يرسمان على الرمل. نظرت طويلاً في النقوش التي خطّها آدم، ثم تمتمت:

— ها قد عادت الرموز… بعد زمن طويل.



رفع آدم رأسه، شعر لأول مرة أن أحدًا يفهم ما يرسمه. سألها:

— تعرفين هذه الرموز؟

— أعرفها… وأخافها. إنها لغة البحر القديمة، لغة الذين رحلوا وظلّ أثرهم في الموج.

— ولماذا أعرفها أنا؟

ابتسمت بحزن:

— لأنك منهم، يا ولدي.



تدخّلت ليان بدهشة:

— ماذا تقصدين؟ هو وُلد هنا مثلنا.

هزّت العجوز رأسها:

— لا، يا صغيرة. ولد هنا جسدًا، لكن روحه لم تأتِ من هنا. البحر أرسله إلينا.



ساد صمت ثقيل. ليان نظرت إلى آدم بعينين قَلِقتين، كأنها تخشى أن تفقد صديقها. أما هو فظلّ ساكنًا، وكأنه كان ينتظر هذا الجواب منذ زمن.



ثم انحنت حسنية نحوه وهمست:

— ستأتيك ليلة يُنادى عليك فيها. حينها لا تقاوم، ولا تتردد. البحر لا يستدعي أحدًا عبثًا.



ابتعدت العجوز بخطوات بطيئة، تاركة وراءها أثر كلماتها كالحجارة الثقيلة في صدر الصغيرين. التفتت ليان إلى آدم وقالت بعناد:

— لا أريدك أن تذهب.

أجابها بصوتٍ مبحوح:

— ولا أنا… لكن ربما ليس الأمر بيدي.

الفصل الخامس: الرموز الغامضة


في صباحٍ باكر، استيقظت القرية على مشهد غير مألوف: صخور الشاطئ كلّها مغطاة بنقوش غريبة. دوائر متشابكة، مثلثات، أشكال تشبه الأمواج ولكنها منتظمة كأنها رسالة مرسومة.



هرع الناس ليروا ما يحدث. أحد الصيادين صاح:

— هذه ليست يد طفل! هذه أيادي الشياطين!



لكن ليان كانت تعرف الحقيقة: الليلة الماضية رأت آدم يجلس على الرمال ساعات طويلة، يرسم بيديه العاريتين وكأنه مأخوذ بسحرٍ لا ينتهي. لم تستطع أن توقفه، ولم تجرؤ أن تخبر أحدًا.



حين واجهه أهل القرية، لم ينكر. وقف أمامهم وقال بهدوء:

— لم أفعلها وحدي. البحر أملى عليّ هذه الأشكال.



ازداد همس الناس: بعضهم خاف وتراجع، والبعض الآخر صاح غاضبًا:

— لا نريد طلاسم بين بيوتنا! امسحها فورًا!



لكنهم فوجئوا أن الأمواج، عند أول مدٍّ، لم تمحُ الرسوم كما تفعل عادة. بل بقيت ثابتة، كأن البحر نفسه يحميها.



جاءت حسنية بين الجمع، نظرت إلى النقوش مطوّلًا ثم قالت:

— هذه ليست شياطين، بل علامات. من يقرأها يفهم أن شيئًا قادمًا إلينا… كبيرًا.



لكن كلماتها لم تُهدّئ الخوف، بل زادته. فالعقل البشري حين يواجه المجهول، يفضّل أن يراه شرًّا لا خيرًا.

الفصل السادس: العداء والخوف


منذ ذلك اليوم، تغيّر كل شيء. صار الأطفال يهربون إذا لمحوا آدم قادمًا. النساء يتعوّذن إذا مرّ قرب بيوتهن، والرجال يتهامسون بأن بقاءه خطر على القرية.



حتى والده، سالم، لم يعد قادرًا على الدفاع عنه. جلس في الليل أمامه وقال:

— يا بني، أخاف أن يؤذوك. قل لي… ما حقيقتك؟

نظر آدم إلى الأرض وتمتم:

— لو قلت لك، هل ستصدّق؟

— جرّبني.

رفع عينيه، كانتا تلمعان بجدية تفوق عمره:

— أنا لا أنتمي إليكم تمامًا. البحر يعرفني أكثر منكم.



ارتجف سالم، ولم يجرؤ على سؤال المزيد.



ليان، وحدها، بقيت بجانبه. كانت تهمس له:

— لا تهتم بما يقولون، أنت لست غريبًا عني.

لكن قلبها الصغير كان يرتجف، لأنها هي أيضًا لم تعد تفهم إلى أي عالم ينتمي صديقها.



في اجتماع للقرية، قال أحد الرجال:

— يجب أن نقرر. إمّا أن نحبسه، أو نطرده. لا أمان لمن يرسم طلاسم ويكلم البحر!

اعترض آخر:

— لكن ربما هو بركة! ألا ترون أنه لم يؤذِ أحدًا؟

ردّ الأول ساخرًا:

— البركة لا تُخيف الأطفال ولا تملأ الصخور بالرموز!



سادت الفوضى، وفي النهاية اتفقوا أن يراقبوه عن كثب، وأن يمنعوه من الاقتراب من البحر وحده.

لكن آدم لم يكترث. كان يعرف أن الموج يناديه بصوتٍ لا يسمعه أحد سواه، وأن يوم المواجهة يقترب أكثر فأكثر

رائع 🌹 سأكمل لك الآن الفصل السابع و الفصل الثامن، حيث يتلقى آدم رؤيا تكشف له سرًّا خطيرًا، ثم تحدث المواجهة مع أهل القرية.

الفصل السابع: الرؤيا


في تلك الليلة، غرق آدم في نومٍ عميق لم يعرفه من قبل. رأى نفسه في قاع البحر، بين شعاب مرجانية مضيئة كأنها قناديل معلّقة في السماء. كانت هناك كائنات غريبة، لا هي بشر ولا سمك، لها وجوه تشبه الوجوه لكنها تتلألأ كالنجوم.



اقترب أحدها منه وقال بصوتٍ يشبه هدير الأمواج:

— آن أوان الحقيقة. أنت لست طفلًا عاديًا… لقد وُلدت هنا جسدًا، لكن روحك جاءت من عالمنا. نحن “الحُرّاس”، نحمل ذاكرة البحر ونحميها من النسيان.



تجمّد آدم مكانه، فسأله الكائن:

— هل تسمع ندائنا منذ ولادتك؟

أجاب:

— نعم… لكنني لم أفهمه.

— ستفهم قريبًا. القرية التي تحتضنك تخبّئ سرًّا قديمًا، وإذا لم يكشف، سيغرق كل شيء.



استيقظ آدم فجأة، يلهث كمن خرج من عمق البحر بالفعل. كان الليل ساكنًا، إلا من صدى الأمواج الذي بدا له واضحًا ككلمات تتردّد.



في الصباح، جلس مع ليان وحدّثها عن رؤياه. ارتجفت الصغيرة، لكنها أمسكت يده وقالت:

— حتى لو كنت من عالم آخر، لن أتركك. لكن… ما السرّ الذي يهدد قريتنا؟

لم يعرف الجواب. فقط أحسّ أن النهاية قريبة، وأنه سيكون عليها مواجهة الحقيقة مع الجميع.

الفصل الثامن: المواجهة


ازدادت شكوك القرية. كانوا قد رأوا الرموز، وسمعوا بعض الأطفال يهمسون بأنهم لمحوا آدم يتحدث مع البحر. اجتمعوا في الساحة، وقرروا أن يضعوا حدًا للأمر.



وقف أحد الرجال وصاح:

— هذا الولد خطر علينا! إما أن يرحل، أو نحبسه قبل أن يجلب الكارثة!



اقتادوا آدم إلى الساحة. التف الناس حوله، عيونهم خليط من خوف وكراهية.

تقدمت ليان بين الجمع، تبكي:

— إنه لم يؤذِ أحدًا! لماذا تخافون منه؟

لكن صوتها ضاع وسط الجلبة.



رفع آدم يده، وعمّ السكون لوهلة. نظر إليهم جميعًا وقال ببرود لم يُعرف عن طفل:

— لست منكم… البحر هو أصلي.



تعالت الصرخات. بعضهم رماه بالحجارة الصغيرة، وآخرون صرخوا “شيطان!”، “ملعون!”. لكن فجأة ارتفع الموج من بعيد، كأنه يسمع ويغضب.



حسنية العجوز اندفعت بعصاها وقالت بصوتٍ حاد:

— كفّوا! أنتم لا تفهمون… هذا الصبي ليس لعنة، بل نذير. البحر لا يرسل أبناءه إلا لسبب.



لكن لم ينصت لها أحد. الفوضى غلبت المكان، وصوت الموج كان يزداد علوًّا، كأنه يتهيأ لابتلاع القرية كلها.



آدم، وسط الضجيج، أغلق عينيه وتمتم:

— حان وقت الرحيل.



الفصل التاسع: الاختفاء


في تلك الليلة، لم يهدأ البحر. هبّت عاصفة لم يشهد مثلها أهل القرية من قبل. كانت الأمواج تضرب الصخور كأنها طبول حرب، والريح تعوي كذئبٍ جائع.



وسط الظلام، شوهد آدم على الصخرة العالية، واقفًا بثبات غريب، شعره يرفرف والبرق يضيء عينيه. صرخت ليان من بعيد:

— آدم! انزل! سيقتلك البحر!



لكنه لم يلتفت. رفع يديه إلى السماء ثم إلى الماء، كأنه يتحدّث مع قوتين في آن واحد. صرخ بصوتٍ اخترق العاصفة:

— أنا أعرفكم الآن… لن أخاف منكم!



اقتربت حسنية العجوز وهي تجرّ جسدها المثقل وقالت:

— دعه، يا ليان… إنهم يستدعونه. هذه ليلته.



وبينما البرق يشق السماء، لمع حوله نور غريب، كأن الأمواج تحميه لا تهاجمه. ثم… اختفى. لم يسقط، لم يُبتلع، فقط تلاشى كأن البحر ابتلعه برفق.



في الصباح، لم يجدوا له أثرًا. لا جسد، لا ثياب، لا شيء سوى دفتر صغير مبلل، عالق بين الصخور. فتحت ليان صفحاته، فإذا فيه جملة واحدة بخط واضح:



“سأعود حين تستحقون الحقيقة.”

الفصل العاشر: النهاية الصادمة


مرّت سنوات. كبُرت ليان، وصارت شابة تحمل ملامح الحزن والدهشة التي تركها صديق طفولتها في قلبها. احتفظت بالدفتر، وعادت مرارًا لتتأمل الرسوم التي تركها على الصخور.



وذات مساء، حين كانت تقلب الدفتر بين يديها، لاحظت شيئًا لم تفهمه من قبل. الرموز لم تكن رسوماً عشوائية، بل خريطة! خطوط تشير إلى مكانٍ تحت البحر، قبالة القرية مباشرة.



قرأت الجملة الأخيرة من جديد، وشعرت بقشعريرة:

— “سأعود حين تستحقون الحقيقة.”



وفي تلك اللحظة، ارتجّ البحر أمام عينيها. ظنت أنه مدّ عادي، لكن صيادًا عجوزًا صاح:

— ليس هذا مدًّا… البحر يغلي!



ارتفع الموج بشكل غير مسبوق، وفي قمّة الموجة، رأت ليان ظلًّا مألوفًا: طفل واقف، يبتسم كما في الماضي، ثم يختفي بين المياه.



شهقت، وسمعت صوتًا في داخلها، لم يكن خارجيًا بل كأنه يتردّد في قلبها:

— لم يحن الوقت بعد.



ومنذ ذلك اليوم، لم يعد البحر كما كان. صار كل من يقترب من الشاطئ يشعر أن هناك عيونًا تراقبه من الأعماق. أما ليان، فظلت تؤمن أن آدم لم يختفِ، بل ينتظر لحظة العودة… لحظة الحقيقة التي ستصدم القرية والعالم معًا.



✨ النهاية… أم البداية؟



#رانية_مرجية (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صدور رواية “جسد الطوائف” للكاتبة رانية مرجية
- الفخ انكسر
- عندما بكى الله
- ديوان هايكو
- همس اللامرئي
- ذاكرة تحترق… وحب بلا ملامح
- أدبيات السفر: رحلة الروح بين ضفتين
- ضياع
- مقال رأي: لا تغترّوا بالباطل
- هلوسة المقبرة
- متوحدين ولكن
- بين الموروث الديني والموروث الثقافي… أين نقف اليوم؟
- شكر للأديب والشاعر والصحفي العراقي كاظم حسن سعيد
- أنفاس فلسطين – رِنغا هايكو
- د. عادل جودة - تحليل أدبي لـ -هايبونات المحبّة- للشاعرة راني ...
- القتل فخرًا
- رهبان ولكن حين تتحوّل القداسة إلى لعنة
- سماء حديدية
- انفصام – قصة رمزية فلسفية
- الدروز بين “حلف الدم” و”حلف الحياة”: قراءة في نص سعيد نفاع


المزيد.....




- -هنا رُفات من كتب اسمه بماء- .. تجليات المرض في الأدب الغربي ...
- اتحاد أدباء العراق يستذكر ويحتفي بعالم اللغة مهدي المخزومي
- -ما تَبقّى- .. معرض فردي للفنان عادل عابدين
- فنانون إسبان يخلّدون شهداء غزة الأطفال بقراءة أسمائهم في مدر ...
- فنانون إسبان يخلّدون شهداء أطفال غزة بقراءة أسمائهم في مدريد ...
- الفنان وائل شوقي : التاريخ كمساحة للتأويل
- الممثلة الأميركية اليهودية هانا أينبيندر تفوز بجائزة -إيمي- ...
- عبث القصة القصيرة والقصيرة جدا
- الفنان غاي بيرس يدعو لوقف تطبيع رعب الأطفال في غزة.. الصمت ت ...
- مسرحية الكيلومترات


المزيد.....

- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - ذاكرة الموج