رحيم فرحان صدام
الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 18:34
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
عصر ابن أبي الحديد
1- الأوضاع السياسية
2- الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية
3- الحركة العلمية
1- الأوضاع السياسية
حفلت الحقبة التي عاش في كنفها ابن أبي الحديد بأحداث مهمة ، ففي طفولته استعادت الدولة العباسية بعض سلطاتها بعد القضاء على السلاجقة على يد الخليفة الناصر لدين الله (575-622هـ/1179-1225م) سنة (590هـ/ 1193م)(1). وفي مطلع شبابه ظهر المغول كقوة سياسية وعسكرية ، فارضين سلطتهم على الواقع آنذاك لاسيما بعد قضائهم على الإمارة الخوارزمية سنة (628هـ/ 1231م). وتعقبهم لأقاليم ومناطق ومدن الدولة العربية الإسلامية ، وتهديدهم المستمر للمناطق المجاورة لحاضرة الخلافة العباسية (بغداد) فضلاً عن ذلك فقد رأى ابن أبي الحديد بأم عينيه تداعيات الخطر المغولي المحدق بالإسلام والمسلمين، وما يقابله من إجراءات ضعيفة غير قادرة بالمرة على إيقاف تقدمهم نحو المشرق الإسلامي ، وإلى جانب ذلك فان ابن أبي الحديد كان على مقربة من الفتن المذهبية ، والاضطرابات الخطرة وكان العراق مسرحا لها ولا شك في انه وغيره ممن عاشوا أحداثها ، لم يلمسوا جدية الدولة العباسية في إيقافها أو الأقل الحد من تداعياتها على الرعية وهذا قد ترك أثرا عميقا وشرخا في بنية المجتمع العراقي.
ومما لا شك فيه ، فإن قربه من مؤسسة الخلافة العباسية بحكم موقعه الوظيفي الرفيع ومعاصرته لأربع من الخلفاء العباسيين وهم الخليفة الناصر لدين الله (575-622هـ/1179-1225م)، والخليفة الظاهر بأمر الله (622-623هـ/1225-1226م) والخليفة المستنصر بالله(623-640هـ/ 1226-1242م) والخليفة المستعصم بالله (640-656هـ/1242-1258م) . قد منحه فرصة الاطلاع على الأوضاع السياسية والعسكرية لأكثر من خمسة عقود من الزمان على إن السنوات الأخيرة من حيلته كانت الأشد واقعاً وتأثيراً على الساحة السياسية في العراق وبغداد خاصة ، إذ انهارت مؤسسة الخلافة العباسية بعد أكثر من خمس قرون من الزمان ، إذ آل صرحها الى خراب ودمار على يد المغول في أثناء دخولهم حاضرتها بغداد سنة (656هـ/1258م) ، وقتل آخر الخلفاء المستعصم بالله ، ولعل تلك الأحداث المؤلمة قد عاصرها ابن أبي الحديد عن قرب ، ولعل وصف ابن الطقطقي لحال الخلافة العباسية في عهد الخليفة الأخير إلا برهاناً على تردي أوضاع العراق والحاضرة بغداد إذ يقول ما نصه: " كان المستعصم رجلاً خيّراً متديناً، ليّن الجانب، سهل العريكة، عفيف اللسان حمل كتاب الله تعالى وكتب خطاً مليحاً. وكان سهل الأخلاق، وكان خفيف الوطأة، إلا انه كان مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة، مطموعاً فيه، غير مهيب في النفوس، ولا مطلع على حقائق الأمور، وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرج على المساخرة، وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوساً ليس فيه كبير فائدة، وكان أصحابه مستولون عليه وكلهم جهّال من أراذل القوم..."(2).
2- الحالة الاجتماعية والاقتصادية
ان نظرة سريعة في أحوال المجتمع أبان العصر الذي عاش فيه ابن أبي الحديد تشير إلى وجود طبقتين هما:
الأولى: الطبقة المترفة الغنية وعلى رأسها الخليفة وأتباعه من الأقرباء المتنفذين، ويتلوهم حواشيهم من الوزراء والقادة والأمراء والولاة وكبار الموظفين والطبقة الثانية وهي الطبقة العامّة الفقيرة المعدمة، وتشتمل على غالبية المجتمع المنهمك بالصراع الديني والمذهبي(3).
والملاحظ أن الطبقة الأولى كانت تعيش في رخاء ونعيم لكثرة ما كان يجبى لها من الأموال عن طريق الضرائب التي كانت تؤخذ من الناس وهي متعددة. وكانت قصورهم تكتظ بالتحف والأواني الذهبية والفضية، وقد ذكر ابن كثير أنّ حريقاً عظيماً شبّ في دار الخلافة فأحرق من الأمتعة والرياش والسلاح والعتاد والمقتنيات الفاخرة ما بلغت قيمته أربعة آلاف ألف من الدنانير(4).
الطبقة الثانية وهي الطبقة العامة الفقيرة المعدمة كانت تعاني كثيراً من الضنك والضيق لكثرة الضرائب التي كانت تجبى منها ، وقلة ما كان يعود عليها من الكسب، فضلاً عن ابتلائهم بأوضاع اقتصادية متدهورة من جرّاء الكوارث الطبيعية ، منها كثرة الأمطار والفيضانات التي سببت غرق كثير من المحال وتلف كثير من الأمتعة والغلاف. وأورد مؤلف كتاب (الحوادث الجامعة) المنسوب الى ابن الفوطي في حوادث سنة (646هـ/1248م)، أن نهر دجلة قد فاض ونبع الماء من أساس حائط المدرسة المستنصرية وامتلأت الطرق بالمياه، فلم يبق من دار إلا هدمها ولم يتمكن أحد من نقل شيءٍ مما لديه سوى النجاة بنفسه، إذ وقعت الدور على ما فيها(5). ولذلك فلا غرابة أن تكون هذه الكوارث سبباً للقحط وغلاء الأسعار وتفشي الأمراض على نحو لم يكن باستطاعة الفقراء تحملها(6). ومما يؤكد ذلك أيضاً أن مؤلف (كتاب الحوادث الجامعة) في أثناء استعراضه لحوادث سنة (643هـ) يقول ما نصه انه "غلت الأسعار ببغداد حتى بلغ الكرّ (7) من الحنطة تسعين ديناراً، ومن الشعير أربعين ديناراً، والتبن كلّ ألف رطل(8) بخمسة دنانير، وكان مع هذا لا يوجد في الأسواق إلا الخبز الفائق السمين" (9).
ولا شك في أن هذه الأوضاع المضطربة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً كان لها الأثر البالغ في المجتمع العراقي وبغداد وفي سقوط الدولة العباسية ذلك السقوط الرهيب أمام التتار المغول.
3- الحركة العلمية
ازدهرت الحركة العلمية قبل الغزو المغولي لبغداد، إذ ظهرت إلى جانب المساجد مدارس لرواد العلم، وكان في هذه المدارس أساتذة وعلماء مختلفون يحاضرون في جميع العلوم. ومن أشهرها المدارس المدرسة النظامية ببغداد،التي كانت تشهد بين الحين و الآخر إضافات مهمة ، فقد أمر الخليفة الناصر لدين الله بعمارة خزانة الكتب فيها ورفدها بالكتب النفيسة ألوفاً لا يوجد مثلها(10). مما جعلها أشبه بجامعة كبيرة وإن كانت تقتصر في الدراسة والتدريس فيها على المذهب الشافعي. وإلى جانبها بنيت مدارس عدة في بقية المدن الإسلامية (11).
ولعل من مظاهر ازدهار الحركة العلمية في بغداد بناء المدرسة المستنصرية من قبل الخليفة المستنصر بالله العباسي ببغداد في عام (631هـ / 1234م) لتكون أعظم جامعة علمية ببغداد و"أول جامعة في العالم الإسلامي عُنيت بدراسة علوم القرآن والسنّة النبوية والمذاهب الفقهية وعلوم العربية والرياضيات وقسمة الفرائض والتركات ومنافع الحيوان وعلم الطب وحفظ قوام الصحة وتقويم الأبدان في آن واحد، كما إنها أول جامعة إسلامية جمعت فيها الدراسات الفقهية على المذاهب الإسلامية الأربعة في بناية واحدة هي مدرسة الفقه" (12).
وكان من آثار الحركة العلمية والفكرية في هذه الحقبة أن كثر عدد العلماء في كل علم مما حدا بعضهم إلى تأليف كتب في تراجم كل مجموعة على حدة. منها كتب للفقهاء، وكتب للمفسرين، وكتب للنحاة، وكتب الأطباء إلى غير ذلك من بقية العلوم الأخرى. وبذلك نرى بأنّ العقل كان نشيطاً خلاقاً مبدعاً حتى يمكن القول بأنه بلغ النشاط الفكري والثقافي الدرجة العالية من النضج.
وقد لمعت في هذا العصر شخصيات فكرية كبيرة، فكان من المؤرخين: ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي القرشي (ت597هـ/1204م)، وابن الأثير، عز الدين علي بن محمد الشيباني الجزري (ت630هـ/1232م)، وابن الدبيثي، أبو عبد الله محمد بن سعيد (ت637هـ/1239م)، وسبط ابن الجوزي، يوسف بن شمس الدين (ت654هـ/1256م).
ومن الشعراء: ابن سناء الملك، هبة الله بن جعفر (ت608هـ/1212م) وابن الفارض، عمر بن علي بن مرشد (ت632هـ/1235م)، والبهاء زهير، بن محمد بن علي (ت656هـ/1258م)، وابن الساعي، علي بن أنجب (ت674هـ/ 1275م).
الهوامش
(1) ينظر: ابن كثير ، عماد الدين إسماعيل بن عمر الدمشقي (ت774هـ/1373م)، البداية والنهاية، دار الفكر، (بيروت ـ 1978).ج 13، ص13.
(2) ينظر: الطقطقي، محمد بن علي بن طباطبا، (ت 709هـ/1315م)، الفخري في الآداب السلطانية والولايات الدينية، دار صادر، (بيروت ـ د.ت). ص333.
(3) ينظر: ابن الفوطي ، عبد الرزاق بن أحمد الشيباني (ت723هـ/1226م)، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة(منسوب) ، تحقيق: بشار عواد معروف ، عماد عبد السلام ، دار الغرب الإسلامية ، (بيروت -1997م). ص135، 138-139. يقول الدكتور مصطفى جواد : "وقد أجلنا الفكر، وأعملنا الروية، وأعدنا غير مرّة تصفّح هذا الكتاب، فانتهى بنا الرأي الى استحالة أن يكون هو «الحوادث الجامعة» لابن الفوطيّ". ينظر: مصطفى جواد: مقدمة كتاب مجمع الآداب في معجم الألقاب لابن الفوطي، المحقق: محمد الكاظم، الناشر: مؤسسة الطباعة والنشر- وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران
الطبعة: الأولى، 1416ه.ـ (1/ 56).
(4) ينظر: ابن كثير ، البداية والنهاية ج 13، ص49.
(5) ينظر: ابن الفوطي ، الحوادث الجامعة(منسوب) ، ص182-183.
(6) ينظر: ابن الفوطي، الحوادث الجامعة(منسوب)، ص127.
(7) الكر الذي كان يستخدم في بغداد هو الكر المعدل، ويعادل 2925 كغم؛ ينظر: هنتس، فالتر: المكاييل والأوزان الإسلامية، ترجمة: كامل العسلي ( عمان-1390هـ/1970م)، ص71.
(8) الرطل يساوي 406.25 غم؛ ينظر: صالح أحمد العلي: الخراج في العراق في العهود الإسلامية الأولى، (مطبعة المجمع العلمي العراقي، (بغداد- 1411هـ/1990م)، ص127.
(9) ينظر: صالح أحمد العلي، الخراج في العراق في العهود الإسلامية الأولى ص164.
(10) ينظر: ابن الأثير، عز الدين علي بن محمد الشيباني الجزري (ت630هـ/1232م)، الكامل في التاريخ، دار صادر، (بيروت- 1386هـ/1966م) ج 12 ص104.
(11) ينظر: ناجي معروف ، علماء النظاميات ومدارس المشرق الإسلامي، مطبعة الإرشاد، ط1، ( بغداد- 1393هـ/1973م): ص19-20.
(12) ينظر: ناجي معروف: تاريخ علماء المستنصرية، مطبعة العاني، ط2،(بغداد -1384هـ/1965م): ج 1 ص27.
#رحيم_فرحان_صدام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟