أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - مسطبة البقاء














المزيد.....

مسطبة البقاء


خيرالله قاسم المالكي

الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 23:20
المحور: الادب والفن
    


على المسطبة، في بداية الطريق المُقرنص من الجوانب، موضعها المُعتاد. تجلس حين يخلو، متّخذةً من حافتها مقعداً يتناسب مع إطلالتها، مع عُمرها المتوارث عبر مدى سنواتٍ رأسنها. ليست بمرتعشة؛ تجلس بكلّ العالم الذي يهتزّ ويتمايل ويرقصُ مزهوّاً، حاملاً آثار السنين.

شعرها يتطاير في الهواء الطلق، يتطاير بعمرٍ مقهور، يهتزّ عبر حافات الزمن من غير أن يرتجف.

بِعُمرها المتيسِّر، كانت تحلم أن تكون قبضةَ شعيرٍ تَنبُتُ في حقول المدينة ومشاتلها، في زوايا الحدائق، في بيوت المكنونة. تحلم أن تكون عشباً يطعم البطون الظامئة في أزقة البيوت والطرقات. تريد أن تنبتَ، أن تنتثر في كل شيء، أن تتخلّص من نظراتهم، أن تفرّ من ضيق عالمهم المظلم الذي يطعن جسدها ويخدشه كمخالب عمياء.

لكنها لا تملك سوى جرحٍ مبهم، خاطته يدٌ معدمة بخيطٍ مقطوع، تحت سماءٍ فقدت طعم النور.

وحين امتزج الحلم بالواقع، ووصل الكأس إلى يدها، ارتشفَت منه مرادها. انتعشت وشعرت أن فمها امتلأ بنورٍ سماويٍّ لم تذقه من قبل.

بينما امتصّت الأزقةُ أصداءَها، استغلَّ أحد الفتيان الزحام فجلس على الجانب الآخر من المسطبة، متقرفصاً كمن يختبئ أو يهرب من طاردٍ ما. في عينيه حَمَلَ فتاتَي حلمٍ، لا دمعين. قال: "أريد أن أنفجر وأكون طيراً داجناً هرب من قفصه في زحمة الانفجار. أختفي في ظلٍّ لا يراني فيه أحد. طيرٌ هاربٌ من عشّه، ينزو في زاوية طليقة، خارجٌ عن قفصه وشهوة الصيادين. لا أحد يلحق فورة الوجع، أو يطارد رغبة طائرٍ هاربٍ بين صباح وموجة ليل."

كان صَدًى للصبية الذين افترشوا الطريق جوارهم وهم يلعبون.

لكن الصبية سَرَّها ما رأت. وسمعت ضحكاً، لكنها رأت أن الصوت ليس صدى، بل كصوت يتهشّم كزجاج تقذفه الأمواج.

عطش فشرب من ذاك الكأس. فوراً، نبت ريشٌ لامعٌ على ذراعيه، ورأى السماء مفتوحة بلا ثقوب. غير أن الريح ارتدت به إلى الأعلى قبل أن يهبط.

في مكانٍ آخرَ منعزلٍ، جاءت صبيةٌ ثالثةٌ لتشارك في اللعبة ذاتها. حملت معها جلداً خزفياً صغيراً. قالت: "أنا لستُ أنا . كلما تقصّيتُ عن ذاتي، وجدتُ ذاتاً أخرى تتجسّم بما لستُه. غريبةٌ تومئ إليّ باستهتارٍ وبلا تحفّظ."

وضعت الجلد الخزفي على فوهة الكأس قبل أن تشرب. كأنها تشرَب أضواء الخزف، لا الشراب نفسه.

كل رشفة كانت تخفي جزءاً من كينونتها، من غير تردد، حتى كادت تختفي بالكامل. أصبح وجهها صفحة بيضاء لم يَسُحها قلمٌ مخادع، بلا اسم، بلا قسمات أو ملامح.

وقفَ فضوليٌّ متكئاً على مسندٍ من خياله، أشبه بقضيبٍ شجريّ. قال: "أكون كما أنا. لا أنام. النوم وهمٌ خادع يصرِفني إلى وجودٍ لا أريده، وأماكن لا تنتمي إلي."

حين دنا من الكأس ليُطفئ ظمأه ويشرب، لم يدخل الشراب إلى فمه، بل تسلّل عنوةً إلى ظلّه. وفجأة، تحرّك الظل وحده، من غير ملامسة أو فعل. تركه من غير إيماءات خفيّة أو فعل مركّب. توكّأ لوحده، من غير لحظة بقاء، ثم سار مبتعداً نحو الأزقة المظلمة.

صاح الشاب: "انتظروني!" لكن الظل أكمل مسيره، متخفيّاً في الزقاق المظلم.

ظلّوا يتسلّون بالكأس. يدور بينهم، يداً بعد يد، وحشةً بعد وحشة. القريب والبعيد، يجمعهم على المسطبة في ارتكاس الضياع والهزيمة. تحوّلت ضحكاتهم إلى أصوات مولولة، وأصبحت آمالهم وأحلامهم صوراً لا تُرى.

في ذروة الوجع، توقّفت دقّات الساعة وانكسرت عقاربها. انهمرت وجوههم بأكملها في كأسٍ واحد. فقدوا الوجود، ولم يعد أحدٌ يعرف من الفتاة ومن الشاب. وهم لا يزالون في قلب اللعبة.

انصهر الجندر وذاب كما يذوب الملح في الماء النقي. صارت الأوجاع استفهاماتٍ وتساؤلات، لبَّ الحديث ومحوره.

تبدّل الليل، وحلّ الفجر. بدأت ملامح المدينة بالحضور تحت إشراقات ضوءٍ باهت.

غابوا. لم يجد أحدٌ على المسطبة أو قرب الرصيف سوى الكأس الفارغة.

فقط الريح تبتسم وتهمس: "قَدَحان في كأسٍ واحد. ولا ماء يُروي الظمأ."



#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وردة وربابة بيضاء
- حزين
- تَرَاتِيلُ الفَجْرِ وَاللَّيْل
- المهدِ واللَّحْد
- إهْدَاء
- نُبُوءَات فِي نَارِ المَعَارِك
- غزّيون إنجاب
- الصف اللامنتهي
- محطات ساكنة
- رحلة الظامئ إلى القبر المهجور
- **.جدارمهملة .**
- **أحلام رجل في مفترق الضباب**
- “بكاء الماء الندي”
- الدخان الأسود
- لون الماء
- تراتيلُ الحُزْنِ
- وجه اخرمن غبار
- **مدن الضياع: سفر الأساطير المنسية في زمن الوجع**
- **-عزاء أولاد آدم-**
- هلوسة الفجر**


المزيد.....




- فنانون أتراك يدعمون حملة -جسر القلوب من أوسكودار إلى غزة-
- أمل مرقس: -في فلسطين الغناء لا يوقف الحروب، لكنه فعل صمود وم ...
- عُمرٌ مَجرورٌ بالحياةِ
- إشهار كتاب ( النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب ا ...
- باراماونت تنتقد تعهد فنانين بمقاطعة شركات سينمائية إسرائيلية ...
- إنقاذ كنز أثري من نيران القصف الإسرائيلي على مدينة غزة
- يُرجح أنه هجوم إيراني.. عشرات الممثلين الإسرائيليين يقعون ضح ...
- غزة... حين تعلو نغمات الموسيقى على دوي الانفجارات والرصاص
- غزة: الموسيقى ملاذ الشباب الفلسطيني وسط أجواء الحرب والدمار ...
- سياسي من ديمقراطيي السويد يريد إيقاف مسرحية في مالمو – ”تساه ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - مسطبة البقاء