أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - **.جدارمهملة .**














المزيد.....

**.جدارمهملة .**


خيرالله قاسم المالكي

الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 10:25
المحور: الادب والفن
    


العودة المُبكّرة إلى البيت ليست مجرّد حدثٍ عابر، بل طقسٌ غامضٌ يتكرّر.

تُراوِدُني، تتلبّسني، تتسلل إلى أحشائي، وتهمسُ بكلماتٍ مقرفةٍ تتسكّع معي في أروقة البيت كظلٍّ لا يُفارقني. أحاولُ الهرب، لكنها تتبعني. نحن، في النهاية، نسلكُ الطريقَ ذاتَها—نرتكبُ الخطايا بلا معنى، نحفظها ونعدّها كما لو كانت طقوس توبةٍ لم تأتِ بعد.

العودةُ… تمسحُ الغبارَ عن الستائر، وتغطّي الوجوهَ المحجوبة، وتستُرُ العوراتِ غيرَ المباحة. ننامُ معها… ومنها يُولَدُ مولودٌ شقيٌّ، يتلذّذُ بالقرف، يشربُ منه وكأنه شرابُ الحياة. يحسبُه أيامًا تمرّ، لكنها تلتصقُ به حتى في منامه العميق، حيثُ الأحلامُ المعلَّقة بين اليقظة والنوم.

ذلك الطفل الحائر، صديق أحلام اليقظة المبتغاة، ينامُ قرب العودة كما ينام الحنينُ قرب الجرح. وفي كلّ مرة، تنسى العودة ما في البيت من طعامٍ بارد، وأسرّةٍ مقلوبة، وجدرانٍ كأنها تنتظرُ من يعترف. جدرانٌ علّقت عليها صورٌ… صورٌ مهملة، ومن بينها صورةٌ لي.

كل مساءٍ، حين يهبط الضوء باهتًا على أسفلت الحيّ، أعود. لا أذكر متى بدأت أعود، ولا لماذا. العودة ليست قرارًا، بل كائنٌ حيّ. امرأة شاحبة، أو شبحٌ خفيفٌ يمشي على أطراف أصابعه، يسبقني بخطوة، يفتح لي الباب، يغمز لي من زجاج النافذة، ثم يتوارى داخلي.

أعود فأجد البيت ينتظرني، لا بشوق، بل باستسلام كئيب. الجدران لا تصرخ، لكنها تنظر. كأنها تعرف ما لن أقول، تحفظ أخطائي في شقوقها، تعدّ أنفاسي، تضحك بخبث حين أتظاهر بالنسيان.

العودة تُقرفني، نعم، لكنها تخصّني. تجلس إلى جواري على الأريكة المهترئة، تمدّ ساقيها المتسختين فوق الطاولة، تمضغ الذكرى كعلكةٍ فقدت طعمها، ثم تبصقها على السجادة. تهمس لي بكلام لا يُقال: "أنت مثلي، لست بريئًا كما تدّعي…" وأنا لا أجادلها. نحن نعرف أننا، أنا وهي، نقتسم الهاوية ذاتها. نرتكب الخطيئة ذاتها: أن نحاول تزيين الوحشة بما لا يُزيَّن، أن نلبس العري قميص نوم، أن نربّي الوحدة كما يُربّى طفلٌ شرير.

كل مساء، تنام العودة معي. تندسّ تحت اللحاف، تلصق ظهرها بظهري، تتنفس في عنقي، وتهمس: "لا أحد يحبك سواي." وأصدقها، لا لأنني مقتنع، بل لأن لا أحد يكلّف نفسه عناء الكذب عليّ بهذا اللطف.

من هذه الليالي، وُلد صبيٌّ لا يشبه أحدًا. لم أسمّه. هو يعرف نفسه. يجلس في الزاوية، يعبث بالغبار، يبتسم حين يسقط شيء، يضحك حين أبكي، ويحلم في وضح النهار. طفلٌ قرفٌ، يتغذّى على ما تركته أيامي القديمة من ندمٍ متعفن، يشرب من كؤوس الذكرى، ويحسبها أيامًا… لكنها لا تمضي. هو لا يكبر، بل يتكرّر.

كلما نظرتُ في المرآة، أراه هناك. خلفي. ينظر إليّ، يمدّ إصبعه على زجاج المرآة، ويرسم وجهي مشوّهًا، ثم يضحك.

وفي البيت صورٌ معلقة… بعضها لي، بعضها لمن كانوا هنا، وجميعها مائلة، كأن الزمن لم يجد وقتًا ليعدّلها. جدرانٌ تغطت بالعفن، لكنها ما زالت تحتفظ بوجهي، وجهٌ قديم، لا يشبهني، لكنه لا يتركني.

وهكذا، كل مساء، أعود. ولا أدري، هل أنا من يعود إلى البيت؟ أم أن البيت هو من يعود إليّ؟ أم أن العودة هي الوطن، وكل ما عداها نفيٌ مؤقت في الهواء الطلق؟



#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- **أحلام رجل في مفترق الضباب**
- “بكاء الماء الندي”
- الدخان الأسود
- لون الماء
- تراتيلُ الحُزْنِ
- وجه اخرمن غبار
- **مدن الضياع: سفر الأساطير المنسية في زمن الوجع**
- **-عزاء أولاد آدم-**
- هلوسة الفجر**
- كتاب اللاوجود
- صرّة السوداء
- مذكرات من زمن الحلم
- أرجوحةُ الغياب
- احاسيس مراهق
- صندوق امي السيسبي
- ارهاصات مراهقٍ ثمل
- من “سيرة حب في الأسواق”)
- **سُوقُ العَشَّارِ: مُنَاجَاةٌ فِي عَصْرِ البقاء**
- **اغتيال القمح**
- بين نُورَين


المزيد.....




- بيت المدى يستذكر الأديب الباحث الدكتور علي عباس علوان
- -كتاب الرياض- يناقش صناعة المحتوى الثقافي
- -الممثل غير المحترف-.. جديد محمد عبد الرحمن في معرض الرياض ل ...
- دان براون يعود ليسأل: ماذا بعد الموت؟ قراءة في -سر الأسرار- ...
- -الحافلة الضائعة-.. فيلم يعيد الفتى الذهبي ماثيو ماكونهي إلى ...
- -منتدى أصيلة- يسلم الإيفوارية تانيلا بوني جائزة -تشيكايا اوت ...
- هل يمكن فصل -التاريخ- كما جرى عن -التأريخ- كما يُكتب؟ الطيب ...
- لازلو كراسناهوركاي.. الكاتب الذي عبر من الأدب إلى السينما وص ...
- صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت ...
- أسماء أطفال غزة الشهداء تقرأ في سراييفو


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - **.جدارمهملة .**