خيرالله قاسم المالكي
الحوار المتمدن-العدد: 8431 - 2025 / 8 / 11 - 10:44
المحور:
الادب والفن
الصرّة السوداء
قصة قصيرة –
خيرالله قاسم المالكي
كان المطر قد توقف منذ ساعة، لكن الرصيف لا يزال يقطر طينًا.
رأيتها تجلس على الحافة، بجوار صرّة سوداء، وكأنها تحرس شيئًا أقدم من الحكايات.
كنتُ مرتبكًا. لا أعرف لماذا.
اقتربتُ منها بتردد، كأنني أدنو من ضريح، لا من عجوز.
مددتُ يدي أُساعدها، بلا كلام.
ابتسمت ابتسامة غامضة، ثم أشارت إلى الصرّة.
رفعتها. لم تكن ثقيلة.
لكن شعورًا غامضًا اجتاحني… كأنني حملتُ ما لا يُحمل.
الصرّة كانت طينية الملمس، رائحتها رطبة، تشبه رائحة قبو قديم.
سألتها:
– ماذا في الداخل؟
قالت دون أن تنظر إليّ:
– عمرٌ لم يُستعمل بعد.
ضحكتُ خفيفًا، ظننتها تمزح.
لكن نظرتها كانت أبعد من المزاح… نظرة امرأة عبرتْ زمنين: زمن كانت فيه، وزمن نُسيت فيه.
كانت الصرّة تشبهها.
هشّة، سمراء، محشوّة بما لا يُقال.
سألتها ثانية:
– هل أساعدك في حملها إلى البيت؟
قالت:
– البيت؟
ثم أشارت نحو السماء:
– بيتي هناك… منذ أن صار التراب لا يحتمل المطر.
صمتتْ.
لكن عينيها ظلّتا تتكلمان بلغة لا تُدرّس.
لغة الجوع، والسنين، والأبواب التي لا تُفتح.
على الرصيف، مرّ رجل أعمى يتوكأ على عصا بلا ظل.
ثم تبعه طفلٌ يجرّ فردة حذاء بلا صاحب.
ثم قطة تنام داخل غطاء محرك سيارة باردة.
كلّ شيء كان يبدو مألوفًا… وغريبًا.
قلتُ لها:
– المطر يُنبت الزرع، أليس كذلك؟
قالت:
– المطر لا يفرّق بين البذور والقبور.
أدرتُ رأسي نحو الصرّة… كأنني أتوقع أن تنبض.
فجأة، باغتني سؤال:
هل يمكن أن يكون عمرُ الإنسان محشورًا في صرّة؟
كل ما تبقّى من أحدهم؟
أمنية، أو ندم، أو صورة مفقودة؟
نظرتُ في عينيها، فوجدتُ المطر.
ليس مطرًا نازلًا من السماء… بل مطرًا صاعدًا من الداخل.
قالت:
– ضعها على الأرض، لن تُجدي الآن.
سألتها:
– ألا زلتِ تحتاجينها؟
همست كمن يكشف سرًا:
– أنا لا أحملها… هي من تحملني.
ثم قامت ومشت… دون أن تلمس الصرّة.
وبقيتُ وحدي، على الرصيف، والصرّة بين قدميّ،
أحملها… وأشعر أنني أخفّ من أي وقت مضى
#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟