أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8462 - 2025 / 9 / 11 - 10:52
المحور:
الصحافة والاعلام
حين وصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة في مايو 2017، كانت أولى زياراته الخارجية بعد دخوله البيت الأبيض. اختار الرياض ليعقد أول قمة عربية-إسلامية-أمريكية، وهناك رفع شعار “محاربة الإرهاب” ووقّع على صفقات تسليح تجاوزت قيمتها 110 مليارات دولار مع المملكة العربية السعودية. بعد تلك القمة انتقل إلى الدوحة، حيث استُقبل استقبالاً فخماً، وقدّم له أمير قطر هدايا رئاسية ثمينة، وأبرمت قطر سلسلة اتفاقيات اقتصادية مع واشنطن، منها صفقات طائرات بوينغ واستثمارات مباشرة في البنية التحتية الأمريكية. كانت الرسالة القطرية آنذاك واضحة: قطر حليف ملتزم للشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وهي مستعدة لدفع كلفة هذا التحالف سياسياً واقتصادياً.
غير أن المشهد انقلب سريعاً. بعد أسابيع قليلة، اندلعت أزمة الخليج في يونيو 2017، حين فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصاراً على قطر. كان ترامب في البداية مؤيداً ضمنياً لهذا الحصار، مغرداً أن قطر “تموّل الإرهاب على مستوى عالٍ جداً”، قبل أن تتراجع إدارته جزئياً تحت ضغط البنتاغون ووزارة الخارجية اللذين أدركا أهمية قاعدة العديد الجوية في قطر، باعتبارها أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط ومركزاً لعمليات القيادة الجوية ضد تنظيم داعش. منذ تلك اللحظة، تكرست مفارقة خطيرة: الولايات المتحدة تطلب من قطر أن تبقى حليفاً مطيعاً ووسيطاً دبلوماسياً، لكنها في الوقت نفسه تسمح لنفسها بتوظيف الحصار والتهديد وسيلة ابتزاز علني.
في العام التالي، انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران (مايو 2018)، لتبدأ مرحلة تصعيد كبرى في الخليج. تعرضت ناقلات نفط بالقرب من ميناء الفجيرة لهجمات غامضة في مايو 2019، أعقبتها هجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ على منشآت بقيق وخريص السعودية في سبتمبر من العام ذاته. وبين الفجيرة وبقيق، كان المجال الجوي القطري مهدداً مراراً. إيران أو وكلاؤها أرسلوا رسائل صاروخية وطائرات مسيرة، لكنها لم تلقَ أي رد أمريكي حاسم، بل اكتفت واشنطن بتحميل طهران المسؤولية دون أن تدافع فعلياً عن أمن المنطقة. بالنسبة للدوحة، التي تحتضن القاعدة الأمريكية الضخمة، بدا الأمر غدراً سافراً: كيف يُترك الحليف مكشوفاً أمام هجمات إيرانية محتملة دون حماية من القوة العظمى التي تستوطن أراضيه؟
في تلك الأثناء، كانت واشنطن تستعمل قطر كوسيط في ملفات حساسة. فمنذ 2010 استضافت الدوحة مكتب طالبان، وبناءً على طلب أمريكي مباشر تحولت المفاوضات هناك إلى قناة رئيسية بين واشنطن والحركة الأفغانية. culminated في اتفاق الدوحة في 29 فبراير 2020، الذي وقّعه المبعوث الأمريكي زلماي خليل زاد مع ممثلي طالبان بحضور وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو. الاتفاق سمح بخروج القوات الأمريكية من أطول حرب في تاريخها، وكان انتصاراً دبلوماسياً لواشنطن تحقق على أرض قطرية، بوساطة قطرية.
لم تقتصر المهام القطرية على الملف الأفغاني، بل طلبت واشنطن منها مراراً التدخل لدى حركة حماس في غزة، وفتحت الدوحة قنوات تمويل ومساعدات إنسانية تحت إشراف أمريكي-إسرائيلي غير معلن، لتخفيف حدة التوتر. بمعنى آخر، قطر كانت تؤدي أدوار الوسيط نيابة عن أمريكا، وتتحمل تبعات التعامل مع أطراف تعتبرها واشنطن “إرهابية” في خطابها العلني.
لكن كل هذه الأدوار لم تحمِ قطر من الغدر. ففي 23 يونيو 2025، أطلقت إيران رشقة من الصواريخ على قاعدة العديد الجوية، في خضم مواجهة عسكرية مفتوحة بينها وبين الولايات المتحدة وإسرائيل. الهجوم الإيراني كان الأعنف من نوعه، وأثبت أن وجود القاعدة الأمريكية جعل قطر هدفاً مباشراً في أي صراع إقليمي، حتى لو لم تكن طرفاً فيه. وزارة الدفاع القطرية أكدت أن معظم الصواريخ تم اعتراضها وأن الأضرار محدودة، لكن مجرد وقوع الهجوم أظهر هشاشة المعادلة: الوجود الأمريكي على أرض قطر لم يمنع الخطر، بل استدعاه. إيران لم تكن تريد استهداف قطر كدولة، بل كانت ترسل رسالة إلى واشنطن وتل أبيب فوق التراب القطري. بالنسبة للمواطن العربي، كان المشهد واضحاً: القاعدة الأمريكية ليست مظلة أمن، بل عبء استراتيجي على قطر والمنطقة.
لم تمضِ سوى أسابيع قليلة حتى وقع ما هو أخطر. في 9 سبتمبر 2025، شنت إسرائيل غارة جوية على الدوحة استهدفت اجتماعاً لقيادات من حركة حماس كانوا يجرون محادثات بوساطة قطرية حول وقف إطلاق النار. الضربة قتلت خمسة من مسؤولي الحركة وضابطاً قطرياً وبعض الحراس، فيما نجا بعض القادة البارزين. كان ذلك الاعتداء سابقة في تاريخ الخليج: أن تُقصف عاصمة خليجية مستقلة من طرف إسرائيل، في وقت تحتضن فيه آلاف الجنود الأمريكيين وقاعدة عسكرية هي الأكبر من نوعها في المنطقة. وزير خارجية قطر صرّح بأن الولايات المتحدة أبلغت الدوحة بالهجوم بعد وقوعه، لا قبله، ما يعني أن واشنطن إما علمت وتجاهلت أو أنها فضّلت التظاهر بالجهل. وفي الحالتين، النتيجة واحدة: الغدر الأمريكي مكشوف.
المفارقة أن واشنطن هي نفسها التي طلبت من قطر الوساطة مع حماس. فإذا بقطر، التي التزمت بالطلب الأمريكي، تُترك لتتلقى الضربة وحدها. والأسوأ أن إسرائيل لم تردعها حقيقة وجود القاعدة الأمريكية في الدوحة، وكأنها تعلم مسبقاً أن واشنطن لن تعترض. بدا الأمر وكأن الوجود الأمريكي غطاء يسمح بتجاوز السيادة القطرية لا حمايتها.
كل ذلك يُضاف إلى المشهد العام: رئيس أمريكي تلقى هدايا وصفقات من قطر عام 2017، ثم استثمر ملياراتها في اقتصاد بلاده، لكنه لم يتردد في تركها عرضة للحصار تارة، وللتهديد الإيراني تارة، وللقصف الإسرائيلي تارة أخرى. ترامب لم يرَ في الحلفاء سوى محفظة مالية، ولم يُخفِ يوماً أنه يتعامل مع السياسة كصفقة عقارية. وبذلك، تحوّل في الوعي العربي إلى رمز للابتزاز والبلطجة والغدر.
لقد عرفت قطر كما عرف غيرها من حلفاء أمريكا في التاريخ – من الشاه في إيران عام 1979 إلى أكراد العراق وسوريا – أن واشنطن تتخلى عند أول منعطف. لكن خصوصية التجربة القطرية أنها جاءت بعد أدوار دبلوماسية خدمت واشنطن مباشرة، ما يجعل الخذلان أكثر فجاجة. فالمواطن العربي، وهو يتابع هذه الوقائع، لم يعد يثق في الخطاب الأمريكي عن “حماية الحلفاء” أو “نشر الديمقراطية”، بل بات يراها شعارات تخفي تحتها صفقات ابتزاز ومقايضات مع إسرائيل.
اليوم، بعد قصف قاعدة العديد من إيران وقصف الدوحة من إسرائيل، باتت الحقيقة جلية: وجود القاعدة الأمريكية في قطر عبء على قطر والمنطقة كلها. فهي لا تحمي السيادة، بل تجعل البلد هدفاً لكل خصوم واشنطن. وهي لا تمنع العدوان الإسرائيلي، بل تسمح له بأن يمر بلا حساب. وهي لا تبني الثقة مع الحلفاء، بل تكشف عجز السياسة الأمريكية وانقيادها الأعمى لليمين الإسرائيلي.
إن الغدر الأمريكي لم يعد مجرد انطباع شعبي، بل حقيقة موثقة بالأحداث والتواريخ: زيارة ترامب للدوحة عام 2017 وما رافقها من هدايا وصفقات؛ التهاون الأمريكي أمام الهجمات الإيرانية عام 2019؛ اتفاق الدوحة مع طالبان عام 2020؛ قصف قاعدة العديد في يونيو 2025؛ ثم القصف الإسرائيلي على الدوحة في سبتمبر 2025. هذه السردية المتصلة تثبت أن الحليف الأمريكي لا يتورع عن البلطجة والابتزاز، وأنه يتخلى عند أول تضارب مع مصالحه أو مع نزوات حكومة نتنياهو.
يقول الشاعر العربي: “شكراً على الصعاب التي عرفتني معدن الصديق من العدو”. لقد كشفت الصعاب لقطر ولشعوب المنطقة معدن الصديق الأمريكي: حليف يتقن فن الخذلان، ويبرع في النفاق، لكنه لم يعد قادراً على إقناع أحد بأن حمايته ضمانة أو أن صداقته مكسب. ولذلك، فإن الدرس الاستراتيجي هو أن زمن الاعتماد المطلق على واشنطن قد انتهى، وأن على دول العالم بناء تحالفات دولية متوازنة بعيداً عن ابتزاز القوة العظمى التي فقدت بوصلة الأخلاق والسياسة.
⸻
المصادر
• زيارة الرئيس ترامب إلى السعودية وقطر (مايو 2017) – سجلات البيت الأبيض ووكالات الأنباء.
• انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران (مايو 2018).
• هجمات الفجيرة وبقيق (2019) – تقارير الأمم المتحدة ووكالات الأنباء.
• اتفاق الدوحة مع طالبان (29 فبراير 2020).
• القصف الإيراني لقاعدة العديد (23 يونيو 2025).
• القصف الإسرائيلي على الدوحة (9 سبتمبر 2025) – تصريحات رسمية قطرية وتقارير إعلامية دولية (ABC News، CSIS).
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟