مروان صباح
الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 16:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
/ لم يفتَرِ الشاعر الفلسطيني محمود درويش 🇵🇸 على العرب أبداً عندما قال : «لا أُخُوّة لك يا أخي ، لا قلاع ، لا الماء عندك ، لا الدواء ، لا السماء ولا الدماء ، لا الشرع ولا الإمام ولا الوراء ، حاصرك حصارك ، لا مفرّ ، سقطت ذراعك فالتقطها وأضرب عدوك ، لا مفرّ ، وسقطت بقربك فالتقطني ، فضربك عدوك بي ، فأنت الآن حرّ ، حرّ ، حرّ » (درويش، 1992) ، ورغم البعد الأدبي في هذه المقولة ، إلا أنّها تعكس بعمق طبيعة الصراع على الموارد والمعرفة في عصر ما بعد الثورة الصناعية الرابعة ، لقد أصبح واضحاً أنّ الصناعات التقليدية التىّ شكّلت العمود الفقري للاقتصاد العالمي لم تعد قادرة على مجاراة التطورات الحديثة ، فخدمات مثل “ستارلينك”، التىّ أطلقتها شركة “سبيس إكس” لتوفير الإنترنت عبر الأقمار الصناعية ، أحدثت نقلة نوعية في مفهوم البنية التحتية التكنولوجية ، وغيّرت من توازن القوى التكنولوجية بين الدول (Musk, 2021) ، هذا التحول أوجد حالة من القلق في الدول الكبرى ، التىّ وجدت نفسها أمام منافسين جدد أكثر ديناميكية وقدرة على التكيف ، لهذا ، تميزت التجربة الصينية 🇨🇳 في التصنيع بقدرتها على الجمع بين الإنتاج العائلي التقليدي والابتكار المؤسسي المستلهم من التجربة الأمريكية 🇺🇸 ، لاسيما نموذج وادي السيليكون ، فالصينيون لم يعتمدوا على الجامعات ومراكز البحوث فحسب ، بل عملوا على استنساخ نموذج “الحاضنات الصناعية” والشركات الناشئة ، وهو ما أدى إلى تسارع عملية التحول الاقتصاديّ (Segal, 2020) ، وقد ساهم إنتقال المصانع العالمية إلى الصين منذ التسعينيات في دفعها إلى صدارة المشهد الصناعي ، ففي عام 1996 دخلت ضمن قائمة الدول الصناعية العشر الكبار ، رغم أنّ الولايات المتحدة حينها كانت تفوقها بخمسة أضعاف في حجم الإنتاج ، واليابان بثلاثة أضعاف (World Bank, 2011).
خلال عقد واحد فقط ، تمكنت الصين من التفوق على ألمانيا (2001)، ثم اليابان (2007)، وأخيراً الولايات المتحدة (2010)، لتصبح القوة الصناعية الأولى عالمياً ، وتشير بيانات حديثة إلى أنّ قيمة صناعاتها بلغت ما يقارب 5 تريليونات دولار ، وهو ما يعادل مجموع الإنتاج الصناعي لكل من الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والهند معاً (OECD, 2022) ، هذا الإنجاز جعل الصين تُلقب بـ”مصنع العالم”، حيث تغطي ما يقارب ثلث الإحتياجات الأساسية للأسواق العالمية (Harvard Business Review, 2018) ، يمكن القول إنّ التجربة الصينية في التصنيع والتحول التكنولوجي تمثل مثالاً فريداً على كيفية الإنتقال من دولة هامشية في الإقتصاد العالمي إلى قوة اقتصادية عظمى ، إنّ نجاح الصين لم يكن نتيجة الصدفة ، بل جاء نتيجة إستراتيجية تقوم على دمج الإبتكار التكنولوجي بالنموذج الإنتاجي ، وهو ما جعلها منافساً حقيقياً للولايات المتحدة وحلفائها في المجال الصناعي …
شهدت الصين طفرة عمرانية غير مسبوقة ، من أبرز المشاريع مطار بكين الدولي الجديد الذي بلغت تكلفته نحو 5 مليارات دولار ، بتصميم معماري فريد من إبداع العراقية زها حديد ، يعتمد المطار على تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة الحقائب ، ويستوعب ما يزيد عن 100 مليون مسافر سنوياً ، إضافة إلى تطبيق تقنيات التعرف على الوجه بديلاً عن الجوازات التقليدية (Xinhua, 2019) ، ورصدت الحكومة الصينية نحو 25 مليار دولار لتطوير ربط المطار الجديد بشبكة القطارات ، كما خصصت 300 مليار دولار لإنشاء وتوسيع شبكة القطارات فائقة السرعة ، وهو ما ساعد في تقليل الإعتماد على الطيران الداخلي ، وخلق إقتصاد موازٍ في المحطات والمدن المرتبطة (World Bank, 2020) ، ثم ايضاً يعتبر سد الممرات الثلاثة أحد أضخم المشاريع الكهرومائية في العالم ، إذ بلغت تكلفته حوالي 30 مليار دولار ، وتصل طاقته الإنتاجية إلى 23 ألف ميغاواط (International Hydropower Association, 2021) ، كما أطلقت الصين مشروع نقل المياه من الجنوب إلى الشمال بتكلفة بلغت 79 مليار دولار ، عبر ثلاثة مسارات رئيسية تهدف إلى الحد من الفيضانات وتحسين توزيع الموارد المائية (Liu et al., 2013) .
على صعيد الفضاء ، خصصت الصين 50 مليار دولار لبناء محطة فضائية وطنية ، بينما استثمرت أكثر من تريليون دولار في مبادرة الحزام والطريق التىّ تشمل أكثر من 70 دولة (Rolland, 2019) ، أما في مجال الطاقة ، فقد ركزت على أبحاث الإندماج النووي ومشاريع الشمس الاصطناعية الحرارية ، بهدف تقليل الإعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية (MIT Technology Review, 2021) ، وخلص البحث إلى أن عهد الرئيس شي جين بينغ يمثل نقطة تحول في مسيرة الصين التنموية ، حيث جمعت السياسات بين تحديث البنية التحتية وتبني مشاريع كبرى في مجالات الطاقة والنقل والفضاء ، كما أظهرت مبادرة الحزام والطريق طموح الصين في إعادة تشكيل النظام الإقتصادي العالمي ، إن التجربة الصينية تُبرز نموذجاً يمكن أن يشكّل مصدر إلهام للدول الساعية إلى تحقيق التنمية الشاملة ، لكنها في الوقت نفسه تطرح تحديات جديدة أمام النظام الدولي القائم …
شهد العالم خلال العقدين الأخيرين تحولات جذرية في مجالات التكنولوجيا والصناعة ، حيث لم تعد شركات السيارات التقليدية قادرة على الإحتفاظ بريادتها المطلقة ، بل دخلت شركات ناشئة من الصين والولايات المتحدة على خط المنافسة ، وفي الوقت نفسه ، أسهمت خدمات الإتصالات الفضائية مثل ستارلينك في إعادة تشكيل ملامح الأمن الدولي والتنمية الاجتماعية ، كانت القناعة السائدة لدى الشركات العملاقة مثل جنرال موتورز وفورد وتويوتا ومرسيدس أن المستقبل سيظل حكراً على مصانعها الضخمة ، بإعتبار أن منتجاتها تتمتع بالحضور والتميز (Porter, 2008) ، غير أنّ دخول شركات مثل BYD الصينية وTesla الأمريكية أحدث نقلة نوعية ، إذ نقلت المنافسة من مجال المحركات التقليدية إلى البرمجيات (Anderson & Anderson, 2020) ، فالسيارة الحديثة لم تعد مجرد وسيلة نقل ميكانيكية ، بل أصبحت “منصة برمجية متحركة”، تعتمد على أنظمة ذكية تخفّض الوزن والتعقيد وتزيد من الكفاءة (Chen et al., 2021) ، فالتحول نحو البرمجيات جعل المركبات والتقنيات المرتبطة بها ساحة حساسة للأمن القومي ، ففي الحرب الروسية 🇷🇺 الأوكرانية 🇺🇦 ، كما في العدوان على غزة والهجمات الإسرائيلية على إيران 🇮🇷 ، برزت خدمة ستارلينك كأداة أساسية في الإتصالات الميدانية (BBC, 2022) ، وتشير بعض التقارير إلى أن الاستهدافات الدقيقة في ساحات النزاع أرتبطت بإستخدام هذه الخدمة عبر أجهزة متطورة بالقرب من الأهداف (Klein, 2023) ، ومع ذلك ، فإن هذه التقنيات لا تحمل بعداً سلبياً فقط ، بل يمكنها أن تكون أداة إنقاذ ، خصوصاً في حالات الطوارئ الإنسانية والتعليم في المناطق النائية أو المنكوبة (UNICEF, 2023) .
من المتوقع أن تصبح ستارلينك العمود الفقري للإنترنت عالمياً خلال السنوات القادمة تماماً كما هو الحال مع سيارات الكهربائية ، ما سيساعد على تقليل الإعتماد على البنى التحتية المحلية في الدول التىّ تعاني من الفساد أو سوء الإدارة ، مثل لبنان 🇱🇧 والعراق 🇮🇶 ، حيث يعاني المواطنون من تدهور خدمات الإنترنت وإنقطاع الكهرباء (World Bank, 2021) ، وهذا التحول لا يقتصر على البعد التقني فحسب ، بل يعكس مساراً عالمياً للتحول الرقمي ، وهو ما وصفه كلاوس شواب بـ “الثورة الصناعية الرابعة” (Schwab, 2016) ، يرى عدد من الباحثين أن منظومات الفساد في العالم ، وخصوصاً في المنطقة العربية ، ليست مجرد نتاج داخلي ، بل تتغذى على تدخلات دولية ومؤسسات مالية عالمية (Stiglitz, 2002) ، وفي هذا السياق ، تتهم بعض الدراسات قوى ضغط سياسية واقتصادية بالتحكم في مسارات الدول لإضعاف استقلاليتها ، مثال ذلك ما إرتبط في فرنسا 🇫🇷 بأحداث ثورة 1968 ، التىّ أعتبر بعض المؤرخين أن وراءها قوى خارجية كالحركة الصهيونية بقيادة الشيوعي كوهين بنديت هدفت إلى تقويض حكم الجنرال ديغول بعد موقفه الرافض لسياسات إسرائيل 🇮🇱 في حرب 1967 (Seidman, 2004) .
إن التغيرات الجارية في صناعة السيارات والإتصالات الرقمية لا يمكن النظر إليها فقط من زاوية إقتصادية أو تكنولوجية ، بل لا بد من فهم إنعكاساتها على الأمن والتنمية والسيادة الوطنية ، فبينما تمثل التقنيات الحديثة فرصة لتعزيز الإبتكار والتنمية ، فإنها في الوقت نفسه تطرح تحديات أمنية وسياسية كبيرة ، تتطلب توازناً دقيقاً بين الإستفادة من هذه التحولات ومواجهة مخاطرها … والسلام 🙋♂ ✍
#مروان_صباح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟