مروان صباح
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 22:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
/ شهدت المجتمعات العربية خلال العقود الأخيرة تحولات فكرية وسياسية عميقة ، جعلت بعض الشرائح تنظر بإيجابية إلى شخصيات كانت تُعدّ خصوماً تقليديين للعرب والفلسطينيين ، وتحديداً إذا كانت مسؤولة عن ابادة شعب بالكامل ، ويطرح هذا التحول إشكالية جوهرية : كيف وصلت الأمة العربية إلى هذا المستوى من الإنحطاط في وعيها الجمعي؟ ، ولم يعد مستغرباً أن نرى في بعض المناطق العربية – مثل السويداء في سوريا – صور بنيامين نتنياهو تُرفع في الميادين ، حيث كانت صور جمال عبد الناصر تزين المكان في 60 القرن الماضي ، إن هذا التحول لا يمكن فهمه بعيداً عن أزمة الهوية وضعف المشروع القومي العربي أو الإسلامي ، الذي بدأ بالتراجع منذ 70 القرن العشرين .
👍 تؤكد الشواهد التاريخية أن التعليم كان ركيزة أساسية لنهضة المسلمين في العصر العباسي ، إذ تدرج المتعلم عبر مراتب الفهم والاستيعاب حتى بلوغ الإجازة العلمية ، أما اليوم ، فقد تراجع مستوى التعليم إلى مجرد شهادات شكلية لا تُترجم إلى إبداع أو إبتكار ، هذا التدهور انعكس على الإنتاجية والابتكار في العالم العربي ، مقابل استمرار الغرب في تطوير منظوماته التعليمية عبر سياسات تطويرية مستدامة ، وتقوم الجامعات الغربية الكبرى – مثل هارفارد وأكسفورد وكامبريدج – على استقلالية مالية وإدارية واسعة ، تمنحها حرية البحث والإبداع ، وفي المقابل ، عرفت الحضارة الإسلامية نموذجاً مبكراً للاستقلالية عبر ما يعرف بالوقف ، الذي مكّن المؤسسات التعليمية من الإستمرار والإزدهار ، فقد بلغت قيمة الوقف التعليمي في هارفارد اليوم نحو 36 مليار دولار 💵 ، وهو إمتداد لفكرة الوقف الإسلامي التىّ أسستها المدارس النظامية في بغداد بإدارة الإمام الغزالي ، لم يكن تأثير الحضارة الإسلامية في أوروبا شكلياً ، بل كان بنيوياً وعميقاً ، فقد أسهمت المدارس والوقفات العلمية في ترسيخ عقلية جدلية نقدية ، إنعكست لاحقاً في تطور الجامعات الأوروبية ، ويؤكد مؤرخو التعليم أن أوروبا مدينة للعالم الإسلامي في تأسيس الكثير من مفاهيم الحرية الأكاديمية والمنهجية البحثية .
إن إنتقال بعض العرب من رفع صور عبد الناصر إلى رفع صور نتنياهو ليس مجرد حدث عابر ، بل هو إنعكاس لأزمة وعي ممتدة الجذور ، بدأت مع إنهيار منظومات التعليم وفقدان الاستقلالية الفكرية ، ولا يمكن إستعادة المشروع العربي النهضوي إلا بإصلاح التعليم ، وتعزيز إستقلال الجامعات ، وإحياء قيم الوقف العلمي ، تماماً كما فعلت الأمة الإسلامية في عصور أزدهارها …
يبدو أن خطاب نتنياهو لا يمكن اختزاله في كلمات عابرة ، إذ إنه ينطوي على دلالات سياسية واستراتيجية عميقة ، فهو لا يعبّر فقط عن نزعة خطابية قومية يهودية ، بل يُقدَّم كتصور إستراتيجي ذي بعد كولونيالي يتجاوز اللحظة الراهنة (Pappe, 2006) ، إن إشارته المتكررة إلى “المسؤولية التاريخية” في تحقيق ما يُسمّى بحلم إسرائيل الكبرى لا يُعدّ مجرد تعبير حماسي أو هذيان سياسي ، بل هو جزء من سردية تاريخية تسعى إسرائيل 🇮🇱 من خلالها إلى تثبيت حضورها المؤسسي داخلياً وتوسيع نفوذها خارجياً (Shlaim, 2014) ، وتتجسد هذه الرؤية في بنية المؤسسات التعليمية والبحثية الإسرائيلية ، التىّ تُسهم في دعم القوة الناعمة للدولة ، وتمتد آثارها إلى النفوذ السياسي والاقتصادي في القارة الإفريقية (Makinda, 2019) ، فالحضور الإسرائيلي في إفريقيا لا يُمكن تفسيره بالعلاقات الدبلوماسية التقليدية وحدها ، بل يتصل ارتباطاً مباشراً بالمنافسة الدولية على المعادن الإستراتيجية الضرورية لصناعة البطاريات والشرائح الذكية (IEA, 2022).
ولقد تحوّلت المعادن في العقدين الأخيرين إلى مورد أكثر أهمية من النفط والغاز ، نتيجة العوائد الإقتصادية الضخمة للصناعات المرتبطة بها مقارنة بالموارد التقليدية مثل الذهب والفضة (World Bank, 2020) ، وإذا كان الذهب قد عُدّ في السابق المعدن الأكثر قيمة ، فإن السيليكون والليثيوم اليوم يتقدمان المشهد ، لما لهما من دور محوري في صناعة الرقائق الإلكترونية والتكنولوجيا المتقدمة (Sachs & Warner, 2021) ، ولا تنفرد إسرائيل وحدها بهذا الوعي الإستراتيجي ، إذ تشهد القارة الإفريقية تنافساً حاداً بين الولايات المتحدة 🇺🇸 والصين 🇨🇳 ، في محاولة للسيطرة على مستقبل التكنولوجيا والطاقة (Alden & Alves, 2017 ) ، وقد وجدت الدول الإفريقية نفسها أمام ضرورة تبنّي سياسة توازن حذرة بين هذين العملاقين ، في هذا السياق ، تسعى إسرائيل إلى تعزيز موقعها ، ليس فقط عبر الإقتصاد والتكنولوجيا ، بل أيضاً من خلال التحكم بالموارد الحيوية مثل المياه ، وتوسيع نفوذها ضمن المنظومة المالية العالمية وآلياتها المستحدثة (Klein, 2020) …
يُظهر خطاب نتنياهو بعداً يتجاوز الطابع الخطابي المباشر ، إذ لا يمكن اختزاله في كلمات قليلة أو النظر إليه بإعتباره مجرد حماسة قومية يهودية ، بل هو تعبير عن رؤية إستراتيجية متجذّرة في مشروع كولونيالي طويل الأمد ، فإشارته إلى مسؤوليته التاريخية في تحقيق ما يُعرف بـ”حلم إسرائيل الكبرى” لا تعكس وهماً سياسياً أو خطابات دعائية ، بقدر ما تعبّر عن إدراك متجدد بأنّ إسرائيل الراهنة ليست سوى مرحلة تأسيسية لإسرائيل المستقبلية ، القائمة على بناء مؤسسات متينة وفاعلة ، ويتجلّى هذا التوجّه في السياسات التعليمية التىّ تبنّتها إسرائيل ، والتىّ لم تقتصر على الداخل فحسب ، بل امتدّت إلى تعزيز نفوذها في المحيط الدولي ، وخاصة في القارة الإفريقية ، هذا الحضور لم يأتِ اعتباطياً ، بل يرتبط عضوياً بالسباق العالمي نحو السيطرة على المعادن الاستراتيجية التىّ يُطلق عليها في بعض الأدبيات “الحمّى الحمراء” .
وتكتسب هذه المعادن أهميتها من دورها المحوري في الصناعات التكنولوجية المتقدمة ، مثل البطاريات الكهربائية والشرائح الذكية ، وهي صناعات باتت تفوق في قيمتها الاقتصادية لأي شيء سابق ، وإذا كان الذهب في الماضي يُعتبر المعدن الأكثر جاذبية ، فإنّ السيليكون أصبح اليوم “الذهب الجديد”، لما تمثله الرقائق الإلكترونية من عنصر حاسم في الإقتصاد الرقمي العالمي ، في هذا السياق ، أصبحت القارة الإفريقية ساحة صراع جيوسياسي ، حيث تسعى كل الدول الكبرى إلى ضمان موقع متقدّم في صناعة المستقبل ، وإلى جانب ذلك ، برزت إسرائيل لاعباً فاعلاً في هذه المنافسة ، مدفوعة بوعيها المبكر لأهمية المتغيرات الصناعية والتكنولوجية ، كما انخرطت في مشاريع استراتيجية تتعلق بالتحكم في الموارد الطبيعية لفرض أشكال جديدة من الهيمنة العابرة للحدود .
وعليه ، فإنّ خطاب نتنياهو لا يمكن قراءته بمعزل عن التحولات العالمية في مجالات التكنولوجيا ، الطاقة ، والسياسة الدولية ، إنه يعبّر عن محاولة إسرائيلية لصياغة موقع إستراتيجي فاعل داخل بنية النظام الدولي الجديد ، حيث تتحوّل السيطرة على الموارد والمعرفة إلى محدد رئيس في القوة والهيمنة …
تسعى الحركة الصهيونية إلى توسيع نفوذها في المنطقة العربية والإقليمية ، مستفيدةً من الخبرات التىّ إكتسبتها في أوروبا وأمريكا ، وعلى الرغم من وجود حركات شعبية واسعة ضد السياسات الإسرائيلية في أوروبا ، إلا أن الصهاينة إستطاعوا بناء شبكات نفوذ قوية في المؤسسات العامة والخاصة ، بما في ذلك المجال المالي والاقتصادي والاجتماعي (Pappe, 2010) ، ويرى بعض الباحثين أن الصراعات الكبرى في القرن 20 ، مثل صعود النازية والشيوعية ، كانت مرتبطة إلى حد كبير بالإقتصاد العالمي ومحاولات القوى الكبرى السيطرة على الموارد والأسواق (Evans, 2005) ، ففي ألمانيا 🇩🇪 ، أعتبر النازيون أن السيطرة الاقتصادية العالمية من قبل بعض الجماعات تهدد سيادة الدولة القومية ، بينما رأى الرأسماليون الغربيون في هتلر تهديداً للنظام القائم (Kershaw, 2000) .
وقد شهدت الفترة نفسها تحولات اجتماعية وسياسية كبيرة في روسيا 🇷🇺 وأوروبا 🇪🇺، حيث لعبت التوترات الاقتصادية والسياسية دوراً في إندلاع الثورات والحروب ، وكان فهم التوازن بين القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي أمراً محورياً لجميع القوى الكبرى في تلك الفترة (Strachan, 2004) .
في القرن 21 ، يستمر تأثير هذه الديناميات التاريخية على السياسات الدولية والإقليمية ، بما في ذلك تطورات المشروع الإسرائيلي وعلاقاته مع الدول الكبرى والإقليمية ، ويُلاحظ أن التمويل الدولي والشبكات الاقتصادية لا تزال تلعب دوراً في تشكيل السياسات الاقتصاديّة والأمنية للدول ، واذا تمكنوا الصهاينة من إبادة الشعب الفلسطيني بعد محاصرته ، فإن الأخرين سيتم لاحقاً إبادتهم بنشر الفقر والتخلف والفساد … والسلام 🙋♂ ✍
#مروان_صباح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟