أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - الآخر














المزيد.....

الآخر


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8441 - 2025 / 8 / 21 - 17:13
المحور: قضايا ثقافية
    


في زمنٍ تكاثرت فيه أصوات الادّعاء وتضخّمت إلى حد الصخب، وتضاءلت فيه فضيلة الإصغاء حتى كادت تغيب، تبدو الحاجة ماسّة لاستعادة فضيلة من زمنٍ آخر، فضيلة تنتمي إلى ما قبل عصر الأحكام المسبقة: فضيلة قبول الآخر، لا بوصفه نتوءًا في نسيج الهوية، بل بوصفه مكوّنًا ضرورياً لتعددها، وشاهدًا على ثراء التجربة الإنسانية وتعقيدها.

ليس القبول الذي تمنّ به السلطة على الهامش، ولا ذاك المغلّف بمجاملة ليّنة تليق بصالونات الخطاب الدبلوماسي، بل القبول العميق الذي يرى في طقوس الآخر ـــ أياً كانت، دينية، روحية، أو حتى سحرية ـــ ممارسةً رمزية تسعى لترميم وجود الإنسان في مواجهة عريّه الوجودي، وتعبيراً مشروعًا عن حاجته إلى المعنى وسط فوضى العالم.

ما أحوجنا إلى أن يتخفّف المثقف من عباءة الوصاية، تلك التي يلبسها كثيرون باسم "المعرفة"، فيمارسون بها عنفًا ناعماً لا يقل قسوة عن العنف المادي. أن يدرك المثقف أن الثقافة ليست سلطة ناطقة باسم "الحقيقة"، بل مسؤولية معرفية وأخلاقية تجاه الهشاشة الكامنة في التجربة الإنسانية. أن يتعلّم الإصغاء لا ليصنّف، بل ليفهم؛ لا ليُجهِض السؤال، بل ليرافقه حتى تخوم اللايقين.

ذلك أن الإنسان، في جوهره، لا يُقاس بإيمانه أو إنكاره، بل بقدرته على البقاء داخل توتر السؤال، على السكنى في برزخ الشك واليقين، دون أن يُغلق الأبواب على الآخر، فقط ليطمئن إلى صورة ثابتة عن الذات.

لكن، كيف يمكن لذاتٍ، مُثقَلة بإرث أنطولوجي من المركزيات: مركزية العقل، مركزية الهوية، مركزية الإيمان، أن تنظر في وجه الآخر دون أن ترى فيه مجرد مرآة معكوسة لذاتها؟ هنا يتسلل الخطر الحقيقي: أن يصبح "الآخر" مادةً لإعادة إنتاج الأنا، لا شريكًا في تشكيل المعنى.

إننا لا نعرف أنفسنا إلا حين نُقابل وجهًا مختلفًا، غريبًا، غير متوقع. لكن عوض أن نحتضن هذا الاختلاف كضرورة معرفية وأخلاقية، نسارع غالبًا إلى تدجينه أو طرده، فنحوّل الحوار إلى حديثٍ أحادي مُقنّع، ونختزل الكثرة في الواحد، والضجيج في لحنٍ واحدٍ مريح.

في هذه اللحظة تحديدًا، يصبح قبول الآخر ليس موقفًا أخلاقيًا فحسب، بل استراتيجية إبستمولوجية للبقاء في عالم لا يتّسق، ولا يطلب منك أن تفهمه، بل فقط أن تحاول. إن كل نظام رمزي يحمل داخله شقوقه، تناقضاته، واحتمالاته غير المتوقعة. لذا، لا يمكننا أن نختصر الآخر في بنية مغلقة، أو أن نختزل طقوسه في أدوات إثنوغرافية للفهم المريح.

العالم لا يُقرأ إلا بوصفه نصًا مفتوحًا، وفي هذا النص، لا يوجد تأويل واحد، بل سلسلة تأويلات لا نهائية، وكل طقس، كل معتقد، كل شكل من أشكال السعي الإنساني نحو الطمأنينة، هو تذكرة إلى هذه المتاهة التأويلية، التي لا مخرج منها إلا بالاعتراف بتعدديتها.

لذلك، لا يعود المثقف شاهدًا على المعنى، بل شريكًا في إنتاجه، لا يعود متعاليًا على التجربة بل غائصًا فيها، مسكونًا بالتساؤل، مهددًا دومًا باللايقين، وهذا بالضبط ما يجعله إنسانيًا.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الموت يكتب قصيدته في جسدها
- كلاب المثلثات
- داخل الغامض أنت تمارين لمحو الشكل
- شكل المحو
- على سطح علم المثلثات
- ماذا عن الكتابة ؟
- مشاهد في الفندق الخفي
- ملف 555 من الرحلة الأخيرة لسيد غباء الرقم 5ع ت
- (معول النسر يرمي الدم المشتعل عالياً) في المصير الحالي
- العالم كله في صناديق باستثناء بضعة كتب
- تمارين في لمحو السابق
- رياضة المحو
- المقبرة البحرية
- 14 يونيو 1907
- حين تبدأ الأشياء
- الموت يلوّح برايته السوداء في دمي
- ما ينمو في داخلي سيجعلني نصبًا تذكاريًا
- (الموت واللغة)
- مَنَامَاتٍ
- هامِشٌ عَلَى الصَّفَحَاتِ الَّتِي تَلِي هٰذَا النَّصَّ ...


المزيد.....




- تحليل لـCNN: كيف منح ترامب روسيا -كل ما تريده تقريبا- بخطته ...
- تغييرات-محتملة- في إدارة ترامب.. مصادر تكشف لـCNN الكواليس
- في أول لقاء بينهما، ترامب يشيد بمحادثاته مع ممداني
- واشنطن تحذر الطيران المدني في أجواء فنزويلا من مخاطر عسكرية ...
- الجيش السوري و-قسد- يتفقان على وقف التصعيد في الرقة
- نواب أميركيون: خطة ترامب بشأن أوكرانيا تكافئ بوتين
- تعليق جديد لترامب عن أول لقاء مع زهران ممداني بعد الانتقادات ...
- أنباء عن اتفاق بين الجيش السوري و-قسد- عقب اشتباكات بريف الر ...
- وزير لبناني: سوريا تتجاوب بشأن معلومات عن اغتيالات في عهد ال ...
- قتيل في غارة إسرائيلية جديدة جنوبي لبنان


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - الآخر