الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 07:25
المحور:
كتابات ساخرة
جالسٌ في المقهى كعادتي، لا أطلب من الدنيا أكثر من فنجان قهوة مُرّ وسكونٍ نسبي يسمح لي بترتيب ضوضاء رأسي. لكن يبدو أن حتى هذا الحد الأدنى من الرفاهية أصبح ترفًا لا يُطال، لأن بجواري جلس رجلان، يتحدثان بصوت لا يُناسب إلا منابر المساجد في صلاة الجمعة.
كان حديثهما طويلًا، مليئًا بالتوابل، يتقاذفان أسماء الناس كما يتقاذف الأطفال الكرة في زقاق. أحدهما يقول: "شفت مراتو البارح؟ كانت خارجة معاه ولكن شكلها ماشي شكل مرأة سعيدة..." فيردّ الآخر: "الله يستر، راه كنت سامع شي هضرة عليها من قبل..." ثم ينقلب الحديث إلى ثالث ورابع، حتى شعرت أني في برنامج إذاعي مباشر عنوانه: "أحوال الرعية في مملكة الثرثرة".
كنت أسمع، لا عن طيب خاطر، بل لأن صوتيهما كانا يخترقان طبلة أذني كما يخترق الرصاص الورق الرقيق. وقلت في نفسي: لا بأس، لن أُفسد مزاجي، دعهم يستمتعون بدقائقهم القليلة من السلطة الرمزية وهم يحكمون على خلق الله من فوق كراسي البلاستيك.
لكن المشهد لم ينتهِ عند هذا الحد. فجأة، وبدون سابق إنذار، تغيّر مزاج الحديث، ومرّا إلى الشؤون الدينية والمالية. قال أحدهما للآخر: "خويا، سلفت الفلوس من البنك وكنخلص بالتقسيط، ولكن عارف راه الربا حرام، حرام بزاف!"
هزّ الآخر رأسه كمن يحمل مفاتيح الجنة، وقال: "الربا راه كيحارب بها الله، ماشي لعب، ما كاينش شي ذنب كيوازيها".
هنا فقط، لم أتمالك نفسي.
قمتُ من مقعدي، استنشقت الهواء كمن يستعد لخطبة، ثم قلت بصوتٍ مسموعٍ مقصود:
"آه فهمت... النميمة والغيبة راه حلال، والربا اللي حرام!"
صمتٌ عمّ المكان، كأن أحدًا ضغط زرّ الإيقاف المؤقت، ثم عادت الحياة إلى طبيعتها: أحدهم سعل، والآخر طلب قهوة، والثالث أشعل سيجارته، وكأنني لم أقل شيئًا.
جلستُ بهدوء، وأدركت للمرة الألف أن الدين في بلدي يُستخرج من الجيب الخلفي، ويُطوى حسب المقاس، يُستخدم لإدانة الآخرين، وتبرير الذات. أما الغيبة والنميمة، فقد صارتا من التراث الشعبي، تُقال على مهل، مع الشاي المنعنع، وتُختَتم غالبًا بجملة: "اللهم لا شماتة".
في المقهى، كما في المجتمع، هناك حلالٌ على المقاس، وحرامٌ حسب الضحية. والأخطر من الربا هو هذا الربا الأخلاقي، حين يُقرض الناس ضمائرهم للسكوت عن أنفسهم والحديث عن غيرهم.
لكن ما دامت المقاهي مفتوحة، وأبواب التوبة أيضًا، فلن أفقد الأمل. فقط، سأطلب قهوتي القادمة "بلا سكر، وبلا أحاديث جانبية".
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟