أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - الشهبي أحمد - ثورة الكوميرة: حين صرخ الفقراء فدوّى الرصاص














المزيد.....

ثورة الكوميرة: حين صرخ الفقراء فدوّى الرصاص


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8379 - 2025 / 6 / 20 - 06:32
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


في المغرب، حين يُذكر يوم 20 يونيو، تنبعث من الذاكرة رائحة البارود ممزوجة برغيفٍ يابس، ويسري في العروق وجعٌ قديم اسمه "ثورة الكوميرة". لم تكن مجرد مظاهرات عابرة، ولا مجرد غضبٍ عفوي سرعان ما خمد، بل كانت لحظة انفجار مكبوت، تمخّضت عنه سنوات من القهر والإهمال، وتجسدت فيه معاناة شعبٍ كان يُطلب منه أن يعضّ على الجوع بالنواجذ، بينما تُدار البلاد بعقلية أمنية لا تعرف من السياسة سوى العصا.

أوائل الثمانينيات كانت فترة قاتمة في تاريخ المغرب المعاصر. البلاد كانت ترزح تحت ثقل أزمة اقتصادية خانقة، تفاقمت بفعل سنوات الجفاف المتتالية، وارتباط الاقتصاد المغربي بتقلبات السوق الدولية، وخضوعه لشروط صندوق النقد الدولي، الذي كان يفرض سياسات تقشفية صارمة مقابل قروض تثقل كاهل الدولة والشعب معًا. كانت تلك السياسات تشترط تقليص النفقات العمومية، وتحرير الأسعار، ورفع الدعم عن المواد الأساسية، في وقتٍ لم يكن فيه المواطن المغربي يملك شيئًا يدافع به عن نفسه سوى جسده وصوته.

لم يكن خبز الكوميرة في تلك اللحظة مجرد طعامٍ بائس، بل صار رمزًا للبقاء، وامتلاكه أو فقدانه صار مسألة كرامة. حين أعلنت الحكومة عن زيادات في أسعار المواد الأساسية، لم تكن تلك مجرد إجراءات تقنية ضمن ما يسمى "الإصلاحات الهيكلية"، بل كانت صفعة مباشرة للفئات الكادحة، خاصة في الأحياء الشعبية للمدن الكبرى، وعلى رأسها الدار البيضاء، المدينة التي احتضنت صرخة الغضب الأكبر. هناك، حيث يسكن المياومون، وعمال المعامل، وأسر تعيش بالكاد على الفتات، تحوّلت الأزمة إلى شرارة، والشرارة إلى لهبٍ اجتاح الشوارع.

انطلقت الدعوة إلى الإضراب العام يوم 20 يونيو 1981، واستجابت لها شرائح واسعة من الشعب المغربي، بدفع وتحريض من بعض القوى النقابية والسياسية التي رأت في هذه اللحظة فرصة للتعبير عن الاحتقان الاجتماعي العارم. غير أن ما حدث بعد ذلك تجاوز حدود التوقع. لم يكن النظام مستعدًا للاستماع أو التفاوض، بل كانت ردة فعله سريعة، صارمة، وقاسية بشكل فج. أُعطيت التعليمات لإخماد الاحتجاجات بأي ثمن، وتم الزج بالجيش في شوارع الدار البيضاء، في سابقةٍ لا يمكن فهمها خارج سياق الخوف من اهتزاز هيبة الدولة. فجأة، تحولت المدينة إلى ساحة حرب غير متكافئة، طرفٌ فيها يصرخ "بغينا نعيشو"، وطرفٌ آخر يرد بالدبابات والمروحيات والرصاص.

مئات القتلى، معظمهم من الشباب، دُفنوا ليلًا دون إعلام أهاليهم، ودون فتح تحقيقات أو محاسبة للمسؤولين. آلاف المعتقلين تم تقديمهم لمحاكمات صورية، صدرت في حقهم أحكام قاسية، فقط لأنهم نزلوا إلى الشارع وطالبوا بلقمة نظيفة وكرامة مستحقة. الإعلام الرسمي صوّرهم كـ"مخربين" و"عملاء"، واستخدم النظام لغة التخوين لتشويه مطالبهم، في حين كانت الحقيقة أوضح من الشمس: لم يخرجوا إلا لأنهم جاعوا، ولأن الصبر حين يتجاوز حدّه يتحول إلى بركان.

من منظور تاريخي، لا يمكن فهم "ثورة الكوميرة" بمعزل عن السياق الأوسع لما يُعرف في المغرب بـ"سنوات الرصاص". فالنظام في تلك المرحلة لم يكن يرى في المعارضة سوى تهديدٍ لوجوده، وكان يعتبر أي احتجاجٍ هو بوابة للفوضى. وكانت الدولة تدار بمنطق القبضة الأمنية، حيث لا مجال للاعتراف بالفشل الاقتصادي أو تحميل المسؤولية لأي جهة من داخل النظام. بدل ذلك، تم تصوير الأزمة وكأنها نتيجة "مؤامرة" تحركها قوى أجنبية عبر وكلاء محليين، وهو خطابٌ كلاسيكي لطالما لجأت إليه الأنظمة الاستبدادية حين تُفلس سياساتها.

لكن ما لا يُقال كثيرًا هو أن "ثورة الكوميرة" كانت لحظة وعي جمعي. ورغم القمع، فإنها شكّلت علامة فارقة في تاريخ الاحتجاج الاجتماعي بالمغرب. كشفت أن للطبقات الشعبية صوتًا حين يُجبر على الكلام، وأن كلفة إسكات الفقراء أكبر بكثير من كلفة الاستماع إليهم. كما أنها عرّت ضعف الدولة في تدبير الأزمات الاجتماعية، وأثبتت أن التنمية لا يمكن أن تُبنى على حساب كرامة الإنسان، وأن فرض "الإصلاحات" من فوق لا بد أن يُواجه في لحظة ما بالغضب من الأسفل.

واليوم، وبعد أكثر من أربعين سنة، يبدو المشهد وكأنه يعيد إنتاج نفسه في صورٍ جديدة. أسعار المواد الأساسية ما تزال ترتفع بصمت، والدعم الاجتماعي يتحوّل تدريجيا إلى شعارات، والهوة بين الأغنياء والفقراء تتسع، بينما تُجمّل التقارير الرسمية الأرقام لتخفي الواقع البائس. الفارق الوحيد أن الشارع صار أكثر خوفًا، وأن القمع اتخذ أشكالًا أكثر نعومة، من التجريم القانوني إلى الضغط الاقتصادي والرقابة الإعلامية.

ومع ذلك، فإن "ثورة الكوميرة" لم تنته. لا تزال تسكن ذاكرة المغاربة كجرحٍ مفتوح، كدرسٍ قاسٍ، وكحكاية عن زمنٍ وقف فيه الشعب يصرخ مطالبًا برغيفٍ وكرامة، فقوبل بالرصاص. التاريخ لا يُمحى، والخبز حين يغيب لا يُعوّضه الكلام.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إيران بين الضربة والصفقة: من يرسم حدود الشرق القادم؟
- بوجلود بين الذاكرة والتشويه
- مديونية المغرب: حين يتحوّل الدين إلى أسلوب حياة
- بين رصاص الحدود وظلال الوطن: مأساة العودة في قلب التوتر المغ ...
- مقبرة الصمت: لماذا تخشى الأمم المريضة أصوات المهرطقين؟
- من سيقود المغرب؟ سباق الأحزاب نحو حكومة ما بعد الإحباط
- ابن كيران: سياسة -الزواق- بخطاب -بلا نفاق-
- سبعة دراهم لفنجان قهوة... والقدرة الشرائية في غرفة الإنعاش
- الضباع تلتهم قيمنا
- سردٌ يُنصت لصوت الإنسان العربي بين جذور الماضي وتقلبات الحاض ...
- -شيء من بعيد نادني-: بين الهويّة المتجددة والاغتراب الوجودي
- -متتالية حياة-: نشيد الصبر في زمن الانكسارات الصغيرة
- حكايات الهدوء النبيل في زمن الاضطراب: تأملات الناصر التومي ف ...
- -الوقوف على عتبات الأمس-: كتابة ضد النسيان في زمن القطيعة
- -المتشابهون-: احتجاج ناعم على صمت الأجيال
- قراءة في -عيد ميلاد ميت- لأحمد طايل: حين يتحوّل الموت إلى طق ...
- حين يرقص التعليم على جراحه
- الوطن ككابوس وحلم: تأملات في تناقضات الرواية المغربية «الوطن ...
- حين انفجرت الدار البيضاء... واهتزّ قلب الوطن
- -الطلياني: عندما يصبح العقل آخر ملاذ للبقاء- ـ قراءة نقدية و ...


المزيد.....




- حكومة الحيتان تحاصر المستأجرين لتمرير قانون الطرد بالقوة
- هل يحلق صائد الطائرات الصيني في سماوات إيران قريبا؟
- مقالات الاخبار..اراء فيما حصل وما يحدث، كتاب جديد للدكتور كا ...
- مشاركة الرفيق جمال براجع الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي ...
- بيان مشترك من منظمات مستقلة في إيران: معارضة للحرب وللسياسات ...
- تنسيقية الهيئات الغابوية تحذر بشدة من التماطل أو التراجع عن ...
- نداء حزب التقدم والاشتراكية للمشاركة المكثفة في المسيرة الشع ...
- فرنسا تؤجل قرار الإفراج عن اللبناني جورج عبد الله أقدم سجين ...
- بعد أربعة عقود في السجن... محكمة باريس تحسم مصير جورج عبد ال ...
- بالعاصمة بيكين: نبيل بنعبد الله يلتقي مسؤولين رفيعي المستوى ...


المزيد.....

- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - الشهبي أحمد - ثورة الكوميرة: حين صرخ الفقراء فدوّى الرصاص