أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الشهبي أحمد - مقبرة الصمت: لماذا تخشى الأمم المريضة أصوات المهرطقين؟














المزيد.....

مقبرة الصمت: لماذا تخشى الأمم المريضة أصوات المهرطقين؟


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 00:50
المحور: قضايا ثقافية
    


المعرفة الحقيقية تمرّدٌ على اليقين البائد، وكل فكرة حية تولد من رحم الاختلاف. حين تستسلم المجتمعات لإغراء الوحدة الفكرية، يصبح العقل الجمعي آلةً بكماءَ تردد صدى مقولاتٍ جاهزة، وتتوحش في مطاردة كل صوتٍ شاذٍّ كشبحٍ في الليل. ليس ثمة خطرٌ على مصير الأمم أعظم من تحوّل الفكر إلى مرآةٍ تعكس ذاتها، ومن انكماش الرأي في قفص الإجماع القسري. فذلك "الاتفاق الوطني" اللامع ظاهرياً ليس سوى قشرة هشّة تخفي تحتها تكلّس الروح وجمود العقل.

هذا التوحيد المصطنع للوعي ليس وعياً مشتركاً، بل هو موتٌ مشتركٌ للذات المفكرة. ما ترفعه تلك المجتمعات شعاراً باسم "الإجماع" هو في جوهره فوبيا من السؤال، وهوسٌ بالانضباط الأعمى، وإدمانٌ مرضيٌ على صمت الأمان، هرباً من المجازفة الخلاقة التي يحملها الحوار الحرّ. المشكلة ليست في تقارب القيم، بل في فرض نسقٍ فكريٍ واحدٍ، حيث يصبح الحيادُ جريمةً والتساؤلُ هرطقةً والاختلافُ داءً يستوجب العزل. عندها تتحول الثقافة إلى مراسيم بيروقراطية، ويُختزل المثقف إلى مجرد بوقٍ يُعلن ما تمليه الجماعة، لا ما تمليه ضمائرٌ حية.

في المجتمعات الحية، لا يُحجر على الفكر في قداسة نمطٍ واحد، ولا يُتهم المفكّر بالخيانة لمجرد اجتراحه مساراً مختلفاً. تتعايش الأضداد علانيةً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار دون أن تنهار البنى، لأنهم يدركون أن تعدد الألحان هو ما يعطي السيمفونية بهاءها. لا يخشون "المهرطق"، بل يخشون انقراضه. لا يسجنون الكاتبَ الذي يهشم الطابوهات، لأن الحقيقة – في نهاية المطاف – تُبنى من لبنات الشك، لا من طين الطاعة العمياء.

بالمقابل، ما زال الفكر العربي يرزح تحت طغيان "ورقة الإجابة الموحدة". فضاءٌ يُشبه قاعة امتحانٍ كبرى، يُطالب الجميع فيها بنسخ الجواب نفسه كشرطٍ للنجاة. السياسة تستند إلى الولاء لا الحجة، والدين يُحاصَر بأسوارٍ لغويةٍ ومذهبيةٍ تخنق التجديد باسم الحفظ، والتعليم يكرّس استنساخ الأفكار لا تفكيكها. حتى الحبّ يُختزل إلى تعليماتٍ أخلاقيةٍ جافة.

وحين يتجرأ صوتٌ على كسر هذا القالب، يُشرَّع عليه رصيف التهم الجاهزة، وتُطلق عليه لعنات النبذ، وتُهدم جسور الاعتراف به. الأنظمة المستبدة لا تحتاج دائماً إلى سجونٍ مادية، يكفيها أن تُقدّس نموذجاً فكرياً واحداً، فتتولى الجموع بنفسها إعدام كلّ من يخرج عنه إعداماً رمزياً.

هذه الوحدة القاتلة لا تقتل الإبداع وحده، بل تقتل مقومات البقاء ذاته. في عصرٍ تتبدّل حقائقه بسرعة البرق، لم تعد القوة الضاربة ضمانةً للنجاة، بل القدرة على إعادة تشكيل الأسئلة. الأمة التي تحبس تفكيرها داخل حدودٍ مرسومةٍ سلفاً، تسير – بصرف النظر عن ضجيج المصفقين – نحو انقراضٍ بطيءٍ محتوم.

الاختلاف ليس ترفاً، بل هو اللقاح الوجودي ضدّ التفسخ الداخلي. الأمم لا تموت حين تخسر معاركها، بل حين تتوقف عن استنطاق الوجود. فإذا أبصرت مجتمعاً يتباهى بإجماع أبنائه على رأيٍ واحد، فاعلم أنك تقف أمام مقبرةٍ صامتةٍ، تُوارى فيها نبضاتُ العقل تحت تراب الامتثال.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من سيقود المغرب؟ سباق الأحزاب نحو حكومة ما بعد الإحباط
- ابن كيران: سياسة -الزواق- بخطاب -بلا نفاق-
- سبعة دراهم لفنجان قهوة... والقدرة الشرائية في غرفة الإنعاش
- الضباع تلتهم قيمنا
- سردٌ يُنصت لصوت الإنسان العربي بين جذور الماضي وتقلبات الحاض ...
- -شيء من بعيد نادني-: بين الهويّة المتجددة والاغتراب الوجودي
- -متتالية حياة-: نشيد الصبر في زمن الانكسارات الصغيرة
- حكايات الهدوء النبيل في زمن الاضطراب: تأملات الناصر التومي ف ...
- -الوقوف على عتبات الأمس-: كتابة ضد النسيان في زمن القطيعة
- -المتشابهون-: احتجاج ناعم على صمت الأجيال
- قراءة في -عيد ميلاد ميت- لأحمد طايل: حين يتحوّل الموت إلى طق ...
- حين يرقص التعليم على جراحه
- الوطن ككابوس وحلم: تأملات في تناقضات الرواية المغربية «الوطن ...
- حين انفجرت الدار البيضاء... واهتزّ قلب الوطن
- -الطلياني: عندما يصبح العقل آخر ملاذ للبقاء- ـ قراءة نقدية و ...
- الأستاذ... من القسم إلى تيك توك
- حين تُطل الحرب من نافذة كشمير: العالم على حافة الزر النووي
- الكيان الصهيوني: مشروع اغتصاب لا وطن
- الجابري... عقل لا يُنسى
- في حضرة صاحبة الجلالة


المزيد.....




- دخل منطقة محظورة.. سائق توصيل طلبات ينتهي به المطاف على مدرج ...
- -تصميم- فرنسي على الاعتراف بدولة فلسطينية... وشكوى ضدّ إسرائ ...
- الشركات الأمريكية تتمسك بالصين رغم الرسوم الجمركية المرتفعة ...
- بنعبد الله يستقبل وفدا عن عن الجمعية المغربية لحماية المال ا ...
- مودي يفتتح أعلى جسر سكة حديد في العالم يربط كشمير بباقي الأر ...
- لحظة رعب في السماء.. طفلان ينجوان بأعجوبة من قلعة مطاطية طائ ...
- ترامب: وفد أمريكي يجري في لندن يوم 9 يونيو مفاوضات تجارية مع ...
- -إنجاز طبي في مكة-.. استخدام روبوت في عملية جراحية دقيقة بال ...
- رغم شهداء المساعدات.. واشنطن تدعو العالم لدعم -مؤسسة غزة الإ ...
- الى الامام العدد 248


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الشهبي أحمد - مقبرة الصمت: لماذا تخشى الأمم المريضة أصوات المهرطقين؟