أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - الشهبي أحمد - -الطلياني: عندما يصبح العقل آخر ملاذ للبقاء- ـ قراءة نقدية وتحليلية لـرواية الطاليني















المزيد.....

-الطلياني: عندما يصبح العقل آخر ملاذ للبقاء- ـ قراءة نقدية وتحليلية لـرواية الطاليني


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8336 - 2025 / 5 / 8 - 16:19
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


يقول شكري المبخوت في رواية الطلياني "ما أنقذني من الانهيّار هو شخص آخر بداخلي، ليس ضميراً، ولا نفسا لوّامة، شخص من عقل خالص، بارد، لا مشاعر له ولا أحاسيس، قاطع كالسيف، إنه بوصلتي، حين تختلط السُّبل، لولاه لوصلت إلى الانحراف الخالص والإجرام المجاني، أو لتلاشيت وانتحرت.”

ما أنقذني من الانهيار هو شخص آخر بداخلي... في هذه العبارة يتكثف البعد الفلسفي العميق لرواية الطلياني. إن شكري المبخوت لا يقدّم في هذه الرواية مجرد قصة شخصية، بل يطرح عبر شخصية عبد الناصر إشكالية الإنسان المعاصر في العالم العربي، الإنسان الذي يجد نفسه موزعًا بين القوى المتصارعة التي تتجاوز وجوده الفردي: الدولة، الحزب، الدين، الجنس، والهوية. وفي خضم هذه التيارات، لا يعود الخلاص ممكنًا عبر ما هو مشترك أو جماعي، بل يتحوّل النجاة إلى تجربة فردية، ذاتية، محفوفة بالبرود والعقلانية الحدّية.

"شخص من عقل خالص، بارد، لا مشاعر له ولا أحاسيس"... هذه العبارة ليست مجرد اعتراف لحظة انهيار، بل هي تشريح دقيق لبنية البطل الذي يمثّل نموذجًا لإنسان ما بعد الأيديولوجيا. لقد سقطت الخطابات الكبرى، وتعرّت المشاريع السياسية من قدرتها على الإقناع أو الفعل، ليبقى الإنسان عاريًا، في مواجهة ذاته، بدون دروع. الإنسان الذي لم يعد يثق في الخطابات، ولا في المبادئ، ولا في العقائد، بل بات يتكئ فقط على جزء داخلي منه، غير أخلاقي، غير عاطفي، لكنه وظيفي: بوصلته الأخيرة.

الرواية بهذا المعنى تتحرك في مدار فلسفي نيتشوي، حيث لا خلاص من الانهيار القيمي إلا بالتحول الجذري داخل الذات. لكن هذا التحول لا يقود إلى النبل، بل إلى التماسك، لا إلى الانبعاث، بل إلى النجاة. عبد الناصر لا يسعى ليكون خيرًا، بل ليبقى على قيد الحياة النفسية وسط دوامة من الانهيارات: انهيار الأب، انهيار الحزب، انهيار العلاقة العاطفية، انهيار الدولة.

تُجسد الرواية، دون أن تعلن ذلك صراحة، قلق ما بعد الحداثة، حيث تتفكك الهويات الكبرى لصالح السرديات الذاتية. فشخصية عبد الناصر لا تهمّ القارئ لأنه بطل، بل لأنه كائن رمادي، لا ينتمي إلى الخير المطلق ولا إلى الشر المطلق، بل إلى تلك المنطقة الرمادية التي يعيش فيها أغلب الأفراد في واقع عربي مرتبك.

إن انخراط الطلياني في العمل السياسي ثم انسحابه منه، لا يقرأ فقط كمسار شخصي، بل كرمز لانهيار المشروع اليساري العربي في مواجهة السلطة من جهة، والإسلام السياسي من جهة ثانية. وبين القمع والرجعية، يجد عبد الناصر نفسه في فراغ إيديولوجي قاتل، لا يُملأ إلا بالذات، ولكن أي ذات؟ ذات باردة، متماسكة، مشروخة من الداخل، لكنها تُحسن الوقوف في وجه الريح.

في العمق، لا تحاكم الرواية شخصياتها، بل تضعها في مواجهة الذات والزمن. الأب السلطوي، الحبيبة المتحرّرة، الأخ المتديّن، الرفاق المتنكرون، كلهم ليسوا إلا انعكاسات متعددة لأزمنة تونس التي تتنازعها التقاليد والحداثة، والهوية والاستلاب. وعبد الناصر، في قلب هذا الكل، لا ينقذه إلا اللاشعور المُنظّم، ذلك "الشخص الآخر"، الذي يُشبه في تركيبه البُعد الفرويدي لما يُعرف بالأنا الأعلى، لكنه هنا بلا أخلاق، فقط عقل بارد يدير الأزمات.

ما كتبه المبخوت في الطلياني ليس فقط رواية عن تونس الثمانينات، بل وثيقة نفسية/اجتماعية عن الإنسان العربي حين يتخلى عن الأجوبة الجاهزة، ليواجه الأسئلة الأكثر رعبًا: من أنا، عندما تنهار كل المعتقدات من حولي؟ ومن في داخلي يمكنه أن ينقذني من السقوط الكامل؟

الرواية بهذا الوجه الفلسفي تصير أكثر من مجرد سرد، إنها مساءلة للمعنى، للانتماء، وللقدرة على النجاة الفردية وسط حطام جماعي. الطلياني ليس بطلًا، بل هو سؤال حيّ، معلّق، لا يسعى للانتصار بقدر ما يحاول ألّا يُمحى.

عندما نعود إلى الشخصية الرئيسية في الطلياني، عبد الناصر الطلياني، نلاحظ أنه ليس فقط في مواجهة مع نفسه، بل مع أسئلة أعمق تتعلق بالهوية، بالجنس، وبالسلطة. من هنا، تصبح الرواية بحثًا في صراع الإنسان مع هذه القوى المجهولة التي تحدد مصيره في ظل الانقسام الاجتماعي والسياسي. فبينما يعتقد البعض أن اليسار هو الحل، أو أن العودة إلى الدين قد تضمن خلاصًا، يكشف لنا المبخوت عن حقيقة مرة: لا الحلول الكبرى يمكن أن تُحيي الفقدان، ولا العودة إلى الماضي يمكن أن تخلّص من حالة الضياع.

الهوية في الطلياني ليست ثابتة أو واضحة، بل هي سائلة ومتذبذبة، مثل شخصية عبد الناصر الذي لا يعرف مكانه في الزمن ولا في الفضاء. هو ليس يساريًا بالكامل ولا يمينيًا، وليس مسلمًا متشددًا ولا علمانيًا جذريًا. يجسد في ذاته تعبيرًا حيًا عن أزمة الهوية التي يعاني منها الجيل الذي نبت في مناخ سياسي يشوبه الفوضى، عدم الثقة، والفقدان المستمر لمعنى "الإنتماء". إن عبد الناصر لا يسعى لتحديد هويته بشكل قاطع، بل يتأرجح بين هذه الهويات التي تكون في كثير من الأحيان مُثقلة بالماضي والمثالية، وبين الحاجة المتزايدة للتموضع في لحظة معاصرة ومفتوحة.

أما في ما يتعلق بالجنس، في الطلياني، لا يعد الجنس مجرد فعل جسدي، بل هو أحد الأبعاد التي تستعيرها الرواية لتحليل الطبيعة الإنسانية في زمن متقلب. فالجسد في الرواية ليس فقط وعاءً لاحتياجات حيوانية أو رغبات عابرة، بل هو ساحة للتجارب والنزاعات. عبد الناصر لا يهرب إلى الجسد ليجد لذته، بل ليحاول الهروب من نفسه، من أزماته، من التاريخ الذي يلاحقه. تُمثل علاقاته الجنسية في الرواية تجارب مع الانفصال: انفصال عن العاطفة، انفصال عن الذات، وانفصال عن العالم الذي كان يظن أن فيه معنى.

أما السلطة، فهي تمثل الورم المستمر في جسد الرواية، الجسدية التي تحكمها قوى اجتماعية وإيديولوجية ودينية. في البداية، نجد أن الطلياني كان جزءًا من حركة يسارية، ثم سرعان ما تراجعت هذه الحركة إلى مشهد بائس من التشظي والانقسام. في هذا السياق، لا تعود السلطة هنا سلطة الدولة فحسب، بل تصبح السلطة شكلاً من أشكال التسلط النفسي والتاريخي الذي يمتد من الأب إلى المجتمع. وفي هذا المعترك، لا ينجو عبد الناصر إلا بعقله البارد، بالمسافة التي يفرضها على كل من حوله، مسافة تحميه من الانغماس الكامل في الصراع، لكن دون أن تحميه من الشعور بالاغتراب التام.

في النهاية، الطلياني ليست فقط رواية عن الشاب الذي ينقلب على حلمه الثوري، بل هي صورة شاملة لواقع عربي معقد، غير مستقر، يعكس تَقلُّب الأيديولوجيات والأنماط الفكرية والاجتماعية. هي رواية عن الإنسان الذي يضيع بين الثوابت والشكوك، بين ما كان عليه وما يجب أن يكون عليه. وفي قلب هذا الوجود المتذبذب، يظهر شخص آخر داخل كل واحد منا، عقل بارد وعقلاني، يقودنا في لحظات العجز واليأس، لا لأننا نريد البقاء في الواقع، بل لأننا نحاول أن ننجو من الذات التي تخوننا في لحظات الحافة.

إذا كان عبد الناصر الطلياني هو رمز الإنسان العربي الممزق، فهو في نفس الوقت رمز لكل شخص يبحث عن نقطة ثابتة وسط العاصفة، حتى لو كانت هذه النقطة هي العقل الخالي من العواطف، الذي لا يرحم ولا يترحم.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأستاذ... من القسم إلى تيك توك
- حين تُطل الحرب من نافذة كشمير: العالم على حافة الزر النووي
- الكيان الصهيوني: مشروع اغتصاب لا وطن
- الجابري... عقل لا يُنسى
- في حضرة صاحبة الجلالة
- شكراً بنكيران… لقد بلغت من الشعب مبلغ الميكروبات
- طنجة: مرآة الروح المكسورة - قراءة نقدية وتحليلية لرواية -الس ...
- ربة البيت: عاملة بلا أجر في وطن لا يعترف بها
- العيد الذي لا يخص أحدً
- مفقوص على الأساتذة؟ ليتك وقفت معهم بدل أن -تتألم-
- نقابتنا العزيزة... رفيقة درب الأتراك
- ملتحٍ؟ إذن أنت مشتبه فيه
- حين يُمسك التراب بالذاكرة: قراءة في وجع الإنسان وهشاشة المصي ...
- حَفْرُ الذاكرة في جدار الصمت: تزمامارت وتشريحُ الإنسانيّ عبر ...
- تشريح الصمت: قراءة نقدية وتحليلية لرواية المريضة الصامتة
- معرض الكتاب... جنازة ثقافية بكاميرات عالية الجودة
- حين تكشف الرقمنة المستور: الأمن السيبراني في عطلة مدفوعة الأ ...
- من أسامة مسلم إلى أحمد آل حمدان: حين يكتب التيك توك الرواية
- من التوقيف الى التصفيق
- الدعم… وقسمة الحظ


المزيد.....




- إسرائيل توجه تهديدا شديد اللهجة لإيران بعد قصفها لمطار صنعاء ...
- الرئيس الصيني يصل إلى روسيا للاحتفال بالذكرى الثمانين للانتص ...
- حصار مطبق وأعمال عدائية قاتلة.. شعب غزة يموت
- الجلوس المطول.. كيف يؤثر على صحة القلب وجودة الحياة؟
- السودان: قوات الدعم السريع تكثّف استخدام المسيرات ضد مناطق ا ...
- رئيس -شين فين- الأيرلندي يطالب بحظر الأسلحة وعقوبات شاملة عل ...
- الهند وباكستان تتبادلان الاتهامات والتحذيرات والرغبة بخفض ال ...
- وزير الدفاع الباكستاني للجزيرة نت: سنرد على الهند بالطريقة ن ...
- مُقتحم بوابة منزل جينيفر أنيستون يواجه تهمتي المطاردة والتخر ...
- -تحطمت بالكامل-.. سيارة تصطدم بمنزل أسفل الطريق وشاهدة تروي ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - الشهبي أحمد - -الطلياني: عندما يصبح العقل آخر ملاذ للبقاء- ـ قراءة نقدية وتحليلية لـرواية الطاليني