أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - الشهبي أحمد - طنجة: مرآة الروح المكسورة - قراءة نقدية وتحليلية لرواية -السوق الداخلي- لمحمد شكري















المزيد.....

طنجة: مرآة الروح المكسورة - قراءة نقدية وتحليلية لرواية -السوق الداخلي- لمحمد شكري


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8330 - 2025 / 5 / 2 - 07:36
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في زحمة الحياة اليومية في المغرب، تظل طنجة، المدينة التي طالما ارتبطت في الخيال المغربي والعالمي بعوالم الحلم والانفتاح، شاهدة على تناقضات الزمن وتغيراته. بين الأزقة الضيقة والواجهات المشوهة، يكشف الأدب المغربي عن قلب المدينة الذي ينبض بالانتظار، والفقد، والتشظي. وفي رواية "السوق الداخلي" لمحمد شكري، تتخذ طنجة شكلًا آخر، بعيدًا عن أساطير الحرية والانفتاح، إذ تتحول إلى سجن نفسي يعكس الروح المكسورة للشخصيات. من خلال عيون علي التمسماني، يقدّم لنا شكري صورة عن مدينة ضاعت فيها الأحلام، وأصبح الفضاء العام ساحة لمعارك صامتة بين الفرد وواقعه المرهق.

يقول محمد شكري في رواية " السوق الداخلي"

"دخلت طنجة وكأنها سجن، وخرجت منها وكأنني في حلم. المدينة التي كنت أظنها مرآة لعالمي المفقود، تحولت إلى كابوس أسير فيه دون مخرج. كنت أبحث عن نفسي وسط زحام لا ينتهي، عن أمل وسط وجوه متعبة، وعن حياة وسط بقايا حياة."

في "السوق الداخلي"، يقدم محمد شكري أكثر من مجرد رواية؛ إنه ينسج ملحمة أدبية تتجاوز حدود السرد التقليدي ليغوص في أعماق الروح المغربية، تلك الروح الممزقة بين أحلام التحرر وأغلال الواقع القاسي. طنجة، المدينة التي لطالما ارتبط اسمها بالانفتاح والحرية في الخيال الجمعي، تتحول تحت يد شكري إلى مسرح مأساوي، مساحة تتشابك فيها الأحلام مع الكوابيس، والأمل مع اليأس. ليست طنجة هنا مجرد خلفية جغرافية تؤطر الأحداث، بل هي كيان حي، شخصية مركزية تتنفس وتتفاعل، تحرك خيوط الرواية وتتشكل من خلالها، كما لو كانت شبحًا يطارد أبطالها في كل زقاق وكل ركن من أركانها المعتمة.

من خلال عيني علي التمسماني، البطل الذي يحمل في صدره أحلامًا بسيطة كتلك التي يحلم بها أي إنسان عادي، نرى طنجة تتكشف كمرآة مكسورة، تعكس لنا ليس فقط ملامح المدينة، بل تناقضات المجتمع المغربي في مرحلة ما بعد الاستقلال. علي، الذي يصل إلى المدينة هاربًا من روتين حياة رتيبة ومكررة، يتوقع أن يجد في طنجة ملاذًا، فضاءً يحتضن طموحاته ويعيد إليه إحساسًا بالانتماء. لكن ما يجده هو عكس ذلك تمامًا: مدينة تبتلع أحلامه ببطء، تحولها إلى أطلال، وتحاصره بجدران من الفقر والاغتراب. هذا التحول من الحلم إلى الكابوس ليس مجرد صراع خارجي بين الشخصية ومحيطها، بل هو انعكاس لمعركة داخلية عميقة، صراع مع الذات التي تبحث عن معنى في عالم يفتقر إلى المعاني.

شكري، ببراعة الكاتب الذي يتقن فن الواقعية العارية، يرسم علي كشخصية تجسد الإنسان المغربي العادي، ذلك الذي يحمل في قلبه آمالاً متواضعة، لكنه يجد نفسه في مواجهة واقع لا يرحم. هذا الواقع لا يقتصر على طنجة كمكان، بل يمتد ليصبح رمزًا للتحولات الاجتماعية والثقافية التي عصفت بالمغرب في تلك الحقبة. المدينة التي كان يراها علي مرآة لعالمه المفقود – ذلك العالم الذي ربما لم يكن موجودًا سوى في خياله – تتحول إلى سجن نفسي ومادي يحاصره من كل جانب. هنا تكمن المفارقة العميقة التي تقدمها الرواية: بين الصورة المثالية التي يحملها الفرد عن نفسه وعن مكانه في العالم، وبين الواقع الذي يصطدم به، واقع يجرده من أحلامه ويتركه عاريًا أمام وحشة الوجود.

أسلوب شكري في "السوق الداخلي" يحمل نكهة الواقعية القاسية التي اشتهر بها، حيث يتفنن في تقديم التفاصيل اليومية بكل صدقها وخشونتها. نراه يصف الشوارع المزدحمة، الوجوه المنهكة، الأصوات المكتومة، والروائح التي تملأ الأجواء، كأنه يدعو القارئ ليعيش التجربة بكل حواسه. لكنه لا يكتفي بهذا السرد الواقعي البارد؛ فهو يحقن نصه بلمسات إنسانية تجعلنا نشعر بألم الشخصيات ونتقاسم وحدتهم. كل شخصية في الرواية، من علي إلى الأشخاص الثانويين الذين يتقاطعون معه، تحمل قصة خاصة، لكنها في النهاية تنضم إلى السرد الجماعي لمدينة تئن تحت وطأة الفقر والتهميش. هذا الاهتمام بالتفاصيل الإنسانية يجعل الرواية ليست مجرد وثيقة اجتماعية، بل عملًا فنيًا يطرح أسئلة وجودية عن معنى الحياة في فضاء يبدو خاليًا من الأمل.

طنجة، كما يراها شكري، ليست مجرد مدينة جغرافية يمكن تحديدها على الخريطة، بل هي رمز للذاكرة الجماعية المغربية، ذاكرة مثقلة بالهجرة والتهجير، بالفقر والأزمات النفسية والاقتصادية. كل زقاق في المدينة يحمل حكاية، وكل منزل يخفي خلف جدرانه أنينًا صامتًا. الشخصيات في الرواية، بما فيهم علي، ليست مجرد أفراد يعيشون تجاربهم الخاصة، بل هم ممثلون لفئات اجتماعية عاشت على هامش التاريخ، تحاول أن تجد لنفسها موطئ قدم في عالم يرفض احتضانها. هذا التصوير الدقيق للشخصيات والمكان يمنح الرواية عمقًا يتجاوز السطح، ليضع القارئ أمام مرآة تعكس ليس فقط واقع طنجة، بل واقع الإنسان المعاصر في كل مكان.

ومع ذلك، فإن "السوق الداخلي" ليست مجرد لوحة سوداوية تتغنى باليأس. رغم الظلام الذي يخيم على النص، هناك شرارة مقاومة صامتة تتسلل عبر الشقوق، تجسدها محاولات الشخصيات للتشبث بأي خيط من الأمل، أو على الأقل بمعنى ما وسط الفراغ. علي، على سبيل المثال، لا يستسلم تمامًا؛ فهو يواصل البحث عن ذاته، حتى وإن كان هذا البحث محكومًا بالفشل. هذا التحدي الصامت الذي يواجهه الأفراد في الرواية يعكس روحًا مغربية عصية على الانكسار، روحًا تحاول التكيف مع واقعها رغم كل التناقضات. هنا يبرز شكري ككاتب لا يكتفي بتوثيق المعاناة، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ليطرح تساؤلات عن قدرة الإنسان على الصمود في وجه الانهيار.

في النهاية، تبقى طنجة في "السوق الداخلي" لغزًا مفتوحًا، مدينة لم تنتهِ من سرد قصتها بعد. إنها ليست مجرد مكان يمكن مغادرته أو نسيانه، بل فضاء يترك أثره في القارئ، يعلق في ذهنه كصورة متشظية تجمع بين الجمال والقبح، بين الحلم والكابوس. شكري، من خلال هذا العمل، لا يقدم إجابات نهائية، بل يتركنا مع أسئلة مفتوحة: ما الذي يبقى للإنسان حين تتحطم مراياه؟ وكيف يمكن للمدينة أن تكون في الوقت ذاته ملاذًا وسجنًا؟ "السوق الداخلي"، بكل ما تحمله من تناقضات وعمق، تظل شاهداً أدبياً على مرحلة من تاريخ المغرب، وعلى صراع الإنسان الأبدي مع ذاته ومع العالم من حوله.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ربة البيت: عاملة بلا أجر في وطن لا يعترف بها
- العيد الذي لا يخص أحدً
- مفقوص على الأساتذة؟ ليتك وقفت معهم بدل أن -تتألم-
- نقابتنا العزيزة... رفيقة درب الأتراك
- ملتحٍ؟ إذن أنت مشتبه فيه
- حين يُمسك التراب بالذاكرة: قراءة في وجع الإنسان وهشاشة المصي ...
- حَفْرُ الذاكرة في جدار الصمت: تزمامارت وتشريحُ الإنسانيّ عبر ...
- تشريح الصمت: قراءة نقدية وتحليلية لرواية المريضة الصامتة
- معرض الكتاب... جنازة ثقافية بكاميرات عالية الجودة
- حين تكشف الرقمنة المستور: الأمن السيبراني في عطلة مدفوعة الأ ...
- من أسامة مسلم إلى أحمد آل حمدان: حين يكتب التيك توك الرواية
- من التوقيف الى التصفيق
- الدعم… وقسمة الحظ
- موسم الانتخابات… نُمنح الحق في الحلم من جديد
- الخوف.. البضاعة التي لا تبور
- بين المساواة والنفقة… تضيع العدالة
- رحلة في الطوبيس: من الكرامة إلى الزحام
- المغرب يقود طريق السلام في الصحراء: رؤية تنموية تكشف زيف شعا ...
- خاتم من ورق وقفطان للذِّكرى… العُرس تأجيلٌ جماعي
- المجتمع الذي يربّي بسكين


المزيد.....




- لأول مرة.. لبنان يحذر -حماس- من استخدام أراضيه لشن هجمات على ...
- انتشار قوات الأمن السورية في جرمانا بعد اتفاق مع وجهاء الدرو ...
- الجيش الأمريكي يتجه لتحديث أسلحته لأول مرة منذ الحرب الباردة ...
- العراق.. هروب نزلاء من سجن الحلة الإصلاحي في محافظة بابل وال ...
- مشروبات طبيعية تقلل التوتر والقلق
- هل تقبل إيران بإدمان استيراد اليورانيوم؟
- وقوع زلزال بقوة 7,5 درجة قبالة سواحل تشيلي وتحذير من تسونامي ...
- المجلس الأعلى للدفاع في لبنان يحذر حماس من تنفيذ -أعمال تمس ...
- غارة إسرائيلية على منطقة مجاورة للقصر الرئاسي بدمشق.. ما الذ ...
- من السجن إلى المنفى : قصة صحفية مصرية ناضلت من أجل الحرية


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - الشهبي أحمد - طنجة: مرآة الروح المكسورة - قراءة نقدية وتحليلية لرواية -السوق الداخلي- لمحمد شكري