الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 14:52
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
رواية "شيء من بعيد نادني" لأحمد طايل ليست مجرد سرد لحكاية تقليدية عن اللقاء بين ثقافتين، بل هي رحلة فلسفية عميقة تبحث في أصول الهوية وأشكال الانتماء، وتستعرض بوعي دقيق صراع الذات مع التنوع الثقافي والاغتراب النفسي. في هذا العمل، يُقدّم طايل شخصياته كأيقونات تائهة بين عوالم مختلفة، تتصارع فيها القيم والتقاليد مع الرغبة في التجديد والتحرر، مما يجعل الرواية تمزج بين الحكاية الشخصية والبعد الاجتماعي والسياسي.
التحولات التي تطرأ على البطلة لويزا، من فتاة إنجليزية تتلقى نبوءة غريبة إلى امرأة تتبنى هوية جديدة، تعكس حالة الاغتراب الداخلي والخارجي التي يعيشها الإنسان المعاصر، خاصة في زمن العولمة والتهجين الثقافي. الرواية تستكشف كيف يمكن للانتماء أن يكون متعدد الأبعاد، غير مقيد بمكان أو جنس أو دين، بل هو تجربة متجددة يتداخل فيها الماضي بالحاضر، والواقع بالخيال.
أسلوب طايل السردي ينساب بسلاسة، لكنه في الوقت نفسه لا يتنازل عن عمق الرؤية. استخدامه للزمن غير الخطي يخلق حالة تشويقية وتعبيرية، إذ لا تتكشف الحكاية بترتيب تقليدي، بل كقطعة فسيفساء تنسجم عبرها أحداث ومشاعر من حقب وأماكن متباينة، مما يُعمّق شعور القارئ بالغموض والتوقع. وهذا البناء السردي يعكس كذلك تعقيدات الهوية التي لا يمكن اختزالها في سردية واحدة واضحة.
اللغة في الرواية رقيقة، تمتزج بين البساطة والتأمل، وهي لغة تستحضر التوتر الدائم بين الانتماء والتشظي، بين الحنين إلى الماضي والرغبة في المستقبل. طايل لا يمنح القارئ إجابات جاهزة، بل يدعوه إلى الانخراط في سؤال الذات المستمر: من أنا؟ وأين مكاني في هذا العالم المتغير؟ هذه الأسئلة تُطرح من خلال مشاهد تفاعلية مليئة بالرموز، تجعل من النص أكثر من مجرد سرد، بل فضاء للتأمل الفلسفي والإنساني.
كما أن المكان في الرواية ليس مجرد خلفية، بل شخصية فاعلة، تحمل دلالات رمزية وسياسية، فهي تنقل صراعات الهوية إلى فضاءات ملموسة، من ريف مصر إلى مدن الغرب، لتؤكد أن الإنسان لا ينجو من تاريخه ولا من محيطه، بل هو نتاجهما في الوقت نفسه. العلاقة بين الشخصيات والمكان تكشف عن توترات اجتماعية وثقافية أعمق، تجعل الرواية تتجاوز المستوى الفردي إلى نقاش أوسع عن الهوية والتعددية الثقافية.
في النهاية، "شيء من بعيد نادني" تقدم قراءة نقدية لعالم يتغير بسرعة، حيث تتداخل الثقافات وتتقاطع المصائر، فتطرح الرواية سؤال الانتماء كحالة دائمة من البحث والتشكك. هذا النص الروائي ليس مجرد قصة حب أو تحول، بل هو تأمل في مصير الإنسان الذي يحاول أن يجد ذاته في متاهات التاريخ والذاكرة والتنوع. أحمد طايل بهذا العمل يؤكد مرة أخرى على قدرته في تقديم سرد ذكي وحساس، يعكس قضايا معاصرة بأسلوب جمالي وإنساني لا يخلو من عمق فلسفي.
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟