أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - الشهبي أحمد - قراءة في -عيد ميلاد ميت- لأحمد طايل: حين يتحوّل الموت إلى طقس يومي














المزيد.....

قراءة في -عيد ميلاد ميت- لأحمد طايل: حين يتحوّل الموت إلى طقس يومي


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 04:53
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


حين وقع بين يديّ عمل بعنوان "عيد ميلاد ميت"، والذي نبهني إلى قراءته الكاتب جواد العوالي، اعتراني فضول غريب. العنوان وحده كفيل بأن يخلخل الطمأنينة الزائفة التي تسكن القارئ الكسول. لم يكن ذلك النوع من العناوين التي تسعى للاستفزاز الرخيص، بل هو عنوان يمسك بتلابيب الوجود ويطرحه على طاولة المساءلة: ما الذي يعنيه أن نحتفل بميلاد من رحل؟ وما الذي يبقى في الإنسان حين يموت، سوى صوته في ذاكرتنا؟

بهذا التوتر الأول، دخلت إلى الرواية لا كقارئ، بل كمتهم يبحث عن خيوط التهمة في دهاليز اللغة. وإذا بي أجدني أمام نص لا يعرض سردًا بقدر ما يفتح جرحًا. جرحًا ممتدًا بين الحياة والموت، بين القرية كجغرافيا والقرية كذاكرة، بين الإنسان ككائن يمشي على قدمين وبين الإنسان كحطام يتنفس بلا رغبة.

في قلب الريف المصري، يقف "الباشا" كشبح مهيب يُجسّد السلطة المتوارثة والهيبة المتآكلة، وتدور من حوله عجلة السرد في رواية عيد ميلاد ميت. ليس الباشا مجرد شخصية، بل مرآة تعكس انكسارات الأعراف القديمة وتفسخ القيم التي طالما شكّلت بنية العلاقات داخل القرية. وعبر هذا الكائن المتضخم بحكاياته وسلطته، يرسم أحمد طايل خريطة التحول المؤلم في نسيج المجتمع الريفي.

يمدّ الكاتب جسور السرد بين زمنين: زمن الآباء الذي يحاول أن يُمسك بالماء المتسرّب من بين أصابعه، وزمن الأبناء الذين يجدون أنفسهم في مواجهة ماضٍ يتقلّدهم كثقل لا يفهمونه تمامًا. في هذا السياق، يصبح الاحتفال بعيد ميلاد من رحل فعلًا عبثيًا بالغ الرمزية، يفتح الباب على مصراعيه لتأملات في معنى البقاء، وجدوى الحنين، ومرارة الخسارة. فـ"الميلاد" هنا ليس بداية، بل استدعاء ميتافيزيقي لزمن انقضى، ومحاولة يائسة لنفخ الروح في أطلال قيم اندثرت.

في "عيد ميلاد ميت" لا يُراد من القارئ أن يتعاطف، بل أن يتيقظ. الرواية لا تُغري، بل تُوقظ الغفلة. كل مشهد، كل تفصيلة، كل صمت، يُدَبّ بعناية في جسد الحكاية لتصنع نسيجًا هو أقرب إلى الكفن منه إلى السرد. ومع ذلك، لا تمارس الرواية أي شكل من أشكال الاستعطاف أو الرثاء. على العكس، فهي تمضي ببرودة جراحٍ مخضرم، تعرف كيف تفتح الجرح، لا لكي تُشفيه، بل لكي تفضحه.

لا تُبنى الرواية على حدث مركزي، بل على شعور مركزي: الحداد. وليس الحداد على ميت محدد، بل على زمن، على جيل، على مكانٍ فقد ذاته ولم يجد بديلاً سوى إعادة تمثيل جنازته مرارًا. الشخصيات في الرواية لا تعيش بقدر ما تُستهلك. تتحرك داخل النص كأشباح تعرف مصيرها، لكنها رغم ذلك تمارس طقوس الحياة اليومية كما لو كانت تُمثّل دورًا في مسرحية عبثية لا جمهور لها.

اللغة في هذا العمل ليست مجرد أداة نقل، بل هي كائن حيّ، يُفكر ويشعر ويقاوم. أحمد طايل لا يكتفي بالسرد، بل يُراوغ، يُباغت، يُشعل الجملة بما يشبه الشعور الخام. تأتي اللغة حافّة، كأنها على وشك السقوط، أو كأنها تتعمد ذلك لتجرّ القارئ معها إلى هوة النص العميقة. الجمل قصيرة، مشحونة، لا تترك للقارئ لحظة لالتقاط الأنفاس، كأنها تصفعه بذاكرته الخاصة كلما حاول أن يتنصل من تبعات الحكاية.

القرية، التي عادةً ما تُقدم في الأدب العربي كرمز للبراءة، للماضي الطفولي، تتحوّل هنا إلى مسرح جرائمي معلن. كل شيء فيها مألوف وخانق. العائلة، الجيران، المسجد، الحقول، المدرسة، كلها تمثل دائرة مغلقة من الضجر، من السقوط البطيء، من التواطؤ الجماعي مع النسيان. في هذه القرية، لا توجد جريمة صريحة، لأن الجريمة الأكبر هي العيش نفسه تحت سقف القيم المنهارة.

الزمن في الرواية متشظٍّ، لا يتبع خطًا تصاعديًا، بل يرتد، يتكرر، يتداخل، كما تتداخل الذكريات في ذهن من عاش طويلًا بين المآسي. وهذا التلاعب بالزمن لا يأتي كتقنية فنية باردة، بل كضرورة وجودية. فالماضي لا يُروى لأنه مضى، بل لأنه ما زال يحدث. والمستقبل لا يُنتظر لأنه لن يأتي. وحده الحاضر المستهلك، القاسي، هو ما يُعاد تدويره بشكل متواصل، كأننا أمام دورة موت مستمرة يُعاد فيها الاحتفال بالغياب بدلًا من الحضور.

ما يميز هذه الرواية أنها لا تدّعي شيئًا. لا تطلب من القارئ أن يُصدق، أو أن يتعاطف، أو أن يستمتع. بل تُلزمه بالمشاركة: المشاركة في الإحساس باللاجدوى، بالخذلان، بالانتماء إلى مكان لا يتسع للنجاة. أحمد طايل كاتب لا يهمه أن يعجبك ما كتبه، بل أن يُصيبك بما كتب. وهذا ما يجعل من "عيد ميلاد ميت" نصًا غير مريح، لكنه لا يُنسى.

وفي خضمّ كل ذلك، تبرز المفارقة الكبرى: أن هذه الرواية، بكل ما فيها من موت، ومن خيبات، ومن ظلال، هي في جوهرها إعلان ولادة. ولادة كاتب يرى، ويُسائل، ويكتب كما لو كان يحمل مرآة مكسورة لكل ما أردنا نسيانه. إنها ولادة نصّ يصرّ أن يسكن القارئ لا بصفته رواية، بل بصفته ندبة.

"عيد ميلاد ميت" ليست مجرد حكاية تُروى، إنها شهادة مكتوبة بحبر الوعي، موقعة بدم الحنين، ومختومة بختم السؤال الذي لا ينتهي: هل يمكن أن نحتفل حقًا، في زمنٍ لم يعد فيه للفرح موطئ قدم؟



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يرقص التعليم على جراحه
- الوطن ككابوس وحلم: تأملات في تناقضات الرواية المغربية «الوطن ...
- حين انفجرت الدار البيضاء... واهتزّ قلب الوطن
- -الطلياني: عندما يصبح العقل آخر ملاذ للبقاء- ـ قراءة نقدية و ...
- الأستاذ... من القسم إلى تيك توك
- حين تُطل الحرب من نافذة كشمير: العالم على حافة الزر النووي
- الكيان الصهيوني: مشروع اغتصاب لا وطن
- الجابري... عقل لا يُنسى
- في حضرة صاحبة الجلالة
- شكراً بنكيران… لقد بلغت من الشعب مبلغ الميكروبات
- طنجة: مرآة الروح المكسورة - قراءة نقدية وتحليلية لرواية -الس ...
- ربة البيت: عاملة بلا أجر في وطن لا يعترف بها
- العيد الذي لا يخص أحدً
- مفقوص على الأساتذة؟ ليتك وقفت معهم بدل أن -تتألم-
- نقابتنا العزيزة... رفيقة درب الأتراك
- ملتحٍ؟ إذن أنت مشتبه فيه
- حين يُمسك التراب بالذاكرة: قراءة في وجع الإنسان وهشاشة المصي ...
- حَفْرُ الذاكرة في جدار الصمت: تزمامارت وتشريحُ الإنسانيّ عبر ...
- تشريح الصمت: قراءة نقدية وتحليلية لرواية المريضة الصامتة
- معرض الكتاب... جنازة ثقافية بكاميرات عالية الجودة


المزيد.....




- كيف كلفت -زلة لسان- عن الأرز وزيرا يابانيا منصبه؟
- ما -كواليس- تحضير البيت الأبيض -كمين- ترامب لرئيس جنوب إفريق ...
- الولايات المتحدة تقبل طائرة بوينغ فاخرة هدية من قطر وتبدأ بت ...
- تضليل بالذكاء الاصطناعي.. الانتصارات الزائفة في حرب باكستان ...
- جولة خامسة من محادثات النووي بين إيران وأميركا الجمعة في روم ...
- بهية مارديني: لا خلافات أساسية بين موسكو ودمشق وتجربة بغداد ...
- Golden Children 789club – Hành tr?nh s?n vàng cùng c?c bet t ...
- صفارات الإنذار تدوي في وسط إسرائيل عقب رصد إطلاق صاروخ من ال ...
- المستشار الألماني يدعم تخصيص 5% من الناتج المحلي الإجمالي لل ...
- -تشات جي بي تي- يورط محامين في الولايات المتحدة


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - الشهبي أحمد - قراءة في -عيد ميلاد ميت- لأحمد طايل: حين يتحوّل الموت إلى طقس يومي