أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الشهبي أحمد - الضباع تلتهم قيمنا














المزيد.....

الضباع تلتهم قيمنا


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8362 - 2025 / 6 / 3 - 01:55
المحور: قضايا ثقافية
    


مشهدٌ يختزل زمناً بكامله: فناء ثانوية يتحول إلى حلبة مصارعة. مراهقٌ يزمجر في وجه حارسه كأنما يهدم سداً من التقاليد، سماعاته تتدلى كتحدٍّ، وجمهورٌ من زملائه يصفّق للانتهاك وكأنه بطولة. لم تكن ثورةَ غضبٍ عابرة، بل جرأةٌ جليدية تنم عن كائنٍ نشأ في ساحات القتال لا في رحاب التربية.

هذه اللوحة البشعة ليست سوى تجلٍّ وحيد لأزمة قيمٍ تخترق أوصالنا. الاحترام لم يعد بديهة، والكبار فقدوا هالتهم، والمؤسسة التعليمية أضحت أشبه بخرابة. الخطير أن التلميذ ليس وحشاً بذاته، بل هو ثمرة بيئة هجينة: أسرة منهزمة، مدرسة منهكة، شارعٍ بلا رقيب، وإعلامٍ يمجّد صراخ المتسلقين لا صوت الحكماء.

نحن لا نتحدث عن انحرافٍ فردي هنا، بل عن اختلال في هندسة الوعي الجمعي. عن جيلٍ تربى على الصراخ لا على الإصغاء، على التهكّم لا على التفهّم، على ثقافة الربح السريع لا على بناء الذات. جيلٌ يتلوّى بين هويّتين، ويُسحب من تديّنٍ شكلي إلى حداثة استهلاكية بلا جذور، فيصبح فارغاً من المعنى، متخمًا بالشكل.

ليست الأزمة هماً تربوياً فحسب، بل هي ارتعاشة مجتمعية عميقة تشقّ وعي الأجيال. وفي المغرب - الذي طالما نُعت بمجتمع التقى والورع - تكتسي الكارثة طعماً مراً خاصاً: جيلٌ يقدّس "الترند" ويستهين بالمعرفة، يعيش انفصاماً حضارياً لا هو بالشرق ولا بالغرب. لا يصلي بإيمان، ولا يحتفل بالحرية، بل يتأرجح بين طقوسٍ بلا روح، واستهلاكٍ بلا وعي، وسخريةٍ تقضم كل شيء.

ألم نكن بالأمس نردّد أن العائلة حصن القيم، والمدرسة منارة الفكر، والشارع رحم التنشئة؟ ها هي اليوم تتهاوى جميعاً تحت وطأة إعلامٍ هش، وفضاءات رقميةٍ متوحشة، وسياساتٍ عاجزة عن بثّ الأمل. لقد تحوّلنا من تربية الأبناء على "الخير" إلى تدريبهم على "النجاة"، نغرس فيهم دهاءَ الثعالب لا شرفَ البشر. الكل يعلّم الكل كيف يهرب، لا كيف يواجه. كيف يربح، لا كيف يكون إنساناً.

في هذه الغابة البشرية، لم يكن الراحل "محمد جسوس" مبالغاً حين حذّر: "إنهم يصنعون جيلاً من الضباع". ليست استعارةً بل تشريحاً دقيقاً: الضبع كائنٌ نباشٌ يتغذى على الجيف، يهجم في قطيع، ويقهقه عند الذبح. أليس هذا مرآة لجيلٍ تائه في العاصفة، بلا بوصلة أخلاقية ولا سردية جامعة؟ جيلٌ يهلّل للمؤثّر وينكّل بالمعلّم، يتابع خبيرة التجميل ويتجاهل المفكر، يُشارك شائعة ولا يقرأ دستوراً.

المؤلم أكثر أن هذا الانحدار يتم برعاية صامتة، وبقبولٍ مجتمعي بارد. لم تعد هناك صدمة. انطفأ الذهول. صار مشهد الطالب المتمرّد، والمدرّس المُهان، والسوق الأخلاقي المنهار، مجرد "محتوى قابل للمشاركة". صار السقوط مادةً للفرجة، لا محفزاً للقيام.

الكارثة أن الأزمة تجاوزت كونها ظاهرةً لتصير سياسةً صامتة: حين تهمّش المدرسة الفلسفةَ والفنون، وتتحول الامتحانات إلى سباقٍ للغش المشرعن، فإننا نخلق كائناتٍ بلا ضمير. وحين يكافأ الوصوليون ويُحاصر الملتزمون، يصبح الانهيار خياراً "عقلياً". تتسرب الرداءة إلى قلب المؤسسات، ويُشرعن التواطؤ مع الرداءة تحت مسمى "الواقعية". وهكذا، يتحوّل الفشل إلى نظام حياة، ويغدو النجاح النظيف حالة شاذة تُحاصَر بدلاً من أن تُحتفى.

ثم نأتي بعد كل هذا ونطالب القيم أن تبقى، نطلب من شجرة أن تثمر وقد قطعنا جذورها. أي عبث هذا؟

التاريخ شهد مجتمعاتٍ عبرت من تيهها بإصلاح ثقافي جريء. اليابان بعد الحرب، ألمانيا بعد النازية، رواندا بعد الإبادة… كلها أعادت بناء الإنسان أولاً، القيم قبل المؤسسات، الضمير قبل القوانين. أما نحن فنتخبط بين التبرير والإنكار. نرثي الأخلاق ثم نضحك على من يدعو لإحيائها. نشتكي من جيل "ماشي مربي" ثم نُصفّق لمن يهدم سلطة المربي.

السؤال المصيري: هل نختار إعادة بناء "إنسان" يحمل قيماً ومعنى، أم نستسلم لصناعة مستهلكٍ فارغ كالغلاف، لا يؤمن بشيء ولا يبني شيئاً؟ هل نُعيد المعنى للعلم، للمعلم، للكتاب، للوالد، للقانون… أم نترك الضباع تتناسل، وتملأ المكان؟

اللحظة حرجة: إما أن ننتشل القيمَ كعمودٍ فقري للحضارة، أو نستفيق يوماً على زئير الضباع يملأ الخراب. فالقيم ليست تراثاً غابراً، بل هي دم الحياة في شرايين الحاضر. وإن غفلنا اليوم، فلن نُورث الأجيال سوى عواء الضباع في صحراء بلا معنى.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سردٌ يُنصت لصوت الإنسان العربي بين جذور الماضي وتقلبات الحاض ...
- -شيء من بعيد نادني-: بين الهويّة المتجددة والاغتراب الوجودي
- -متتالية حياة-: نشيد الصبر في زمن الانكسارات الصغيرة
- حكايات الهدوء النبيل في زمن الاضطراب: تأملات الناصر التومي ف ...
- -الوقوف على عتبات الأمس-: كتابة ضد النسيان في زمن القطيعة
- -المتشابهون-: احتجاج ناعم على صمت الأجيال
- قراءة في -عيد ميلاد ميت- لأحمد طايل: حين يتحوّل الموت إلى طق ...
- حين يرقص التعليم على جراحه
- الوطن ككابوس وحلم: تأملات في تناقضات الرواية المغربية «الوطن ...
- حين انفجرت الدار البيضاء... واهتزّ قلب الوطن
- -الطلياني: عندما يصبح العقل آخر ملاذ للبقاء- ـ قراءة نقدية و ...
- الأستاذ... من القسم إلى تيك توك
- حين تُطل الحرب من نافذة كشمير: العالم على حافة الزر النووي
- الكيان الصهيوني: مشروع اغتصاب لا وطن
- الجابري... عقل لا يُنسى
- في حضرة صاحبة الجلالة
- شكراً بنكيران… لقد بلغت من الشعب مبلغ الميكروبات
- طنجة: مرآة الروح المكسورة - قراءة نقدية وتحليلية لرواية -الس ...
- ربة البيت: عاملة بلا أجر في وطن لا يعترف بها
- العيد الذي لا يخص أحدً


المزيد.....




- رجل يدّعي هروبه من سجن بأمريكا يتوسل لترامب ومشاهير لمساعدته ...
- خريطة توضح موقع -جسر القرم- الذي فجرته أوكرانيا.. ومدى أهميت ...
- التونسي هشام الميراوي... رجل -طيب سخي- راح ضحية جريمة عنصرية ...
- -نريد لقمة العيش بكرامة-.. فلسطينيون يتحدثون لـCNN بعد مقتل ...
- القصف الإسرائيلي يستهدف الأبراج السكنية في غزة | بي بي سي تق ...
- ما هي مراحل توسعة الحرم المكي عبر التاريخ؟
- أمين عام الناتو: مسألة انضمام أوكرانيا للحلف لا زالت مطروحة ...
- غزة: مقتل العشرات وإستهداف مستشفى في دير البلح والحصيلة الإج ...
- تركيا تثبت أقدامها في سوريا.. دعم للقوات الحكومية وانتشار طو ...
- الحكومة الإسرائيلية مهددة بالانهيار بسبب خلاف الخدمة العسكري ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الشهبي أحمد - الضباع تلتهم قيمنا