الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 00:43
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في فضاء الرواية العربية المعاصرة، يقف أحمد طايل كواحد من الأصوات التي استطاعت أن تبني مشروعاً روائياً متماسكاً، يتميز بشجاعة الكشف عن الوجع الاجتماعي والإنساني من خلال رؤية سردية تعكس تناقضات الواقع الذي نعيش فيه. يبدأ هذا المشروع من روايته المؤثرة "عيد ميلاد ميت"، التي يمكن اعتبارها حجر الأساس الذي أرسا عليه طايل أطر رؤيته الفنية والفكرية.
"عيد ميلاد ميت" ليست مجرد حكاية عن موت شخصية أو عن احتفال رمزي بميلاد من غادر الحياة، بل هي قراءة معمقة في الزمن الاجتماعي والنفسي داخل قرية مصرية تتهاوى تحت ثقل تقاليدها المتصلبة وتحت وطأة التحولات المتسارعة في المجتمع. تتجلى في هذه الرواية قدرة طايل على استثمار عنصر المكان – القرية – ليس كخلفية ثابتة، بل كشخصية حية تداخلت في أحداث الرواية، وصارت مرآةً تعكس صراعات السلطة، والهيمنة، والذاكرة الجماعية الممزقة. من خلال شخصية "الباشا"، يعكس طايل التوتر بين القديم والجديد، بين سلطة الماضي المستبدة والتطلعات المتعثرة للحاضر. وهذا الصراع ليس محصوراً في القرية وحدها، بل هو نموذج لما يعيشه المجتمع بأكمله، حيث تتقاطع أنين الفرد مع ضجيج التغيرات الاجتماعية والسياسية.
يتعامل طايل في هذه الرواية مع الموت كطقس يومي، لكنه طقس مملوء بالمرارة والاحتجاج الصامت على التغيرات التي لم تحمل تحرراً حقيقياً، بل أفرزت أشكالاً جديدة من العبودية الاجتماعية والثقافية. فنمط السرد المبني على الحداد المستمر، والانكسار العميق، يجعل من الرواية تجربة تأملية في الوجود، حيث يلتقي القارئ مع سؤالين مركزيين: كيف يعيش الإنسان تحت وطأة الماضي؟ وكيف يستعيد حريته في حاضر محاصر بالذكريات والأطلال؟
وبينما "عيد ميلاد ميت" ترسم لوحة قاتمة ومؤلمة للريف المصري، فإن روايات أحمد طايل الأخرى تأتي لتكمل الصورة، وتوسع من أفق مشروعه السردي.
في "شيء من بعيد ناداني"، يصعد أحمد طايل إلى مستويات أعمق في استكشاف الهوية والانتماء، حيث لا يقتصر السرد على تجربة فردية بحتة، بل يتسع ليشمل حالة إنسانية كلية تعيش على تقاطعات المكان والزمن والثقافة. ينتقل السرد بجرأة من فضاءات القرية الضيقة إلى عوالم المدن الكبرى، تلك المدن التي لا تعرف الحدود الثابتة، حيث تتلاقى ثقافات متعددة وتتصادم أنماط حياة مختلفة، مما يخلق خلفية خصبة لصراعات داخلية عميقة تدور في ذهن بطلة الرواية. في هذا العالم المعولم، لا يكون الانتماء مجرد ارتباط جغرافي أو اجتماعي، بل يصبح سؤالاً فلسفياً متجدداً يتطلب مواجهة مستمرة مع الذات، مع الآخر، ومع الصور المتعددة التي يُعاد إنتاجها عبر التجارب الحياتية.
تتحرك الرواية بين عوالم متداخلة، حيث الزمن لا يتبع خطاً خطياً وإنما يتردد بين ذكريات الماضي وتوقعات المستقبل، في تعبير واضح عن التشظي الذي تعيشه الذات في عالم يضج بالتغيرات المتسارعة. العلاقات المعقدة التي تبنيها البطلة مع المحيطين بها، سواء في علاقات إنسانية أو ثقافية، تعكس هذه الحيرة المستمرة بين رغبة الاندماج والتمايز، بين احتضان الاختلاف والتمسك بالذات الأصيلة. هذه الديناميكية المتقلبة بين الذات والآخر، بين القرب والبعد، بين الحضور والغياب، تضفي على النص عمقاً إنسانياً يجعله أكثر من مجرد قصة شخصية، بل شهادة على صراع العصر مع هويات متغيرة ومتعددة.
ينظر طايل إلى الرواية كفضاء لاستجواب التعددية الثقافية ليس فقط كحالة اجتماعية، بل كحالة وجدانية وجودية. إذ يتناول من خلالها كيف يمكن للإنسان أن يجد ذاته وسط تعدد الأصوات والثقافات، وكيف أن رحلة البحث عن الهوية ليست رحلة استقرار أو إجابات نهائية، بل هي حركة مستمرة من التأمل، والمراجعة، والتمرد على القوالب الثابتة. اللغة في الرواية تنبض بهذه الحركة؛ فهي تراوح بين الوضوح والرمزية، بين الحكي المباشر والانزياح التأملي، مما يمنح القارئ إحساساً بأنه يشارك في عملية بناء الهوية وليس مجرد متلقٍ سلبي.
"شيء من بعيد ناداني" ليست فقط رواية عن فتاة تبحث عن نفسها في عالم يزخر بالتعقيد والتناقض، بل هي تأمل في الإنسان المعاصر الذي يعيش على هامش التغيرات الثقافية والاجتماعية، يتردد بين القرب والبعد، بين الألفة والغربة، ليكتشف في هذه الرحلة أن الهوية ليست حقيقة جامدة، بل تجربة مستمرة تتطلب الشجاعة للمواجهة والتجديد الدائم.
أما في رواية "متتالية حياة"، ينطلق أحمد طايل في رحلة سردية معقدة تنسج بين ثناياها حياة أشخاص يتداخلون ويتشابكون كما لو كانوا حلقات في سلسلة لا تنقطع. لا يكتفي الكاتب بسرد قصة واحدة متكاملة، بل يفتح الباب أمام مجموعة من التجارب المتقاطعة، حيث تتشابك مصائر الشخصيات وأحداثها في نسيج سردي يتجاوز الحواجز الزمنية والمكانية، ليغوص في جوهر الوجود الإنساني. هنا، الزمن لا يسير في خط مستقيم، بل يتماوج بين الذكرى والواقع، بين الماضي والحاضر، فتتشابك اللحظات بطريقة تعكس تشظي التجربة الحياتية وتعقيدها.
في هذا الفضاء الروائي، يتوسع البعد النفسي ليأخذ حيزاً بارزاً، حيث ينقلنا طايل إلى أعماق الذات الإنسانية، لنعيش مع الشخصيات لحظات صراعها الداخلي مع المآسي اليومية التي تبدو أحياناً بلا مخرج. هذا الصراع لا يقتصر على مواجهة الظروف المحيطة فقط، بل يتعداها إلى مواجهة الأسئلة الوجودية الكبرى: ما معنى الحياة في ظل الألم؟ كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على تماسكه وسط السقوط المتكرر؟ كيف يستمر في البحث عن أمل وسط ظلال الخيبة؟ إن الرواية بذلك تتحول إلى دراسة إنسانية دقيقة تنقب في هشاشة الإنسان أمام قسوة الحياة، وفي الوقت ذاته في قدرته على الصمود والمثابرة.
تنسج الرواية شبكة معقدة من العلاقات بين الشخصيات، حيث الذكريات ليست مجرد خلفية سردية، بل هي عوامل فاعلة تعيد تشكيل الحاضر وتوجه المستقبل. الذكرى هنا تصبح جسراً يربط بين الأجيال، بين الحلم والواقع، وبين ما كان وما قد يكون. في هذه الشبكة، تتعانق الأمل واليأس، الفرح والحزن، لتؤكد أن الحياة ليست خطاً واحداً بل متاهة من اللحظات المتقلبة التي تحمل في طياتها تناقضات لا تنتهي.
رغم كل المآسي، تبقى الرواية تنطق بأمل خافت ولكنه ثابت، أمل ينبع من قدرة الإنسان على التجديد، من إيمانه بأن التتابع في الحياة يحمل في طياته فرصاً جديدة للنمو والتحول. فـ"متتالية حياة" ليست مجرد سرد لأحداث متوالية، بل هي تأمل في حالة الإنسان المعاصر، الذي يعيش متشابكاً مع الماضي والحاضر والمستقبل، ويجد في هذا التشابك ذاته قوة دافعة للاستمرار رغم كل ما يحف به من صعوبات.
في "وقوف على عتبات الأمس"، يأخذنا أحمد طايل في رحلة عميقة إلى أعماق الماضي، حيث يتشابك الحنين والمرارة في نسيج سردي غني، يعكس محاولات متواصلة لفهم كيف تشكل الجذور العائلية والتاريخية حاضر الإنسان وهويته. ليس الماضي هنا مجرد زمن ماضٍ بعيد، بل هو حاضر حيّ يطغى على تفاصيل الحياة اليومية، ويُشكّل دائرة تأثير لا تنفك تربط بين الأجيال. من خلال إعادة قراءة هذه الذكريات، تكشف الرواية عن توترات العائلة الصغيرة التي تصبح صورة مصغرة للمجتمع بأكمله، حيث تتجلى الصراعات الاجتماعية، والتناقضات الثقافية، والتحولات الاقتصادية والسياسية في تفاصيل الحياة العائلية، فتظهر العائلة كنموذج يعكس التحديات الوجودية التي يواجهها الفرد في المجتمع.
بشكل خاص، ترصد الرواية كيف يمكن أن يتحول الماضي إلى عبء ثقيل يثقل كاهل الحاضر، لكنه في الوقت نفسه منبع لا ينضب للحياة، للأمل، وللتمسك بالجذور. ذلك التوتر بين الانتماء والتمرد، بين الخضوع والتمسك، يظهر جلياً في العلاقات التي تربط بين أفراد العائلة، حيث تتصارع الذكريات والتجارب، وتتشابك الحكايات الشخصية مع الروايات الجماعية. هذا التداخل يجعل من الرواية أكثر من مجرد سرد تاريخي أو عائلي، بل هو فضاء تأملي يطرح أسئلة جوهرية عن طبيعة الهوية وعلاقتها بالذاكرة.
من الناحية الأدبية، يعكس هذا العمل انسجاماً واضحاً مع تقاليد الرواية العربية الكلاسيكية، خاصة في بناء الشخصيات واهتمامها بالقضايا الاجتماعية والسياسية، لكنه لا يتخلى عن لمسة الحداثة التي تظهر في بنية السرد وتقنياته. فالسرد لا يسير في خط مستقيم، بل يتلوى بين فصول زمنية مختلفة، بين ذكريات متقطعة ولحظات حاضرة، مما يعكس حساسية طايل للتغيرات الزمنية وكيفية تأثيرها على النفس البشرية. اللغة هنا تتسم بالرقة والعمق، تجمع بين الحكي الواقعي والأسلوب التأملي، فتخلق جواً من الحميمية والتوتر الذي يحفز القارئ على الغوص أكثر في تفاصيل النص.
"وقوف على عتبات الأمس" ليست مجرد رواية عن الماضي أو الحنين، بل هي استدعاء حيوي للذاكرة كجزء لا يتجزأ من تكوين الإنسان وهويته. إنها تذكير بأن فهم الحاضر لا يمكن أن يتم إلا بالعودة إلى جذورنا، بفهم تاريخنا الشخصي والاجتماعي، وباستيعاب كيف أن الماضي، بكل ما يحمله من ألم وأمل، يشكل الأساس الذي نبني عليه حاضرنا ومستقبلنا.
تتميز كتابات أحمد طايل بوعي اجتماعي حاد لا يغفل أدق تفاصيل المآزق التي يعانيها الإنسان العربي المعاصر، ذلك الإنسان المحاصر بين صلابة التقاليد التي تفرض قيوداً خانقة، وبين متغيرات الزمن المتسارعة التي تزعزع أركان حياته وهويته. هذا الصراع العميق والمتواصل يجعل من طايل أحد أهم الأصوات في الرواية العربية المعاصرة، حيث يتموضع في قلب الحراك الأدبي الذي يسعى لالتقاط خيوط الواقع المركب، فهمه وتحليله بدقة من دون أي محاولة للهروب أو التبسيط. ما يميز مشروعه الأدبي هو تلك الجرأة في المواجهة، فهو لا يتراجع أمام طرح الأسئلة الكبرى التي تثيرها الحياة ولا يقدم حلولاً سهلة أو وصفات جاهزة، بل يختار أن يكون مرآة مكشوفة للجراح والآلام، مدفوعاً برغبة عميقة في دفع القارئ إلى رحلة فكرية وجدانية تعيد النظر في مفاهيم الحرية، والهوية، والذاكرة.
في نصوصه، تصبح اللغة أكثر من مجرد أداة نقل سردية، بل تتجسد كفعل مقاومة ذاتية ضد كل أشكال القهر والتهميش. لغة طايل حية، تنبض بالعاطفة والتمرد، تحيط بها نغمات متباينة تجمع بين تقليدية مرهفة وحس حديث نابض، فتخلق توليفة تجعل أعماله تبدو متجددة باستمرار، غنية بالطبقات التي تتداخل فيها الأفكار، والمشاعر، والتجارب الإنسانية. هذه اللغة المشحونة تنقل القارئ إلى عوالم متعددة الأبعاد، حيث يصبح السرد فضاءً للتجريب والتعبير العميق.
من الناحية التقنية، يتقن طايل استخدام الرموز المتكررة التي تكسر الحواجز بين القارئ والنص، فتفتح أمامه آفاقاً غير محدودة من التأويل والتأمل. تلاعبه بالزمن ليس مجرد أسلوب سردي، بل هو تعبير عن طبيعة الوعي الإنساني المتشظي الذي لا يعيش الوقت بخطية مستقيمة، بل بتداخلات وارتدادات تكشف عن تشابكات الماضي بالحاضر، وعن كيف يستمر الماضي في تشكيل الحاضر والمستقبل. أما المزج بين الواقع والخيال في رواياته، فيمنح النص أبعاداً إضافية من العمق، حيث يختلط الملموس باللاملموس، ويتحول الواقع إلى مساحة للإبداع والتأويل، والخيال إلى مرآة تعكس الحقيقة المرّة للحياة اليومية.
بهذا الأسلوب، لا يكتفي أحمد طايل بسرد قصص، بل يخلق عوالم سردية تثير الفكر وتحرك المشاعر، تفتح أبواب الحواس والعقل معاً، لتصبح كل رواية بمثابة تجربة وجودية متكاملة، تضع القارئ في مواجهة حية مع أسئلة وجوده، مع آلام مجتمعه، ومع أحلامه غير المحققة. هذا الوعي والاحترافية في الصياغة تجعل من كتاباته إسهاماً مهماً في النسيج الثقافي العربي، وتجعل منه صوتاً لا يُستهان به في البحث عن الحقيقة في زمن يضج بالتغيرات والتحديات.
في نهاية المطاف، يمكن النظر إلى مشروع أحمد طايل الروائي كتجربة فريدة ومتميزة تستحق الوقوف عندها بتأمل عميق ودراسة مستفيضة، لما يقدمه من نموذج سردي مبدع قادر على احتواء الواقع العربي بكل ما يحويه من تناقضات وتعقيدات. لا يقتصر طايل على مجرد وصف الحياة أو رصد الأحداث، بل يحوّل هذا الواقع المليء بالصراعات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية إلى نصوص أدبية تحمل في طياتها صوت الإنسان العادي، ذلك الصوت الذي يعبر عن همومه، وآلامه، وأحلامه وسط دوامة التغيرات المتلاحقة التي تفرضها الحياة المعاصرة.
مشروع طايل ليس مجرد سرد لحكايات فردية أو محلية، بل هو استثمار ذكي وعميق في الرواية كفضاء رحب للتعبير عن القلق الوجودي الذي يرافق الإنسان في بحثه الدائم عن ذاته، عن مكانه في العالم، وعن معنى وجوده وسط ضجيج الحياة وتعقيداتها. تتداخل في أعماله سرديات متشابكة تتراوح بين لحظات الحزن الثقيل والأمل المتجدد، بين ثقل الماضي وتأرجح الحاضر، وبين الصراع الفردي والتوترات المجتمعية، فتخلق بذلك نصوصاً غنية بالمعاني وبعواطف معقدة.
إن مشروعه الروائي يفتح نوافذ متعددة على تجربة الإنسان العربي، في ظل التحولات التي تعصف بالمجتمعات، حيث تصبح الرواية ليست فقط مكاناً لسرد القصص، بل منصة لطرح الأسئلة الكبرى، ولتسجيل نبض الواقع بأبعاده النفسية والاجتماعية والفلسفية. وبذلك، ينجح طايل في صناعة خطاب سردي متماسك ومؤثر، ينقل القارئ إلى عالم يتقاطع فيه المأساوي مع الجميل، ويواجه فيه الإنسان مصيره بشجاعة رغم كل العقبات، مما يجعل من أعماله إضافة نوعية إلى الأدب العربي الحديث.
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟