أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الشهبي أحمد - بوجلود بين الذاكرة والتشويه














المزيد.....

بوجلود بين الذاكرة والتشويه


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8369 - 2025 / 6 / 10 - 04:52
المحور: قضايا ثقافية
    


كنت دائمًا أظن أن "بوجلود" مجرد طقس غريب ابتدعه بعض الشباب من باب العبث في الأزقة بعد عيد الأضحى. كنت أراه عرضًا طائشًا يُمارَس في الهامش ويُسَجّل بهواتف المارّة كنوع من الفكاهة المؤقتة، ولا يخطر في بالي لحظة أنه ظاهرة ضاربة في التاريخ، متجذرة في وجدان ثقافة عريقة. لم أكن أعرف أنه من بقايا تقاليد أمازيغية ضاربة في القدم، كانت ترتبط بمفاهيم أعمق بكثير من جلد الكبش والركض خلف الأطفال. ولكن حين شرعت في البحث، مدفوعًا بفضول شخصي، وجدت نفسي أمام ظاهرة ذات دلالات مركّبة، تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ"الرمزية الشعبية المهملة"، التي لطالما لعبت دورًا في تهذيب الذاكرة الجماعية وتنفيس مكبوتاتها.

تاريخيًا، لم يكن "بوجلود" مُجرّد راقص متخفي خلف جلود الحيوانات، بل كان يحمل في طياته بقايا أساطير رعوية قديمة، تعيد الاعتبار للحيوان بعد ذبحه، وتمنح الجسد البشري فرصة للتحرر المؤقت من النظام عبر التقمّص والعبث. في العمق، كانت طقوس بوجلود نوعًا من الرقص مع الموت، استرجاعًا لحيوية ما بعد الدم، وتنفيسًا اجتماعيًا يسمح بإعادة التوازن النفسي بعد شعائر العيد، عبر الضحك، والمطاردة، والفوضى المؤطرة بتقاليد عرفية.

لكن اليوم، ونحن نعيد النظر في هذا الطقس، لا بد من الاعتراف بأن "بوجلود" قد تغيّر. لم يتغير فقط في نظرة الناس إليه، بل في جوهر ممارسته. ففي عدد من المدن والقرى، لم يعد الشخص الذي يرتدي الجلود يخرج وفق تقاليد واضحة أو محكومة بقواعد رمزية محلية، بل تحول غالبًا إلى متنكر مجهول الهوية، يخرج وسط الفوضى، وقد يتحول من حامل لرمز إلى مصدر تحرش أو ترويع حقيقي. كثير من الممارسات خرجت عن طابعها التقليدي، وتحولت إلى انزلاقات أخلاقية وسلوكية مقلقة: مراهقون يتحرشون بالنساء تحت ذريعة "التنكّر"، آخرون يتخذونه فرصة لتصريف عنف دفين أو تسوّل مقنّع، أو حتى مظهر استعراضي تلتقطه الهواتف ويُضحك "السوشل ميديا".

ملابس بوجلود نفسها لم تعد تلك الجلود التي تنبعث منها رائحة الذبيحة، بل أزياء غريبة هجينة، ممزوجة أحيانًا بأقنعة مستوردة من ثقافات لا علاقة لها بالسياق، وكأننا أمام نسخة مشوّهة من "الهالوين"، لا تحفظ من التراث سوى الاسم. لقد فرّغت هذه التحولات الطقس من محتواه، وبات أقرب إلى تقليد فارغ أو سلوك فردي مفصول عن جذوره الجماعية.

المؤلم أن هذا الانحراف لا يواجه فقط بالردع أو التوجيه، بل يُستغل أحيانًا في صناعة الفرجة أو النكثة أو الإثارة الرقمية، دون وعي جماعي بحجم الخسارة الثقافية التي نتكبدها حين نُفرّغ رموزنا من سياقها. الدولة، من جهتها، تكتفي بالمنع أو الترخيص المشروط، دون الدخول في جوهر المسألة: كيف نحمي الذاكرة من التشويه، لا من الممارسة فقط؟ والمجتمع نفسه، الذي فقد تواصله مع أساطيره، صار إما رافضًا لما لا يفهم، أو ساخرًا مما لا يستطيع استيعابه.

بوجلود كان ينتمي إلى ثقافة تصالحية مع الجسد والفرح والخوف والرمز. أما الآن، فقد أصبح يتأرجح بين العشوائية والتفاهة. لم يعد يُمارَس في ظل رقابة عرفية أو احترام لحدود الطقس، بل بات يتحول في أحيان كثيرة إلى أداة إزعاج، بل وإهانة للمرأة تحت غطاء "اللعب"، ووسيلة للتسول العنيف، أو حتى للتمويه في ارتكاب السلوكات الخارجة عن القانون.

وكل هذا لا يعني أن الأصل كان مثاليًا أو طهرانيًا، بل فقط أنه كان مؤطرًا، مفهومًا، جزءًا من منظومة تراثية لها رموزها، توقيتها، شخصياتها المحترمة، وحدودها المعروفة. حين نفقد هذا التأطير، ونُبقي فقط على القشرة، تتحول الطقوس إلى كاريكاتير.

الأسئلة التي تطرح نفسها الآن ليست عن ضرورة المنع أو السماح، بل عن الكيفية: كيف نحفظ ما تبقى من ذاكرتنا الجماعية دون أن نحولها إلى مجرد فرجة أو تهريج؟ كيف نعيد لبوجلود معناه دون أن نتركه فريسة بين الابتذال والمنع؟ وكيف نقنع الأجيال الجديدة بأن هذا الطقس لم يكن مجرد مطاردة مراهقين للنساء أو طلب نقود بطريقة مضحكة، بل كان – يومًا ما – جسدًا رمزيًا لحكاية مجتمعية كاملة عن الإنسان والحيوان والمقدّس واللعب والحذر؟

بوجلود ليس ظاهرة معزولة. هو عرض لحالة أعمق: علاقتنا المأزومة بتراثنا، ومحاولتنا المستمرة لإما دفنه باسم التحديث، أو تشويهه باسم "الإحياء". وما بين هذا وذاك، تضيع الحكاية.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مديونية المغرب: حين يتحوّل الدين إلى أسلوب حياة
- بين رصاص الحدود وظلال الوطن: مأساة العودة في قلب التوتر المغ ...
- مقبرة الصمت: لماذا تخشى الأمم المريضة أصوات المهرطقين؟
- من سيقود المغرب؟ سباق الأحزاب نحو حكومة ما بعد الإحباط
- ابن كيران: سياسة -الزواق- بخطاب -بلا نفاق-
- سبعة دراهم لفنجان قهوة... والقدرة الشرائية في غرفة الإنعاش
- الضباع تلتهم قيمنا
- سردٌ يُنصت لصوت الإنسان العربي بين جذور الماضي وتقلبات الحاض ...
- -شيء من بعيد نادني-: بين الهويّة المتجددة والاغتراب الوجودي
- -متتالية حياة-: نشيد الصبر في زمن الانكسارات الصغيرة
- حكايات الهدوء النبيل في زمن الاضطراب: تأملات الناصر التومي ف ...
- -الوقوف على عتبات الأمس-: كتابة ضد النسيان في زمن القطيعة
- -المتشابهون-: احتجاج ناعم على صمت الأجيال
- قراءة في -عيد ميلاد ميت- لأحمد طايل: حين يتحوّل الموت إلى طق ...
- حين يرقص التعليم على جراحه
- الوطن ككابوس وحلم: تأملات في تناقضات الرواية المغربية «الوطن ...
- حين انفجرت الدار البيضاء... واهتزّ قلب الوطن
- -الطلياني: عندما يصبح العقل آخر ملاذ للبقاء- ـ قراءة نقدية و ...
- الأستاذ... من القسم إلى تيك توك
- حين تُطل الحرب من نافذة كشمير: العالم على حافة الزر النووي


المزيد.....




- غزة.. سقوط قتلى جدد عند محاولتهم الوصول إلى مواقع توزيع المس ...
- إسرائيل تقصف ميناء الحديدة اليمني من جديد
- بروكسل تحذف الإمارات من القائمة المالية السوداء وتضيف لبنان ...
- 36 مليون مشاهدة لفيديو -عندما لا ترغبين في تسليم التاج- لملك ...
- تقرير بريطاني يشيد بـ-قوة الدبلوماسية المصرية-
- وزير الدفاع الأمريكي: واشنطن ستخفض كمية الأموال المخصصة لشرا ...
- علامات مقلقة لأمراض الكبد
- الوزن المثالي للحصول على ملامح أكثر جاذبية
- -المونيتور-: قلق أمريكي من محاولة اغتيال الرئيس السوري أحمد ...
- ترامب ينتقد -تشدد- إيران ومسؤول رفيع يعرض خطة للتعامل عسكريا ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - الشهبي أحمد - بوجلود بين الذاكرة والتشويه